يحق لي بعد ما يقرب من أربعة عقود ونصف من الرحلة مع الحياة الجامعية تدريسا وبحثا وإشرافا وإدارة ونشاطات ثقافية أو أكاديمية ان أتحدث عن العلاقات الاجتماعية في الجامعات العربية التي خبرتها شرقا وغربا من وطننا العربي الحزين.
لعل العلاقة بين الطالب والأستاذ هي الأكثف في شبكة العلاقات الجامعية، تليها علاقات الزملاء ثم الإداريين، وتبدو المشكلة الأولى في العلاقة بين الطالب والأستاذ، لاسيما في مجتمعنا العربي في صورة الأستاذ في ذهن الطالب والتي تنطوي على بعض «التهيب» الحقيقي أحيانا والمفتعل أحايين أخرى، فالطالب يتوهم أن الأستاذ لا تفوته فائتة من العلم الذي يدرسه (رغم أن بعض الأساتذة يسرق بحوث الطلبة ليحولها لبحوث يترقى عليها).. كما أن الطالب يفترض في أستاذه الصرامة والجدية في علاقاته الاجتماعية فيخلط بين المعسكر والجامعة، وأتذكر في أحد المرات أنني «بُهِتتُ» عندما رأيت أستاذي بطرس غالي يرقص في حفلة بعد استراحة من عناء مؤتمر علمي كنت أنا وإياه من ضمن المشاركين ببحوثنا... فشجعني ذلك على مشاركته التمايل والتلوي»، وشعرت أن على الأستاذ ان ينفض غبار الأكاديمية بين الحين والآخر، وان يطوي الصورة المفتعلة له في ذهن مجتمعه، وعليه فقد أضاف بطرس غالي درسا جديدا لي.
ولكني اعترف أنني في الجانب الاجتماعي والعلاقات مع الطلبة (ذكورا وإناثا) لي ثلاث شخصيات، واحدة فيها من الجلافة – ولا أقول الجدية - ما يكفي لأن يتردد الطالب حتى في طرح الأسئلة عليّ مع اني لا أتذكر انني أسأت بقصد لأي طالب ولم أكن استخدم اية ألفاظ نابية معهم، وهذه الشخصية كانت في القاعة التدريسية وفي العلامات فقط. والشخصية الثانية في المكتب وبعضهم كان يقول لي «أو تقول لي» أنك في المكتب شخص مختلف عن القاعة... تضحك، وتتحدث عن نفسك او حياتك او تناقشنا في شؤوننا الخاصة وتلقي الطرائف علينا... والشخصية الثالثة الميل للعزلة عن عالم الطلاب بل والزملاء، وكنت استغرب عندما يرافقني احيانا -وهي قليلة- طالب أو طالبة مع نهاية الدوام في السيارة الى عمان او من عمان الى اليرموك، بخاصة اذا كان الوقت مبكرا جدا او متأخرا لا سيما من طلاب الدراسات العليا. وأتذكر ان إحداهن وزميلها رافقاني في السيارة، لكنها كانت تسترق نظرات التعجب وهي تراني أتمايل داخل السيارة وأغني مع الشيخ إمام او عبد الوهاب او فيروز او وديع الصافي او ناظم الغزالي.. وأحد الطلاب أعطاني شهادة وهو معي في السيارة عائدين الى عمان فقال: «غريب انك تحفظ هذه الاغاني كاملة، لو تدرس موسيقى يا دكتور.. والله صوتك حنون..
كنت أعرف بعض الوقائع الغرامية بين طالبة وأستاذ.. فنحن بشر.. نضعف أحيانا.. ومن كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.. وأرى انها بالنسبة لي ظاهر طبيعية ومقبولة إذا لم تكن تصيّدا او استغلالا لمنصب، وان الاستاذ (بخاصة الشباب منهم) يبحثون عن شريكة العمر، ومن الطبيعي في حيز مكاني لا يزيد عن بضعة كيلومترات ويحتشد داخله عشرات الآلاف من الطلاب والطالبات والاساتذة والاداريين لفترات تطول لسنين ولساعات طويلة في اليوم الواحد أن يكون المدرس الجامعي ممن «يرميه الهوى من حيث يدري او لا يدري»، فسجاح التميمية ذهبت لحرب مسيلمة فانتهت بين أحضانه كزوجة له، وكليوبترا وقعت في حب انطونيو وهما يخططان للحرب، فكيف لمجتمع الجامعة، وكل فرد فيهم تجمل وتزين ان ينجو من ذلك..
وثمة وجه آخر، فكثيرة وقائع الغش بين طلابنا، لكن بعض طلابنا مبدعون من الناحية العلمية الى حد أني كنت أتمنى على بعضهم ان يكمل دراسته.. وكنت احاول مساعدة بعض الطلاب لفتح الطريق امامهم.. وكثيرا ما فشلت المساعي..
أما الأساتذة فهم كالمجتمع، فيهم الغث والسمين، فيهم من يرتدي جلباب الطهارة وهو أقرب الى «مبطلات الوضوء»، وفيهم من يكتب التقارير لداخل الجامعة وخارجها، ومنهم من يبيع العلامات، ومنهم من يأتيك الى قاعة مناقشة الرسالة الجامعية وهو لم يقرأها، ومنهم من يسرق بحوثا ويترقى.. ولكن منهم الجاد والوقور والحريص على وقت طلابه والنزيه في تقدير العلامات، ومنهم من يساعد الطلاب في دراستهم بالمراجع أو النصائح، ومنهم –وهم ليسوا قلة- وأعرف قدرا كافيا منهم من خصص من راتبه الشهري نسبة يعطيها لطلاب فقراء، ومنهم من يدفع نفقات التسجيل لفصل او فصلين عن طالب او أكثر.. ومنهم من حقق مكانة علمية في تخصصه، وكنت أنتشي عندما اسمع في مؤتمر او ندوة إشارة لمرجع علمي لأحد زملائي.. وكنت أحض الزملاء دائما على البحث ليترقى ويتطور علميا..
وهناك أساتذة يصيبهم الوهم بعد الترقية، فالويل والثبور إذا ناديته باسمه دون لقب الفخامة «الدكتور» (ولو أن هذا الأمر في جامعات المشرق العربي اكثر ألف مرة منه في جامعات المغرب العربي)، فيظن بعضهم ان حصوله على رتبة الأستاذية تجعل منه «جهينة» صاحبة القول الفصل، وأنا أؤكد ان الرتبة العلمية في جامعاتنا لا تعكس حقيقة المستوى العلمي، بل أتذكر انه في إحدى الجامعات طلب أستاذ ان يتم ترتيب الجلوس في قاعة الاجتماعات استنادا الى الرتبة العلمية. بل الأغرب ان بعض الزملاء ممن أعرفهم أو سمعت عنهم في الأقسام الأخرى من «يعرقل ترقية زميله دون حق».. أو اذا عرف ان البحث المرسل له لشخص لا يحبه فإنه يخضع الموقف الأكاديمي للعلاقة الشخصية، وقد عرفت من هذا الكثير.
أما المجتمع، فأحيانا أحزن عليه لأنه خاضع لقاعدة «حسبت الباشا باشا»، ثم يكتشف أن الباشا «زلمة»..
مجتمع الجامعة انعكاس لعلاقات خارج أسوارها، بل أحيانا ما غذت قيم المجتمع الرديئة قيم الجامعة بدلا من العكس.. لكن هذه هي حياتنا الجامعية.