خارطة طريق جزائرية لتوفير الأمن للشعوب والسلام بين الدول

التنمية وتعضيد الدولة الوطنية باحترام الشرعية الدولية

بقلم: حبيب راشدين

في عالم متأزم، دخل هذا الأسبوع عين الإعصار في البحرين الأبيض والأسود، يعد بانتقال وشيك من المواجهات المحلية المحدودة، إلى مجابهة مفتوحة بين الأقوياء.
اختار رئيس الأركان الفريق سعيد شنقريحة، منصة «المؤتمر التاسع للأمن الدولي» بموسكو، ليعرض على المجموعة الدولية، وبلسان حال القارة الإفريقية، الخطوط العريضة لمقاربة جديدة لمواجهة التهديدات العابرة للحدود والقارات المهددة للأمن، والنزاعات التقليدية المهددة للسلم، قوامها: دعم التنمية وتعضيد الدولة الوطنية، وإخضاع النزاعات التقليدية لقانون دولي تشارك شعوب المعمورة في صناعته.
    
قمة لـ «النيتو» بأول مشاركة للرئيس الأمريكي الجديد، وبأجندة «موجّهة» في جميع الاتجاهات، أعقبتها قمة لنادي «الجي 7» وتتابع استفزازات غربية حول شبه جزيرة القرم بمناورات بحرية ضخمة في البحر الأسود، تتزامن مع مناورة بحرية روسية مضادة في شرق المتوسط، سبقتها مناورة أمريكية «الأسد الأفريقي 2021» كان بيت القصيد فيها استفزاز المنطقة وبالذات الدولة المحورية، مع تحريك الدمية على حدودنا الشرقية في مشهد عام متوتر، جمع بين التحشيد المتسرّع للحلفاء، والتهديد والابتزاز للخصوم والأعداء، يعد بواحدة من اثنتين: إما التحضير لمواجهة مفتوحة، أو محاولة تجميع أكبر قسط من الأوراق التفاوضية الرابحة قبل الجلوس المحتوم حول البساط الأخضر لإعادة توزيع أوراق اللعبة ومناطق النفوذ في العالم الذي سوف يخلف العالم الذي ولد في «مؤتمر يالطا» أمنيا، وأطر ماليا واقتصاديا في «بروتون وودز».
ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية الجديدة باتت تحمل نفس الأجندة التوسعية لإدارة جورج بوش الأب والإبن، ولها ذات التشبث بحلم «القرن الأمريكي للمحافظين الجدد» تريد تصفية مبكرة للحسابات مع غريمها العسكري «الدب الروسي» ومنافسها المتفوق في الاقتصاد «التنين الصيني» ومعهما طائفة من الشركاء والحلفاء كانوا على رأس الاستهداف: (إيران، فنزويلا، سورية)، فجاءت الاستفزازات متزامنة متسارعة، خاصة في حوض البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، كادت في كل مرة أن تتحول إلى مواجهة مفتوحة، وقد تشهد مع المناورة البحرية الجارية الآن في البحر الأسود، بمشاركة أكثر من ثلاثين دولة، قد تشهد تصعيدا لا يحمد عقباه، خاصة بعد أن هددت روسيا بأنها «لن تتردد في استعمال القوة» لردع أي اختراق لمياهها أو أجوائها الإقليمية بمنطقة القرم، وكادت أن تفعل ذلك ردا على الاستفزاز البريطاني الأخير.

رد «الدولة المحورية» على مغامرات «الوكلاء»

غير بعيد عن هذا المسار المستفز، المهدد للسلم والأمن الدوليين، جاء تحريك «الدمية» على الحدود الشرقية للجزائر، بتحريك بعض الوحدات الميليشياوية قرب الحدود، كانت بحاجة إلى رد في التوقيت المناسب، فجاء الرد على لسان الفريق شنقريحة قائد الأركان، أمس الأول الثلاثاء 29 جوان، حيث وجه من مدينة جانت تحذيرا شديد اللهجة، واصفا الدمية بـ «الشخصية المريضة نفسيا، المتعطشة للسلطة»، كما حذر من يقف خلفه من أطراف كانت وراء المأساة الليبية، حذرها «من مغبة المساس بسمعة وأمن الجزائر وسلامتها الترابية»، متوعدا بأن «الرد سيكون قاسيا وحاسما».
وكما فعل في قمة موسكو حول السلم والأمن، فقد ذكر قائد الأركان هذه الأطراف بـأن «الجزائر قد سعت ولا زالت تسعى، انطلاقا من مكانتها كدولة محورية في المنطقة، إلى دعم جميع المبادرات الدولية الرامية إلى إعادة الأمن والاستقرار إلى دول الجوار. وفضلا عن كل ذلك، فإن الجزائر لا ولن تقبل أي تهديد أو وعيد من أي طرف كان، كما أنها لن ترضخ لأية جهة مهما كانت قوتها»، بما يعني أن الخطاب لم يكن موجها حصرا للطرف المعني، بل أشار ضمنيا إلى القوى التي تقف خلفه، وتحرّضه على ارتكاب المحظور، ولو بمناورة إعلامية تريد النيل من سمعة الجزائر.
الظاهر أن بعض الدول في الإقليم، ورعاتهم ما وراء البحر، لم يتابعوا جيدا ما جرى في «برلين اثنين» الذي نوه في بنده 51 بـ «دعم المنظمات الإقليمية والبلدان المجاورة لعملية مصالحة وطنية جامعة وشاملة وقائمة على الحقوق»، قبل أن يتوجه بتقدير خاص للجزائر، وأثنى على استعدادها «للتشارك في تجربتها في مجال المصالحة الوطنية» فيما يشبه التفويض الصريح للجزائر، ليس فقط في مرافقة الليبيين في هذه المرحلة التي تسبق الانتخابات القادمة، بل تتعداها إلى حين استكمال مسار المصالحة الوطنية.

خارطة طريق لمواجهة التهديدات العابرة للحدود

نفس الأطراف قد لا تكون قد توقفت بإمعان عند مضمون كلمة قائد الأركان من منبر «المؤتمر التاسع للأمن الدولي»، الذي نظمته فيدرالية روسيا بموسكو يومي 23 و24 جوان، وقد استهلها بالتعبير عن «استعداد الجزائر التام للعمل، إلى جانب شركائها، من أجل مواجهة التحديات الأمنية التي يعيشها المجتمع الدولي، لاسيما في المنطقة المغاربية والساحل الصحراوي» وقد حدد منذ البداية الفضاء المقصود بالجهد المنتظر من الجزائر، وفي نفس الوقت تعيينه كجغرافيا تعتبرها الجزائر جزءا من فضائها الأمني الحيوي.
كلمة رئيس الأركان من جانت، كما من موسكو، تأتي في مجملها كتفصيل للسياسة الجزائرية الجديدة، التي أفرج الرئيس تبون عن بعض خطوطها العريضة في حواره مع مجلة «لوبوان» الفرنسية، ثم مع قناة «الجزيرة» القطرية، وهي متماهية مع التعديل الدستوري الأخير، الذي حرر الجيش الوطني والقيادة الجزائرية من قيود التحفّظ التي كانت تمتنع بموجبها الجزائر طواعية عن التدخل خارج حدودها، واحترامها المبدئي لسياسة حسن الجوار، التي قرأها بعضهم كحالة من الضعف أو التردد، وهو ما لم تعد تسمح به التطورات الدولية المتسارعة، وحاجة كل بلد حريص على سيادته واستقلال قراره، إلى أن يدافع عنهما دون حساب، وحماية مصالح البلاد كلما تعرضت للتهديد الخارجي من أي جهة كانت. وقد حرص قائد الأركان على تفصيل هذه التهديدات بإسهاب، وصنفها بالنسبة لفضائنا الإقليمي، كما بالنسبة للقارة الإفريقية، في عشرة أنواع من التهديدات العابرة للحدود: مثل الإرهاب، وتهريب الأسلحة والمخدرات، والاتجار بالبشر، والتهديدات السيبرانية، وجرائم أخرى عابرة للحدود، وعواقب التغير المناخي وشح المياه، وأخطار المجاعة، والتدفق غير المسبوق للمهاجرين.
غير أن رصد وإحصاء هذه التهديدات، لن يفي بالغرض ما لم تدرس ضمن استحضار «العوامل المتسببة في زعزعة الاستقرار» واستباق «التغيرات الجيوسياسية المعقدة والمتعددة الأبعاد» التي ترتب عنها، يقول الفريق شنقريحة: «بروز تحديات وتهديدات جديدة مست الأمن والسلم في فضائنا الإقليمي». وقد ميز قائد الأركان، أمام جمع مهتم بقضايا السلم والأمن، بين التهديدات والمخاطر الناجمة عن النزاعات المسلحة، بين من وصفهم بـ «الفاعلين الحكوميين» وبين التھدیدات المعاصرة التي أصبحت عابرة للحدود، وغالبا ما تكون متعلقة بـ «فاعلین غیر حكومیین» وكأنه يحيل أنظار المجموعة الدولية إلى واجب التفكير في سياسات غير السياسات الأمنية الصرفة لمواجهة هذه التهديدات، وقد فصل ذلك في موقفين:

التنمية وتعضيد الدولة الوطنية لتثبيت الأمن

الموقف الأول: خاص بالتهديدات غير التقليدية، مثل تلك الناتجة عن «عواقب تغیر المناخ المترتبة عن تتابع فترات مناخیة قاسیة، وتوترات ناجمة عن ندرة المیاه، وأخطار المجاعة، والتدفق غیر المسبوق للمھاجرین المرتبط بھذه الاضطرابات المناخیة»، أضيفت إليها عوامل أخرى لزعزعة الاستقرار، على غرار «المخاطر الوبائیة، النزاعات القبلیة، ونزوح الشعوب فرارا من مناطق یسودھا العنف، زیادة على الفقر الذي یعانیه السكان المحلیون».
وفي انتقال سريع من الرصد والتوصيف للتهديدات القائمة والمستجدة، خاصة في القارة الإفريقية التي أناب عنها في هذه الكلمة القوية، إلى التشخيص وتحديد المتسبب الأول في تدهور الوضع الأمني بالقارة عموما، وبمنطقة الساحل خصوصا. ليؤكد أن الوضع الأمني المتدهور ازداد تفاقما «بسبب عدم قدرة بعض الدول على المواجھة الفعالة لھذه التھدیدات» وأن انتشارها عبر كافة القارة الإفریقیة «سیرھن بعدها الأمني، على المديين القریب والمتوسط، حظوظ التنمیة في القارة، ویفتح الطریق أمام تدخلات أجنبیة، تحت ذریعة جھود إرساء الاستقرار، في المناطق التي غرقت في موجات العنف».
حيال هذا النوع من التهديدات، ينبغي أن يصرف الجهد الدولي إلى أمرين: الأول معالجة عجز الدول الفقيرة في مواجهة هذه التهديدات بأدوات التنمية وتقوية الدولة الوطنية وليس بالتدخل العسكري الأجنبي «بذريعة جهود إرساء الاستقرار» أو «محاربة الإرهاب» التي تتحول بسرعة إلى مسبب مضاعف لاستشراء العنف، وضرب الاستقرار، بل وإلى تفكيك الدول، كما حصل في ليبيا والصومال، ودول الساحل.
قائد الأركان، وبأسلوب مباشر ليس فيه مداهنة، يكون قد رسم، باسم القارة الإفريقية، معالم الطريق لمعالجة معظم التهديدات العابرة للحدود، التي لن تتوقف عند حدود الساحل أو الضفة الجنوبية للأبيض المتوسط. وأن أي جهد دولي مشترك قادم في سياق إعادة بناء العالم الجديد، وبعث علاقات دولية متوازنة، تلزم الدول الغنية المهيمنة بأمرين: الأول الامتناع عن التدخل العسكري تحت أية ذريعة، إلا ما كان تحت إدارة الأمم المتحدة وبإذن منها. والثاني: الدعم المادي للدول الفقيرة في مجال التنمية وبناء مؤسسات الدولة الوطنية القادرة على مواجهة التحديات الأمنية كيفما كانت، دون الحاجة إلى تدخل قوى أجنبية.

القانون الدولي لمعالجة النزاعات بين الدول

الموقف الثاني: الخاص بالنزاعات التقليدية بين الدول، يوجب تعامل المجموعة الدولية مع «الفاعلين الحكوميين» تحت سقف القانون الدولي ومؤسساته التابعة للأمم المتحدة. وقد ضرب رئيس الأركان لذلك مثلا، في النزاع القائم بالصحراء الغربية الذي وصفه كـ «آخر مستعمرة في إفريقيا يطمح شعبها إلى تقرير مصيره بكل حرية»، قبل أن يحمل الأمم المتحدة مسؤولياتها «في حل هذا النزاع الذي طال أمده»، كما حمل المملكة المغربية «مسؤولية تجدد النزاع المسلح إثر خرقها لاتفاق وقف إطلاق النار بتاريخ 13 نوفمبر 2020»، واصفا المغرب بـ «المحتل للأقاليم الصحراوية بالقوة، مع طمس مفهوم احترام حقوق الإنسان في الأقاليم المحتلة، التي تتنافى مع ميثاق الأمم المتحدة والقانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي، الذي تعد الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية عضوا مؤسسا فيه» وقد أكد ذكر «الجمهورية العربية الصحراوي الديمقراطية العضو المؤسس للاتحاد الإفريقي». لينبه على أنه «نزاع بين فاعلين حكوميين» يخضع لأدوات فض النزاعات بين الدول، وفق مقتضيات القانون الدولي وبرعاية مؤسساته، وهو نزاع يهدد اليوم المنطقة بـ «مخاطر التصعيد العسكري، والتدخلات الخارجية»، مما يستدعي من المجتمع الدولي «تحمل مسؤولياته، من خلال التقيد بالقانون الدولي في تسوية هذه الأزمة».
وفي الوقت الذي دخل فيه العالم عين الإعصار، بمناورات محفوفة بمخاطر الانزلاق نحو الهاوية، والانتقال من مواجهات محلية محدودة موجهة عن بعد، إلى صدام مباشر تتراكم مقدماته في البحرين الأسود والأبيض المتوسط، تأتي هذه المقاربة الجزائرية لمعالجة الأزمات والتهديدات العابرة للحدود وللقارات وفق مسارين تضامنيين: دعم التنمية وتعضيد الدولة الوطنية، مع احترام سيادتها وتمكينها من مواجهة «الفاعلين غير الحكوميين»، كما وصفهم الفريق سعيد شنقريحة، وإخضاع بقية النزاعات التقليدية بين «الفاعلين الحكوميين» للقانون الدولي، ولتحكيم مؤسساته. تأتي هذه المقاربة كمقاربة إفريقية للعلاقات الدولية القادمة، التي يفترض أن تعيد بناء الشرعية الدولية أو تطورها نحو الأحسن، بعيدا عن هيمنة القوة البهيمية للدول العظمى التي سادت العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم يحضر موائدها المؤسسة للشرعية الدولية ثلثا قادة دول وشعوب المعمورة.

حلف الفضول لابتكار علاقات دولية فاضلة

هذه المقاربة لم تعد خطابا معزولا في المحافل الدولية، بل تسندها اليوم قوى مؤثرة في ميزان العلاقات الدولية، قد اشتدت شوكتها وباتت تضيق ذرعا مثل شعوب العالم الثالث بالتغول الغربي، وبعدوانيته التي كانت خلف عشرات النزاعات المسلحة في العالم، بدءا بالحرب الكورية ثم فيتنام، وأفغانستان، والعراق، وليبيا، وسوريا، وانتهاء بعشرات البؤر الملتهبة التي سحقت كثيرا من الدول والشعوب الفقيرة بأفريقيا (الكونغو، ووسط إفريقيا، ورواندا، ودول الساحل).
وفي الوقت الذي كان حلف النيتو يعيد فيه تحشيد قواته، ويُنشط أكثر من مناورة عسكرية في ربوع الأبيض المتوسط والبحر الأسود، كان الرئيسان، الروسي والصيني، يعقدان قمة بتقنية التخاطب عن بعد، جددا خلالها معاهدة حسن الجوار لخمس سنوات قادمة، في ما يشبه الإعلان عن حلف جديد بين قوة عسكرية لها نفس منسوب القوة التي للولايات المتحدة، وقوة اقتصادية تصنف اليوم كأكبر اقتصاد في العالم، في تحذير قوي للقوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة، التي لا يبدو أنها سوف تسلم بسهولة ودون قتال لميلاد عالم جديد متعدد الأقطاب، محكوم بالقانون الدولي وبمؤسساته، ينبغي أن يعاد النظر فيها وفي مواطن التعطيل المدسوسة فيها لسريان القانون الدولي على الضعيف والقوي، كما ينبغي أن تجدد مؤسساته المدارة بمنسوب عال من الاستبداد: في التجارة العالمية، وفي النظام النقدي الدولي، والهيمنة المطلقة على شبكة الأنترنت، والغطرسة الرافضة لحق الشعوب في السيادة على إقليم الدولة الوطنية وعلى ثرواتها، وكلها استحقاقات مطروحة اليوم على طاولة إعادة جدولة العلاقات الدولية، التي لن تقبل القارة الإفريقية أن يغيب فيها مقعدها، أو يستهتر بكلمتها، وهي التي تعد اليوم العالم بمحرك قادم للتنمية، في عالم استنفد فيه النهم الغربي، ونموذجه الاستهلاكي أغلب موارد البشرية.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024