في ظلّ انتشار شبكات التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، وما صاحبها من خصائص تكنولوجية وخوارزميات جديدة غيّرت في نمطية التلقي للمحتويات، وكما غيرت في آليات النشر والتفاعل نتيجة الخدمات والخيارات والامتيازات التي تتيحها للمستخدم في إنتاج وصناعة المحتوى (التفاعلية والمشاركة، الفورية والآنية في النشر، لاسيما خيارات التصفح والتحديث المستمر)، إضافة إلى الخدمات التي تتيحها للجمهور المستخدم حققت الطفرة نوعية التي تعدّ حتمية تكنولوجية (مارشال ماكلوهان) أدت إلى هجرة وسائل الإعلام المكتوبة لهذه الوسائط، لمواكبة جمهور وتتبع قرائها حفاظا على مكانتها في الساحة وحفاظا على مقروئيتها هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن الخصائص والخدمات التي أشرنا إليها سابقا طرحت خاصية اللاتزامنية واللاجماهيرية في استهلاك والتعاطي مع المضامين التي صارت من نتائج وسائط إعلامية هاوية وليست بديلة عن الإعلام الكلاسيكي، ومن ثمّة (نظرية تدفق المعلومات عبر مرحلتين) بدأت وسائل الإعلام المكتوبة هنا تطوّر في معايير صناعة ونشر ونقل المعلومة إلى الجمهور القراء، سواء على مستوى الصحف الورقية أو على مستوى الصحف الإلكترونية بمصرعيها الإلكتروني الخالص والإلكتروني الورقي الأصل، فصراحة وسائل الإعلام المكتوبة لم تعدّ تستطيع التحكم أو التعامل مع هذه التراند الرهيب والتدفق الهائل للمعلومات والمضامين، ما تطلب منها إنشاء شبكات ووسائط تلجأ لها كمصدر للمعلومة قادة رأي أو وسائط.
الممارسة الصحفية والهواة في ظل الوسائط الجديدة
الممارسات الإعلامية والهواة: إن التحدي الجديد الذي يتفق عليه أغلب المختصين في المجال الإعلامي، هو أن الثورة الرقمية والشبكات الإعلامية العالمية والوسائط الاجتماعية التفاعلية وكذلك محركات البحث التي تقدّم خدمات متنوعة، إضافة إلى النظام الجديد «للخوارزميات الجديدة،.. سمحت بالمرور إلى النظام البيئي الإعلامي الجديد nouvel écosystème médiatique الذي يتميز بشيوع ثقافة الحصول الآني على المعلومة واستهلاك مضامين وسائل الإعلام في زمن مستمر وبشكل تفاعلي، ويعكس هذا التحوّل من اقتصاد الندرة إلى اقتصاد النقص.
توفر الوسائط économie d’abondance الوفرة (الشبكية الوصول إلى كمية هائلة من الوثائق والبيانات والمعلومات. ويؤدي هذا الإجراء مجموعة من الأسئلة التي طرحها الخبراء في ميدان الإعلام والقانون، يمكن أن نذكر هنا، مسألة البحث عن المعلومات وكيفية تقييم موثوقيتها. وأيضا مسألة حق المؤلف والملكية الفكرية والفنية والحقوق المتعلقة بحقوق الطبع والنشر.
ولأن أنشطة الصحافة ووسائل الإعلام بكل أشكالها مشروطة بالتكنولوجيا الرقمية، برز في مختلف المؤسسات والفضاءات الحوار والنقاش حول طبيعة الهوية الصحفية، وحدودها وتحديد طبيعة المهنة الإعلامية، وهذا نتيجة لسيادة الأحداث والتعليقات والأخبار المتنوّعة في فضاء إعلامي ليس له حدود واضحة، والتي تخضع تقريبا لحتميات التداول السريع عبر الوسائط الاجتماعية والمواقع الالكترونية والانتشار الواسع في كل والتطبيقات والمدونات التي تمتلك فاعلية التداول، بفضل مركزية التكنولوجيا الرقمية التي تساعد في التواصل.
فهذه التحوّلات الجارية والمتجدّدة التي غيّرت من وضعية وهوية الصحافيين والمؤسسات الإعلامية، زادت من تأزم نسقية المهنة الصحفية التي أضحت تستغل مواقع المعلومات المجهولة المصدر والمحتوى، وتوظف معلومات تتسم بنسبية المرجعيات، خاصة وأن أغلب الممارسات تعتمد على الكثير من الصور ومختلف الأخبار والفيديوهات التي ينتجها ويرسلها الهواة ومختلف المشاركين في التنظيم التحريري amateurs لوسائل الإعلام، والغرض من ذلك هو ضمان مسايرة الأحداث والتأقلم معها وضمان التغطية الواسعة والآنية للأحداث.
خصوصية الصحافي في ظلّ انتشار المعلومة الإخبارية عبر الوسائط الجديدة
إن التأكيد على أن الانترنت غيّرت وتغيّر الصحافة بعد تحصيل حاصل، والنظر إلى ما تقتضيه على الصحافة نهائيا وبشكل قاطع قد يتضمّن رؤية ثابتة للصحافة، تفصلها عن السياق العام لتطوّر وسائل الإعلام.. لقد اتضح، بشكل جلي، أن هذه الأخيرة تتطوّر، وتتجدّد، وتتغير ضمن دينامكية تفكيك العمل الصحفي وإعادة تشكيله على أسس جديدة، ومعايير مستحدثة، ووفق هوية مغايرة تستند إلى أهداف غير تلك التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، وأغلب سنوات القرن العشري، ففي السابق كانت وسائل الإعلام تروم تغيير وعي الجمهور، وأصبحت الآن تسعى إلى التفاوض حول «نظامهم» الخاص للحقيقية.
إذن جوهر العمل الصحفي تغير عبر التاريخ، فبعد أن كان رأي «موقف المؤسسة الإعلامية يمثل القيمة المحورية في نشاطها، انتقل إلى الحدث» الإعلام، وأصبح في ظلّ التطور التكنولوجي ممثلا في الحوار والتعليقات التي تثيرها المواد المنشورة.
ضمن هذه الحركية تجرّد الصحافي من بعض الأدوار والوظائف، فلم يعد منتجا وحيدا للأخبار وشاهدا فريدا على ما يجري لينقله إلى الجمهور، لقد أصبحت العديد من المؤسسات غير الصحفية تنتج الأخبار وتوزّعها، وتشرك في ذلك العديد من الأشخاص من خارج مهنة الصحافة، كما أن الصحافي لم يعد المحلل الوحيد للأحداث والمعلق عنها. لقد أصبح رأيه مغمورا في المجتمعات الغربية، وسط جيش من الخبراء والمختصين الذين أصبحت آراؤهم متداولة على نطاق واسع.
هل يعني هذا نهاية دور الصحافي؟
إنّ التغيرات والتحوّلات التكنولوجية الحديثة والتي مسّت صلب عمل الصحفي، سواء في عملية جمع وتحرير الأخبار ونشرها، أو إدارة العمل الصحفي، أو في طبيعة الأطراف المشاركة في العملية الصحفية، انعكست على علاقة الصحفي كمنتج للمعلومة والخبر بالجمهور كمستهلك ومتلقي، فلم يعد الصحفي هو منتج المعلومة والخبر والرأي فقط، ولم يعد الجمهور متلقي سلبي لها، بل أصبح مشاركا فاعلا في العملية الصحفية، وهو ما استتبع معه ظهور تحوّلات كثيرة على الصحفي ودوره وممارسته للصحافة، ومن المهم معرفة تمثل الصحفي لهويته ولمستقبله الصحفي في ظلّ ظاهرة صحافة المواطن، هل يمكن القول بأن الصحفي قد صار مهدّدا بالانقراض في ظل تلاشي أدواره المهنية عبر هذه الوسائط ؟؟؟ (من أن ؟؟ فيه تشكيك بهوية الصحافي) فبالتالي فإن التقنية قد أحدثت ثورة تكنولوجية خلال القرن 21 قد مسّت بخصوصية المؤسسات الصحفية والإعلامية في آداء مهامها، والخطر الذي ألحق بها هو التهديد في سياسة المؤسسة الإعلامية وسياستها التحريرية، وكذا في وظائفه المجتمعية على إثر الفجوة أو التحوّل والانتقال المرحلي أو التغير الجذري الذي أفرزته تكنولوجيا الإعلام والاتصال على مستوى التقنية.
فقد جعلت القائم بالاتصال أو النشر في المؤسسات الصحفية يتيه من فضاء إلى فضاء لاسترجاع أدواره، ورد الاعتبار لأصوله المهنية (الإعلامية والتكوينية والمؤسساتية)، ولا يمكن ذلك إلى بعد التجديد في نمطية وآليات التحرير الصحفي التي تتماشى مع المحتوى الميدياتيكي والتخلّي عن نمطية الصحافة المتأنية وأبجديات التحرير الكلاسيكية، التي تجاوزها الزمن في عصر السرعة والاستهلاك الطازج والسريع والقصير للمحتويات، فأظن أن المتلقي أو الجمهور المستهلك اليوم لا يتعامل إلا مع الصورة المتحركة، التي أصبحت هي الواقع الفعلي للمشهد الإعلامي المعاصر وهي الانعكاس الحقيقي للمحتوى الميدياتيكي الشبكي، بحكم أن إشباع رغبة القارئ عبر هذه الوسائط يتعامل مع المحسوس الواقعي، لا يتخلله أي طابع سيميولوجي وهمي زائف، ومن ثمّة نحصى مجمل التغييرات التي أحدثتها ظاهرة «صحافة المواطن» باعتبارها تعتمد على أحدث تكنولوجيات الإعلام والاتصال على الهوية المهنية للصحفي.
خصوصية المتلقي عبر الفضاء الافتراضي
كانت لكلّ من نصر الدين لعياضي والبروفيسور الصادق الحمامي دراسات حول التلقي في الميديا الجديدة، وانطلقوا من فكرة «كل قارئ ناقد» فليس بالضرورة أن يكون كل قارئ ناقد إلا إذا كان المحتوى قابل للتأويل ونظرية المشاركة تسبقها التأويل، ويمكن للقارئ أن ينقد أو يساهم في إنتاج المحتوى عبر منصات التواصل الاجتماعي، إلا إذا كان التناص المطروح أدبي كان أو إعلامي يقبل التأويل، وأردت أن أفسر المفهوم من خلال هذا المنطلق هو أن المتلقي قد تحرّر من فكرة جمهور متلقي سلبي، هذه الوسائط التي لم يستطع الصحافي خصرها والسيطرة عليها في ظل النفوذ المعلوماتي، حيث أجاد المتلقي استغلالها وصنع من خلالها مهنة ممارسة إنتاج ونشر المحتوى (هل من السهل أن أصبح صحفيا ؟؟؟) ومن هنا يمكن أن نسقط نظرية الاستخدامات والاشباعات في فروضها بأن الجمهور نشط وفعال إذ طرأ على إثرها تغيّر في خصوصية المتلقي والهوة الافتراضية، من متلقي سلبي لا أكثر مثل ما كان عليه في الوسائل الكلاسيكية الصحافة الورقية والالكترونية) - وحق الرد والتصحيح في خبر كان - إلى مستخدم نشط وفعّال منتج للمحتوى استعانة بهذه الوسائط التي تتيح له صيرروة صناعة القرار على مستوى هذه الفضاءات، (فبعد أن كنا نقول ماذا تفعل وسائل الإعلام بالجمهور؟ إلى ماذا يفعل الجمهور بوسائل الإعلام، وهذا يمكن إسقاطه على الطرح السابق ما تعلّق بخصوصية الصحافي عبر هذه الوسائط إلى ماذا يفعل الجمهور بالجمهور أي بمعناه أن المستخدم المتلقي، هنا صنع لنفسه هوة حقيقية في واقع افتراضي وحتى في الساحة الإعلامية، وصنع لنفسه شخصية لها صيت وأدوار فاعلة في المجتمع بإمكانها أن تبني إستراتجية في إنتاج وصناعة ونشر المحتوى، وصار لها سلطة اتخاذ القرار السياسي الفعّال في التأثير على الرأي العام، ومن هنا يقودنا للاستنتاج إلى موت المؤلف الحقيقي وهو الصحافي وتلاشت أدواره، والمساس بخصوصيته المهنية في ظلّ الانفجار الرهيب للخوازميات.
لكن هذا لا يعني أن صحافة المواطن أصبحت هي الصراع والمنافس الوحيد للسلطة الرابعة، لأن للعمل الصحفي أصول وفنيات وأبجديات وشروط ومعايير لانتقاء وإنتاج المحتوى الصحفي، وفق سياسة تحريرية محكمة تحتاج إلى تدريب أكاديمي وليس من هبّ ودبّ بإمكانه أن يكتب خبرا أو مضمون إعلامي يقدم خدمة مجتمعية هادفة لتنوير الرأي العام إلا بإضفاء القيم، وهذا ما سنختم بها مقالنا هذا في محور أخير ما يتعلق بـ:
القيم الخبرية في المحتوى الرقمي
لقد أشار يورغن هابرماس في طرحه حول نظرية الفضاء العمومي والمجال العام، أن التواصل العقلاني الجاد في طرح المضامين الإعلامية عبر الشبكات الاجتماعية لا يسود إلا بالوعي، فهذه الفضاءات فتحت المجال لكل الشرائح للتعبير عن آرائها، وطرح نقاشاتها من خلال صناعة أخبار لا تضفى فيها القيم الخبرية التي تقودنا نحو تقديم خدمة مجتمعية هادفة للجمهور والصالح العام، وهذا ما أصبح يشكّك في مصداقية هذه الفضاءات التي صارت تتكاثر فيها أوعية الخبر الزائف، وتلفيق الأخبار البعيدة كل البعد عن منظومة القيم والأخلاق والثوابث، ولاسترجاع الثقة الضائعة بين الفضاء الافتراضي وجمهور القراء، لابد أن تسلم المهنة لأصحابها وترد البضاعة لأصحابها، فالعمل الإعلامي الهادف والنزيه يجب أن يتمرّس من قبل الصحفي الذي يعد عصب هام في المجتمع، يساهم في تنوير الرأي العام والتنشئة الاجتماعية والثقافية والسلوكية وفق معايير وضوابط أخلاقية، لا بد أن تضفى في المحتوى الإخباري الذي يشترط فيه توافر القيم الخبرية السائدة (الموضوعية – الجدة – المصداقية – التأثير – الوضوح والاستمرارية – الحداثة – التنمية.. الخ) فحقيقة غيّبت لقيمة الخبرية في المحتوى الخبري الميدياتيكي، ما ولد عنه غياب الأخلقة والدمقرطة في صناعة المحتوى نتج عنه نشر الأخبار الكاذبة والزائفة، والتلفيق والتهويل سمونها كما تشاءون، وهذا مصير عندما تقع المهنة في أيادي غير آمنة تحت شعار «من مهنة إلى من لا مهنة له».
إن الممارسة الجديدة على مستوى الوسائط الرقمية أصبح تشكل خطرا على المؤسسات الصحفية، وتهدّد بخصوصياتها المهنية وهويتها الإدارية في ظل بروز أنماط جديد للممارسة عبر الشبكات الاجتماعية، التي توحي بالإعلان عن ميلاد بيئة رقمية جديدة، وأن مستقبل الصحافة المكتوبة سيكون عبر متن هذه الفضاءات، مما تفرض عليها حتمية المواطنة، خاصة بعدما اشتدت المنافسة بين الصحفي ورواد الشبكات الاجتماعية في صناعة المحتوى والنشر لشرائح عديدة من الجمهور، لا سيما التدفّق الرهيب لمعلومة ومعالجته بمختلف الوسائط التي تؤثر في شريحة كبيرة من الجمهور المستخدم، مما صعّب الأمر على الصحفي في تأدية أدواره وأصبحنا نقول أن مهنته صارت بين أيادي دخيلة عن المهنة، والتي تهدّد بمصير مهنته، ولا يمكن للصحفي والمؤسسة الإعلامية أن يردا اعتبارهما للهوية الحقيقية في الممارسة لا سيما الخصوصية المهنية، واسترجاع المكانة الأساسية في الساحة الإعلامية سواء كانت الواقعية الفعلية أو الافتراضية، إلا بعد التطوير في ميكانيزمات تقنية من الدرجة الأولى تعمل على الصياغة الآلة المحتويات المنشورة على متن هذه الجدارات ومسحها، ومراقبة صناع القرار في إنتاج المحتويات للحدّ من تفاهم أزمة الثقة في المعلومة (الأخبار الكاذبة) وعلى الصحفي أن يسن آليات جديدة لكسب ثقة جمهوره والتعامل معه في إشباع حاجات ورغباته بعيدا عن الزيفية والوهمية، ولا بد من حصر مهام الصحفي المواطن كوسيط وليس كبديل عن المؤسسة الصحفية، باعتبار مهنة التحرير الصفي لها أبجدياتها وفنياتها وأصولها وقواعدها وشروط محدّدة لتمرّس المهنة، لإزالة غموض العشوائية والسطحية صناعة المحتويات ونشرها للتأثير في الجمهور والتلاعب بمشاعره وعواطفه، ولا يتحقق ذلك إلا بعد إنشاء مراكز تدريبية في مجال تكنولوجيا الإعلام والرقمنة التي تفتح آفاق جديدة، لاكتساب مهارات وفنيات الصحافة الشبكية وصحافة الموبايل التي تفرض علينا أنواع وقوالب صحفية وفنية جديدة للتعامل مع المحتوى الميدياتيكي، والتي تفرض علينا كذلك منهجية مستحدثة في طرح وصياغة ومعالجة المحتوى الرقمي عبر الفضاءات الافتراضية، مراعين القيم الخبرية وهي زبدة المحتوى وفق ضوابط وأسس أخلاقية.