في بحر 48 ساعة من المواجهة استطاعت صواريخ المقاومة من غزة المحاصرة فك الحصار عن المصلّين العزل بالمسجد الأقصى، وإحباط مشروع الاجتياح البرّي لغزة، لتعيد كتابة قواعد جديدة للاشتباك مع العدو الصهيوني، وتضع مجددا القدس والمسجد الأقصى في قلب القضية الفلسطينية، وتنسف صفقة القرن بلا رجعة، مع العودة المحمودة لخط المقاومة والتحرير كسقف جامع للبيت الفلسطيني.
كان من الممكن أن يبقى حادث اجتياح الصهاينة للمسجد الأقصى محض حادث عابر له سوابق كثيرة قبل أن تطوى صفحته، لولا المفاجأة الإستراتجية التي صنعتها المقاومة من غزة بعمليات نوعية، فكّت الحصار عن المعتصمين ببيت المقدس، وأحبطت الاحتفال الصهيوني بما يسمى بتوحيد القدس كعاصمة تلمودية للكيان، ووضعت الكيان الصهيوني أمام خيارات عسكرية وسياسية محدودة، بهامش مناورة ضيّق، تراجع معه الكيان عن مواصلة مسيرة المتطرفين نحو المسجد الأقصى، وأوقف ما كان يهدّد به نتانياهو باجتياح برّي واسع لقطاع غزة.
الصواريخ التي أوقفت اجتياح المسجد الأقصى وغزّة
جميع الأطراف المعنية بالقضية الفلسطينية: إقليميا ودوليا باغتها هذا التدّخل القوّي للمقاومة الفلسطينية من غزّة، بعمليات صاروخية غير مسبوقة، ضربت الكيان الصهيوني ضربات موجعة باستهداف مواقع حيوية صهيونية بالقدس بصواريخ بعيدة المدى، كان لها الفضل في إجبار الكيان الصهيوني على وقف مسيرة المتطرفين، فيما كان استعمال صواريخ كورنيت ضد آلية صهيونية مدرّعة على مشارف غزة مؤثرا للغاية في تراجع الجيش الصهيوني عن تنفيذ الاجتياح البرّي لقطاع غزة، بينما جاءت المفاجأة الإستراتجية الثالثة في الفشل المؤكد لما يسمى بـ «القبة الحديدية» في اعتراض صواريخ المقاومة: ومنها على وجه التحديد صاروخ « إ 120» بعيدة المدى والدقيقة، وهي من صنع محلي صرف.
وتبقى خيبة الأمل الكبيرة، التي لم تخفها الصحافة الصهيونية، هي فشل الطيران الصهيوني المدعوم هذه المرةّ بوحدات بحرية، انتشرت على طول ساحل غزة، في اكتشاف مواقع منصّات إطلاق الصواريخ، أو ورشات التصنيع والتخزين، رغم التحليق المكثف للدرونات والمروحيات فوق سماء غزة، ولعلّ هذا الإحباط هو الذي دفع بنتانياهيو إلى توجيه ضربات الطيران الصهيوني لمنشآت مدنية صرفة، وإصابة مدنيين عزّل، منهم صبية دون العاشرة، ردّت عليها المقاومة باستهداف مماثل، كان أخطره على الإطلاق استهداف مطار بن غوريون الذي أخرج عن الخدمة، مع تحويل جميع الرحلات نحو قبرص أو مالطة.
فعلى المستوى العسكري الصرف، وبعيدا عن دقة الحصيلة التي نشرها الكيان الصهيوني لخسائره البشرية، فإن المقاومة من غزة تكون قد كسبت هذه الجولة منذ البداية، برد استراتيجي مفاجئ، بصواريخ تصل اليوم لأكبر المدن المحتلة بفلسطين التاريخية: من تل أبيب، إلى القدس، إلى حيفا، حيث أن الصواريخ السبعة بعيدة المدى التي استهدفت الضواحي الغربية والشمالية للقدس، لم تتمكن «القبّة الحديدية» من اعتراضها، لا عند المنبع من فضاء غزة ولا عند المصّب، بما يعني أن القدرة الصاروخية للمقاومة لم تعد «عبثية»، كما كانت توصف من قبل المرجفين العرب، بل باتت تشكل «سلاح ردع استراتيجي» موازي للطيران الصهيوني، مع أن المقاومة قد استعملتها كـ «سلاح ردع وتحذير» ومن غير رغبة في التصعيد.
وفي نفس الوقت كان استعمال المقاومة لصواريخ كورنيت، واستهداف وإصابة مدرعة صهيونية تأثير آني، أجبر المحتل الصهيوني على التراجع عن تنفيذ ما كان يهدّد به نتانياهيو من اجتياح برّي واسع لقطاع غزة، يستغل لتفكيك منظومة صواريخ المقاومة، ويخرج القطاع والمقاومة نهائيا من الحسابات القادمة.
عودة أمريكا لخيار الدولتين ومسار أوسلو
المفاجأة لم تكن لزعيم الكيان الصهيوني الذي عبث بإحداث القدس في حسابات سياسية داخلية، لها صلة بحاجة نتانياهو إلى خلط الأوراق، والقفز على الأزمة الداخلية التي أقصته من فرصة تولي تشكيل الحكومة، حيث فاجأ رد المقاومة القوّي والمحسوب الولايات المتحدة الأمريكية أيضا وهي الداعم الأوّل للكيان الصهيوني، التي سارعت إلى التدّخل بقوّة والضغط على القيادة الصهيونية في اتجاه ما وصفه وزير الخارجية الأمريكي بـ «خفض التصعيد وتهدئة الوضع» مع أن الموقف الأمريكي قبل 24 ساعة كان محبطا للغاية، بتعطيله لقرار مجلس الأمن يوم الاثنين، رغم غياب أي تنديد فيه لسلوكيات الكيان: سواء فيما جرى من محاولة تهجير لسكان حي الشيخ جراح، أو اقتحام الشرطة الصهيونية لقاعة المسجد الأقصى، والاعتداء بالغازات وبالرصاص المطاطي على المصلين المعتصمين.
الموقف الأمريكي تطور يوم الثلاثاء (الأسبوع الماضي) بتراجع ملحوظ عن ترتيبات ما كان يوصف بـ « صفقة القرن» حيث أكدت الخارجية الأمريكية أن «سياسة الولايات المتحدة لم تتغير، وهي أن الضفة الغربية محتلة، وأن الوضع النهائي للقدس لم يحسم بعد»، وهي جملة تنسف كل ما تحقق للكيان الغاصب في عهد ترامب، حتى وإن حرصت الخارجية الأمريكية على طمأنة الصهاينة من جهتين: بالتذكير بالسياسة الأمريكية تجاه حماس واعتبارها بحسب الخارجية «جماعة إرهابية» أو من جهة تجديد وقوف الولايات المتحدة «إلى جانب إسرائيل في حقها في الدفاع عن نفسها، كما للفلسطينيين الحق بالعيش في أمان».
على هذا المستوى تكون المقاومة قد حققت انتصارا غير مسبوق وبأقل كلفة، أعاد إحياء القضية الفلسطينية كصراع غير قابل للحل خارج تصفية الاحتلال للأراضي المحتلة سنة 1967، بما فيها القدس الشرقية، والبحث بجدّية في مسار الدولتين الذي هدمه الثنائي ترامب ـ نتانياهو، وتداعت إليه بالهرولة بعض الأنظمة العربية المطبعة.
إعادة كتابة قواعد الاشتباك
أدّق توصيف لما جرى، جاء على لسان زعيم حماس إسماعيل هنية في خطاب مطوّل، رسم فيه حدود المعادلة الجديدة في الصراع الفلسطيني الصهيوني حين أكد: «اليوم هناك ميزان قوّة جديد انطلق من ساحات القدس والأقصى»، ليضيف أن «معادلة الاستفراد من قبل الاحتلال بالقدس، والعبث فيها، واستباحتها، لم يعد مقبولا لنا كشعب ومقاومة... وأن غزة والقدس وفلسطينيي 1948 كلهم يتحركون معا في لوحة متماسكة ومتكاملة من أجل مواجهة الاحتلال.. وأن جبهة القدس هي جبهة الأمة، وجبهة المسلمين والمسيحيين الأحرار» وفي ذهنه إيصال رسالة لزعماء الكيان الصهيوني، وللقوى الداعمة له من الغرب ومن بعض العرب المطبعين تقول: إن المقاومة في غزة لم تعد معنية بالدفاع عن قطاع غزة بل عن كامل الحقوق الفلسطينية في الضفة وفي القدس المحتل، وفي عموم فلسطين التاريخية، وهي عودة للعقيدة التي تأسست عليها المقاومة، وحماس تحديدا، قبل المراجعات التي أجبرت عليها حين تراجع الموقف العربي، وانخرط جزء من النخب الفلسطينية في مسار أوسلو.
العودة لخيار المقاومة وتحرير فلسطين المحتلة
وضع المقاومة للقدس على رأس أولوياتها، وبإعادة توجيه القوّة الصاروخية لمدينة القدس تزامنا مع تل أبيب، أصاب الكيان الصهيوني في مقتل، لأنه أدخل مدينة القدس كجزء من جبهة القتال للمقاومة، بما يعني أن المفاوضات القادمة حول مستقبل القدس، وكيفما ستكون الصيغ المقترحة، سوف تجري تحت ضغط مسلّح، قادر على إجهاض أي تسوية تمرر بالقوّة على الشعب الفلسطيني.
إسماعيل هنية لم يكن مغالٍ كثيرا في تقييم الرد الاستراتيجي الذي نفذته المقاومة، حين أكد أن المقاومة قد «أرغمت الاحتلال على سحب متطرفيه بعيدا عن المسجد الأقصى، ولا يمكن لأحد أن يتخلف عن معركة القدس»، لأن ذلك قد حصل بالفعل، وقد أرغم نتانياهيو على توجيه شرطة الاحتلال لمنع المتطرفين الصهاينة من انجاز مسيرتهم نحو المسجد الأقصى، كما حقّ له أن يزعم أن «شعبنا توحّد بكل مكوناته وتياراته في هذه المعركة، ووقف في خندق الدفاع عن المقدسات» حيث حقق التدخل السريع والواثق للمقاومة لفك الحصار عن المصلّين المعتصمين بالمسجد الأقصى ما لم يحققه، لا مجلس الأمن، ولا الاجتماع الطارئ لوزراء خارجية العرب، الذي خرج كالعادة ببيان باهت توقف عند الشجب وتهديد محتشم باللّجوء إلى محكمة العدل الدولية ومجلس الأمن، الذي سبق له قبل 24 ساعة أن خذل مرّة أخرى الشعب الفلسطيني.
ما لمسناه من هذا التدّخل السريع للمقاومة لفك الحصار عن المقدسيين، وردع صلف الاحتلال، أنه نفذ تحت سقف سياسي قبل أن يكون محض ردة فعل للجناح العسكري لحماس، بما يعني أن المقاومة اليوم في غزة تتحرك تحت إمرة القيادة السياسية التي تدير المواجهة بجميع أشكال المقاومة الشعبية، العسكرية، السياسية، والدبلوماسية، وفق مسطرة إستراتجية مدروسة، أعادت كتابة «قواعد الاشتباك»، كما لم تفعلها المقاومة، منذ نشأتها، بالانتقال من فريضة الدفاع عن قطاع غزة المحاصر، إلى قيادة معركة التحرير الكبرى لفلسطين، وعلى رأسها القدس الشريف، الذي أخرج مصيره من قبضة أطراف أوسلو من السلطة الفلسطينية في رام الله، كما أخرج من يد عرّابي «صفقة القرن» ومن كان يراهن على سلام عربي صهيوني، يشيد على حساب الشعب الفلسطيني وعلى حساب القدس الشريف.
بناء الوحدة الوطنية الفلسطينية تحت سقف المقاومة الشاملة
قبل أسابيع من اجتياح المسجد الأقصى ورد المقاومة، كان السقف الوحيد المطروح على الشعب الفلسطيني «إجراء انتخابات تشريعية» كانت معطلة منذ سنوات، وعادت السلطة الفلسطينية، التي يقودها محمود عباس، لتعطيلها تحت ضغوط صهيونية أمريكية وعربية، وتجدّد الحديث مرّة أخرى عن استحالة تحقيق وحدة وطنية ولو تحت هذا السقف السياسي المنخفض، ليأتي هذا التدخل القوي المدروس للمقاومة، ليمنح سقفا آخر محمودا لمسار توحيد الشعب الفلسطيني وهو سقف المقاومة كخيار لا بديل عنه، كفيل بتعضيد الموقف التفاوضي للفلسطينيين في أي مسار قادم، سواء تحت سقف مستنسخ من مسار أوسلو، أو ورقة السلام العربية، أو أي مسار من مؤتمر دولي للسلام، يفي مسبقا بالحدود الدنيا للمطالب الفلسطينية: « قيام دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة على الضفة وغزة وعاصمتها القدس بحد 4 حزيران»، وهو الخيار الذي ينهي حتما وفي الحد الأدنى الحلم الصهيوني، ويترك للوقت وللتناقضات الخطيرة التي تسري في عروق الكيان لإنهاء تفكيكه من الداخل».
الردّ السريع والقوّي للمقاومة، وخاصة عبر الجناح العسكري لحماس، يكون قد أجهز على ما بقي من أطماع المجرم نتانياهو الذي خسر معركته مع أهالي القدس، كما مع المقاومة في غزة حتى قبل أن يبدأها، وما لم ينفذ الاجتياح البرّي لقطاع غزة الذي طالب به الجناح المتطرف من أنصاره وحلفائه، فإنه سوف يخرج من اللعبة السياسية الداخلية نهائيا، بحرمانه من فرصة تشكيل الحكومة، وقد وضعته المقاومة أمام تحد أحلى ما فيه مر: المجازفة باجتياح برّي قد يكلف الجيش الصهيوني خسائر تفوق ما تكلفها في مواجهته مع حزب الله في اجتياح جنوب لبنان، أو يكتفي بقصف جوّي أعمى، لن يكون بوسعه تسويقه بيسر لرأي عام عربي، إسلامي، ودولي، حتى مع تجديد الولايات المتحدة لما وصفته بـ «حق الكيان في الدفاع عن النفس» وفي نفس الوقت سوف يبرّر هذا القصف الأعمى للمباني والأهداف المدنية ردا صاروخيا مكثفا، بات الآن قادرا على الوصول لتل أبيب وحيفا والقدس بصواريخ دقيقة بعيدة المدى، قد أصابته في مقتل بتحييده في الضربة الأولى لمطار بن غوريون، وقد تطال المنطقة الصناعية في حيفا، بل وقد تستهدف مركب ديمونا النووي الذي لم تعد القبة الحديدية قادرة على تأمينه.
خراب «بيت المطبّعين» عمران «بيت الممانعين»
الطرف الثاني الذي يكون قد أصيب بصدمة هو الطرف العربي المطبع، الذي خدعته وعود ترامب وأجبرته على حرق جميع أوراقه، وقد أخرج من اللّعبة، وفقد ما كان له من أوراق ضغط على السلطة الفلسطينية، كما ظهر في حالة من الضعف والانكفاء في الاجتماع الأخير لوزراء الخارجية العرب، بما يعد بعودة قوّية قادمة لمحور المقاومة والتصدّي، يتقدمه الموقف الجزائري القوّي والثابت، الذي كان قد استبق الأحداث بشجب وتسفيه الهرولة نحو التطبيع المجاني، وبحثه جامعة الدول العربية على دعم الشعب الفلسطيني وحمايته من الصلف الصهيوني، ومن تداعيات التطبيع المجاني مع الكيان الصهيوني، وربما قد تشي المكالمة الهاتفية، أمس الأول، بين الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون والرئيس التركي آردوغان بمسار آخر يتجاوز الفضاء العربي نحو تنشيط الفضاء الإسلامي القريب: تركيا وإيران تحديدا، قد يساعد قوى الممانعة في العالم العربي على تجاوز قوى التعطيل من المطبّعين العرب، وهو مسار قد توفرت له في السنوات القليلة الماضية أكثر من فرصة، مع تخفيض التوتر مع الجارة إيران، وحاجة تركيا إلى الفضاء العربي في مواجهات مرتقبة مع خصومها في الحوض الشرقي للمتوسط والبحر الأسود، وقد تلعب القضية الفلسطينية، مع هذه العودة القوّية لخيار المقاومة، دور المحرك لبناء «تضامن إقليمي عربي إسلامي» تفرضه التحدّيات والتهديدات المستجدة في عصر ما بعد كورونا، وبداية تفكك النظام العالمي القائم.
أعادت كتابة قواعد الاشتباك مع العدّو وسُبل الوحدة تحت سقف المقاومة
غــزّة المُـحـاصـرة تـنـتصـر لـلــقـدس المحتـلـة
بقلم: حبيب راشدين
شوهد:621 مرة