للمدينة جمالية لا تنفصل عن كيانها السياسي والاجتماعي. جمالية تشكّل وجهها الثقافي الأبرز. ومن صفات المدن الفاضلة عبر التاريخ أنها جميلة. وتفيد جماليات المدن الاستطيقا الحضرية esthétique urbaine باعتبارها عملية تطبيق المعايير الوظيفية والجمالية المطلوبة لتصميم المدينة ومكوّناتها.
منذ العصور الحديثة على الأقل، باتت جمالية المدينة فكرة يُخطّط لها المسؤولون وصناع القرار، ومشروع يُنجزه الفنانون والمصممون وتتظافر جهود المهندسين المعماريين وخبراء البستنة والتزيين والزخرفة في تجسيده على أرض الواقع. ومناظر وفضاءات تنشأ خصيصا للمواطن، يتوجب عليه بدوره أن يرعاها ويحافظ عليها. فهل في واقعنا ما يشير و يوحي أن لمدننا جمالية ما، كما هي ملاحظة في مدن أخرى العالم؟ أو هل تحظى بجمالية معينة؟ وهل يمكن الحديث عن جمالية حضرية في المدن الجديدة؟ أقصد في المدن التي باشرت السلطات منذ سنوات في إنجازها. وفيما تتمثل إن وجدت؟ كأهداف ومشاريع ومؤسسات إنجاز وأدوات وإطارات مؤهلة للقيام بذلك. لا تطرح جمالية المدينة سؤال المدينة والمحيط إنما مكانة الطبيعة وحضورها في الفضاء الحضري (بما فيها النبات والحيوان، الهواء، الضوء وجميع عناصر الطبيعة التي تؤثث نظرتنا للجمال).
ليست المدن تجميعا لبيوتات وسكنات تؤدي وظيفة وتلبي حاجة الإنسان للسكن ولكنها أيضا إلى جانب كونها بنايات تحقق غاية التساكن بين الأفراد والأسر والجماعة؛ فإنها كذلك من خلال تصميمها وتخطيطها تسعى لتحقيق أيضا حاجة الأمن والسلامة.
علاوة على هذه الحاجات الضرورية، تحقق جمالية المدينة غايات لا تقل أهمية في حياة الفرد والمجتمع ولا تستبعد منها مدينة على مر العصور وأقصد بها الأبعاد الجمالية، أبعاد تتجاوز حاجة الفرد الخاصة والتي قد يتدبر أمره بشأنها في بيته أو محيطه الخاص إنما هي أبعاد جماعية تمثل فضاء عموميا. ولذا فهي تحظى بمكانة رفيعة يكون فيها اللقاء والتواصل الاجتماعي والفرجة، وهي فضاءات تؤثثها الفنون وتكرّس تقنياتها لخلق جمالية مشتركة بين أفراد المجتمع ونلقى فيها المسرح والمتحف وقاعة السينما والمكتبة والملاعب وغيرها من الفضاءات التي يتفاعل معها الحس الجمعي فنيا وجماليا.
تحت طائلة الحاجة السكنية نسرع في بناء المدن لتلبية الحاجة والطلب على حساب جمالية المكان والمدينة. إن من يتجول في مختلف مدننا سيقف على هذه المعاينة المفجعة والنتيجة البائسة التي تعيشها مدننا والتي لا تخطئها العين. سيلاحظ المعاين لواقع مُدننا أننا لم نحافظ على علاقة الفرد بالمكان الطبيعي ولم نُوفر له ما يشبع حاجته الجمالية. والمحصلة “ما أبشعها من مدن تبنى على عجل!” كما قالت الكاتبة اللبنانية مي غصوب وكما حدث ويحدث لكثير من مدننا اليوم.
إننا نبني مدنا مُركبة من أكوام الإسمنت، وفي ظننا أننا حققنا بذلك إنجازا عظيما ننفرد به ونتباهى به أمام العالم، متناسين أننا ضاعفنا من اغتراب الفرد عن بيئته، ولم نقدم له ما يشبع نهمه الجمالي حينما وضعناه في أقفاص كعصفور جريح مدجن، ليس لديه أي شعور بأن الكتلة الاسمنتية هي بيته الحقيقي. ولذا فلا نستغرب إن وجدناه ينقلب على مسكنه منتقما من حيّه ومهدما مخربا لبيئته (من دون أن يكون هذا تبريرا بما يقوم به من مسخ وتشويه وتخريب). ودون أن تسائل السُلط المشرفة على ذلك. هل أثارت عبر منجزها في نفس المواطن حساسية بالجمال أم قتلتها بداخله؟
إثارة الجميل
يكاد يجمع فلاسفة الفن والاستطيقا أن الجمال إحساس. وهذا الإحساس هو ما يجعله ضمن القيم الانفعالية، فهو وإن كان صفة ترى في الأشياء وتقع على المعاني، إلا أنها بحاجة كذلك إلى تثمين وتقدير، أو بمعنى آخر إلى إثارة كي يزداد تجلّيها. يدرك الفنان هذا الفعل في التثمين بشكل أكبر وأفضل، الفنان ككاشف وباعث ومضاعف للجمال، الذي بفضل حسه وذوقه الفني المرهف يقوم بتحويل الخام إلى عمل فني لا يخطئه إحساس المتّلقي. فمثلما تكون معروضة خامات الطبيعة بموادها المتنوّعة وألوانها العديدة المبعثرة دون وجهة جمالية؛ يجتهد الفنان بنظرته على تنسيق وانسجام عناصر عمله، ليبعث فيه إشعاعات جمالية يتلقاها ويتجاوب معها المتلّقي، مُبديًا انفعاله الإيجابي بالجميل. لذا تعمل الفنون على إثارة استطيقية لذائقة الإنسان، وتسعى إلى إضفاء بعد جمعي لها عبر إخراجها إلى الفضاء العام، ومنها تهيئة الساحات والحدائق والفضاءات التي تضم مختلف الأعمال الفنية من نحت ورسومات، فضلا عن هندسة المكان وتجميله وإعداد ما هو طبيعي فيه أو إضافة طبيعة ثانية، لأجل إعطائه مسحة أكثر جمالية وفق الثقافة الاجتماعية السائدة. لذا تختلف ثقافة البستنة وإنشائها وتزيينها من مجتمع إلى آخر. وتزدان بما يبدعه الفنانون وينتجونه من أعمال فنية والتي منها التماثيل.
في المقابل لهذا المجهود الفني والجمالي، لماذا يستنكف البعض من الجمال المثار ولا يستحسوننه متذّرعين بحجج شتّى؟ ألا يعلم هؤلاء أن المدينة التي تخلو من مظاهر جمالية وفنية لا تصلح إلا للنوم والموت؟ في الوقت الذي يجب أن تعني بداية الحياة واستمرارها. ألا يدرك هذا البعض: أن المدينة إذا اكتفت بوظيفة النوم لساكنيها وحرمتهم من بهجة الحياة، وتحولت عماراتها وبناياتها إلى كتل إسمنتية ومادية من دون روح ستكون شوراعها وفضاءاتها، عرضة لكل الآفات من عنف وجرائم وعلاقات اجتماعية متوترة تستحيل وتنعدم فيها ومعها الحياة المرجوة؟
ضمن هذا السياق، لم تكن حادثة التهجم على تماثيل في أمكنة كثيرة وقائع معزولة، إنما تنم عن ثقافة مضادة للجمالية بحجة معاداتها للقيم والأعراف، مع العلم أنها تصرفات فردية لا يستشار فيها المواطن، إن كان مع أو ضد سواء في وضع أو رفض مثل هكذا منحوتات أو تماثيل أو زخارف قد تصبح في يوم من الأيام من تراث المدينة وعلامة سياحية لها.
تتكرر هذه الحوادث وتكررت في أكثر من موقع ولا نخال أنها أفعال منفردة تبقى حبيسة فاعليها ولكنها تنم عن ذهنية شاعت بل هناك من يعمل على إشاعتها وسط المجتمع، سأذكر منها 3 حالات:
في مدخل معهد العلوم الاجتماعية بجنان الزيتون (قسنطينة) تمثالان متواجدان بالمدخل قام أحد أعوان الحراسة بإخفائهما ووضعهما تحت السلالم. مع العلم أنهما ظلا موجودين بمكانهما منذ أن فتحت المؤسسة أبوابها وكانت في الأصل معهدا للتكوين الإداري قبل أن تتحول إلى فرع للمدرسة الوطنية للإدارة ثم تنتقل للجامعة في بداية تسعينيات القرن الماضي.
في مدخل نادي الفروسية بقسنطينة تمثال كبير من الرخام يجسّد امرأة تناهى إلى سمعي في أكثر من مرة من رواد المركز أنهم يريدون تحويله من مكانه أو تغطيته والحجة دائما هي نفسها المستقاة من ثقافة معادية لكل ما هو ذوق فني وجمالي.
واقعة تمثال عين الفوارة في مدينة سطيف، التي أبانت عن حقد وسخط آخر نما في أوساط مجتمع، حول معه أفراده جام غضبهم وما يعانونه من مشاكل صوب أمور ينشغلون بها وعبرها ينفسون من توترهم، وكأنهم بذلك قد انتقموا لأنفسهم من سلطة يتهمونها بالتقصير في إيجاد الحلول لمشكلاتهم.
إن المتأمل في هذه الأحداث سيقف لا محالة عن خلفية أخرى كامنة وراء هكذا تصرفات، خلفية تربى ونشأ في حضنها التلميذ/الفرد المناهض لكل ذائقة فنية، وهو فرد يعيش بخطاب ازدواجي يغلب فيه جانب الظل على العلني، إلى حد أنه نقل الأول إلى الثاني. وبالتالي، توشك كل المنظومة التربوية أن تقع ضحية لخطاب الظل وتمرر معه رسائله المدمرة لكل تربية فنية وذوقية.
لم بكن الإنسان يوما في تخطيطه لمسكنه أو محيطه يكتفي بمجرد توفير الضروري من السكن دون الالتفات إلى الجانب الفني والجمالي؛ الذي لم يأت متأخرا عن الحاجة الأساسية بل إن توفير السكن كان من البداية متزامنا مع إنجاز ذلك بفن أو فنون تماما كما بينت أثار المدن القديمة: أن الجانب الجمالي كان له نصيب وافر في تصور وتفكير مُنشِىء المدن وتجلى ذلك بوضوح في الانسجام والاتساق الذي طبع تلك المدن. وباختصار، فإن الجمالية الحضرية تهدف إلى خلق بيئات صديقة للإنسان، بيئات توفر له أجواء الراحة والتفاؤل، بيئات تتيح له مناظر من الطبيعة ومن غيرها، من الشوارع الواسعة والأسواق المفعمة بالحيوية والتي تتيح له متع التسوق ومراكز الأنشطة المختلفة للتعلم والرياضة والترفيه والأمن هذا فضلا عن توفير الساحات العمومية والمنتزهات والحظائر والدروب والجذابة وأماكن اللعب وفضاءات ومعارض الفنون.
التنميط الجمالي
شاع في السنوات الأخيرة تنميط سياسة تصميم وتخطيط وتنفيذ المدن، لا سيما ما عُرف منها بالمدن الجديدة أو سياسة المدن، وفيها يتم تصوّر شكل معين لتوسع مدينة ما وكيفية بنائها وطريقة تسييرها أو أحيانا يكون هذا الأمر خاصا بمدن موجودة فيتم تهيئتها أو إعادة تهيئتها حضريا.
ضمن هذه الاستراتيجية يتحدد شكل هذه التهيئة بناء على مكتب دراسات توكل له مهمة التهيئة ويسند تنفيذها إلى مؤسسات في الغالب تكون مؤسسات شبانية خاصة أو مؤسسات تابعة لمصالح البلدية أو الولاية تعمل على تزيين المحيط والتشجير وتهيئة المساحات الخضراء.
هنا يمكن أن نسأل هل تعمل هذه المؤسسات وفق دفتر شروط وصيانة؟ وتفرض عليها الجهة الوصية تصميما معينا أم أنها تترك لها الأمر في اقتراح أو اقتراحات من عندها؟ ثم تختار ما يعجبها أو يناسبها حسب برنامجها العام وميزانيتها.
ولنا أن نسأل هل لهذه المؤسسات خبرة وتجربة في مجال التهيئة العمرانية والزخرفة أم أنها تعمد إلى تجريب قد تراه مناسبا وفق نظرة لا تستوفي شروط الجمالية وينتقدها الساكنة صباحا مساء؟ فلماذا لا تعمد هذه المؤسسات ـــ كما يجري ذلك في دول أخرى ـــ تشرك المواطن في عملية التهيئة وتجميل المحيط بأن تستشيره في نوع الأشجار التي يحبذها أو النباتات والزهور وبالتالي تدفعه إلى حمايتها بنفسه لأنها من اختياره وهي من صميم العمل الديمقراطي التشاركي.
خلافا لهذا التوجه المحبذ، يلاحظ أن المبادرات التي تقوم بها سلطة المدينة تتجه إلى فرض نمط معين من تزيين المحيط وزخرفته وهو في الغالب نموذج يتكرر في كل الأحياء ومع تكراره يقتل كل ذائقة فنية بل إنه يعدم المسحة الجمالية التي هي دوما رديفة للتميز والإبداع. فالتنميط المذكور في بيئتنا لم يعد مفروضا محليا فحسب بل إنه سرى على كل جهات الوطن وهكذا فقد باتت الكثير من المؤسسات تنشأ بهندسة معمارية سواء في الشمال أو الجنوب دونما مراعاة لأدنى ظروف المناخ من حرارة ورطوبة وضوء واستخدام لمواد بناء لا تتلاءم مع كل منطقة بل وحتى تنميط عميات التحسين والتجميل التي تتبع البناء علما أن لكل جهة خصوصيتها الطبيعية التي يجب أخذها بعين الاعتبار.
إن فعل التنميط الجمالي لم يمس خارج البيوت في الشوارع والفضاءات العامة بل امتد أيضا إلى داخل البيوت أين باتت هذه الأخيرة أغلبها تتزيّن بالأثاث ذاته في كل بيت ومن فرط اقتناء الأشياء نفسها وتداولها في كل مكان حتى أضحى كل بيت نسخة من البيت الآخر، وجل الديكور هو نفسه المقتنى في كل بيت تماما كزهور البلاستيك التي نجدها منتشرة عبر أرجاء منازلنا مشكلة نمطا جماليا واحدا موحدا نفتقد معه كل إحساس بالجمال.
فأي جمالية نريد لمدننا في ظل “ثقافة القطيع” فنيا؟ وأي علاقة للفرد عندنا بمحيطه، بمدينته، وبجمالية الطبيعة بشكل عام؟
لا نذهب بعيدا في البحث عن الجواب في صيغة سؤال آخر: كيف يمكن لإنسان إذا انفصل عن الطبيعة ولم يعد يرى نفسه جزءً من منها أن يحمل عنها نظرة جمالية؟ وكيف يسعى من ثم إلى تلمس في جوانبها مواصفات الجمال التي تضفي على حياته طابعا مميزا وقيمة فنية أخرى؟ بل كيف لمن يفقد الشعور بانتمائه لمدينته أن يظل متمتعا بجمالية معينة لذاته ولمدينته ولوطنه؟
للمقال مراجع
عن مجلة “فواصل”- العدد 5