استشراف

المفكر الأقـل شهرة والأكــثر تأثــيرا

وليد عبد الحي

لست معنيا بتزاحم الاسماء ممن يطلق عليهم لقب «المفكر»، بل ما يعنيني هو درجة «التأثير» للأفكار على قرارات الحكومات والمؤسسات الدولية أو الاقليمية، وأعتقد أن الدبلوماسي البريطاني «روبرت كوبر» (Robert Cooper) هو أحد المفكرين الأقل شهرة بين قوائم المفكرين الأوروبيين بخاصة والعالميين بعامة، لكنه من أكثرهم تأثيرا على قرارات دول أوروبية وعلى الاتحاد الأوروبي بشكل عام.
يقسم كوبر العالم إلى ثلاثة مستويات: الدول ما قبل العصرية ( Premodern ) وتشمل دول العالم النامي بشكل عام، والدول العصرية ( Modern) كالصين والهند وباكستان ...الخ)، والدول ما بعد عصرية (Postmodern) مثل أوروبا واليابان وكندا.. الخ
النموذج ما قبل العصري ما زال يعيش سياسات هوبزية (الكل يقاتل الكل)، اما الدول العصرية فهي التي لا تزال اسيرة مفهوم «الدولة القومية» والمنظور الميكيافيلي للسياسة الدولية وترسم حدودا وجدرانا بين الشأن الداخلي والشأن الخارجي، وتنفرد الدول ما بعد العصرية ببعدين هما تماهي الحدود بين الشأن الداخلي والخارجي، ولم تعد تنظر لمفهوم الأمن بمسحته القديمة.
ويرى كوبر، أن الدولة تنتقل من مستوى ما قبل العصرية إلى العصرية إلى ما بعد العصرية بمقدار تحللها من الفصل بين الشأن الداخلي والخارجي وإعادة النظر في مفهوم السيادة، وهذا لا يعني نفس الخلط الذي كان زمن الامبراطوريات التقليدية، لأن تماهي الشأنين في الامبراطوريات كان تماهيا «خشنا»، لكنه الآن تماهيا ناعما حرا مع بعض مظاهر الخشونة، ومن هنا تبنى كوبر مفهوم «الامبريالية الليبرالية الجديدة»، فالليبرالية سادت مع الامبريالية من منطلق الدولة القومية، لكنها الآن امبريالية تجرّد الدول من أغلب وظائفها لتحيلها لكيانات فوق قومية. والتطوّر الأهم في الامبريالية النيوليبرالية هو عدم حل الخلافات بين مكونات الامبريالية بالقوة، والميكانيزم الضابط لإيقاع الحياة السياسية في الامبريالية النيوليبرالية هو «اتساع قاعدة المصالح المشتركة وتنامي النسيج المشترك سياسيا واقتصاديا وعسكريا وثقافيا...الخ).
والرصد لتحولات العلاقات الدولية من منظور كوبر هو في «تَلَمُس مؤشرات التراخي في مقومات السيادة الويستفالية من ناحية وكثافة خيوط النسيج المشترك بين الوحدات من ناحية ثانية، وعليه لا يعود توازن القوى هو ركيزة السلام والاستقرار السياسي بل هو نتيجة للمتغيرين المذكورين.
ويرى كوبر أن مشكلة العلاقات الدولية المعاصرة هي في كيفية التوفيق بين مسالتين هما: القوة والشرعية، وعليه فإن القوة تصبح مقبولة «بالمنظور الواقعي»،ولكن عليها أن تتسق في فعلها مع الشرعية» لذا يرى كوبر أن أحد عورات السياسة الامريكية أن قوتها
«كثيرا ما كانت غير شرعية».
أما الدول «ما قبل العصرية» فهي إما فاقدة للشرعية كنظم سياسية او كوجود (مثل اسرائيل)، أو فاقدة للقوة، أو فاقدة لكليهما، بينما تستعد دول ما بعد العصرية لزيادة التماهي بين شرعيتها وقوتها. ويرى أن التهديد الدولي يأتي من الدول ما قبل العصرية أو الدول العصرية ومن انتشار تنظيمات العنف العابرة للحدود، وقد يكون انتشار التكنولوجيا العسكرية بخاصة اسلحة الدمار الشامل في متناول هذه التنظيمات مما يجعل شبكات العلاقات الدولية اكثر قابلية للتمزيق لكنها اكثر إلحاحا على النسج في نفس الوقت. وتزداد الأمور خطورة بأن كل العالم أصبح بفعل التكنولوجيا العسكرية والمدنية «جيران»، مما يجعل الخطر في أي مكان خطرا على البقية.
يمكن القول إن أية مراجعة للاتفاقيات الاوروبية أو لاتفاقيات الدول العصرية وما بعد العصرية تشير الى هذا التماهي بين الشأن الداخلي والخارجي وبين القوة والشرعية، أما الدول ما قبل العصرية فهي كالمشلول الذي يرى الوحش يسير باتجاهه لكنه «مشلول».
لقد كان لنظريات كوبر أثرها على خافيير سولانا وعلى توني بلير وعلى سياسات الناتو والاتحاد الاوربي، وهو ضمن فرق المستشارين للمجلس الأوروبي وغيره.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024