العيش معا في سلام: قيمة حضارية وضـرورة حياتية

بقلم: شويدر عبد الحليم

يحتفل العالم باليوم السادس عشر (16) ماي بمناسبة أطلقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة «العيش معاً في سلام» بموجب قرارها 72/ 130، وذلك بغية تعزيز السلام والتسامح والتضامن والتفاهم و التكافل، والإعراب عن رغبة أفراد المجتمع في العيش والعمل معاً، متحدين على اختلافاتهم لبناء عالم ينعم بالسلام وبالتضامن وبالوئام.

 على غرار الدول الأخرى في جميع أنحاء العالم، تحتفل الجزائر باليوم العالمي «للعيش معاً في سلام»، الذي بادرت به ولعبت دوراً هاما وحاسماً في إعلان الأمم المتحدة باعتبار يوم 16 ماي من كل سنة كيوم عالمي «للعيش معاً في سلام»، فهو بمثابة عرفان للمبادرة الجزائرية التي تعكس الرصيد الوطني القائم على العدالة والانصاف وحسن الجوار واحترام الآخر وهي المبادئ المتجذرة في القيم الحضارية والثقافية والدينية للجزائر والسعي الدائم للعيش معا في إخاء وتضامن ووسطية وتسامح ورفض كل اشكال التطرف والكراهية، وفي نفس الوقت فهو فرصة لتعزيز القيم الأخلاقية والثقافية والاجتماعية والإنسانية التي يرتبط بها الشعب الجزائري بشكل أساسي الهادفة قيم التعايش ونبذ الفرقة والانقسام هذا من جهة ومن جهة أخرى تعزيز هذه المبادئ السامية لهذا اليوم العالمي التي تصبو إلى غرس ثقافة تعايش المجتمعات الإنسانية رغم اختلافاتها وأن تتمتع بالقدرة على الاستماع إلى بعضها البعض للتعرّف وتبادل الاحترام، والعيش معاً في سلام.
ان «العيش معًا في سلام» كشعار و قيمة حضارية وضرورة حياتية يقتضى احترام الرأي و الرأي الآخر وقبول الاختلافات والخلافات وحسن الاستماع مع إظهار الاحترام والتقدير للآخرين والعيش في أمان؛ وأن يتعايش المجتمع رغم اختلافاته وأن يتمتع بالقدرة على الاستماع إلى بعضه البعض للتعرّف وتبادل الاحترام.
الإنسان كائن اجتماعي لا يستطع أن يعيش بمنأى عن محيطه الإنساني مما يتطلّب ضمان علاقة يسودها الأمن والاستقرار والسلام، رغم أن هنالك مشتركات من مصالح أو مكاسب بين بني الإنسان يستأثر بها البعض دون الآخر تؤدي كثيرا إلى زعزعة واضطراب الاستقرار، وهذا ليس جديداً، وقد عاشت الإنسانية منذ بدء الخليقة في صراع دائم مع بعضها البعض كما ذكر لنا التاريخ شواهد كثيرة لذلك في مختلف بقاع العالم. ولكن أكثر الصراعات إضراراً بالعلاقات الإنسانية ما ينسب لأسباب دينية أو فكرية سببها التعصّب، أضف إلى ذلك العنصرية أو الشعوبية التي يرى أصحابها أنهم شعب الله المختار. هذه الصراعات التي ما برحت تهدّد البناء الإنساني تتطلب حلولاً عاجلة تحافظ على الحدّ الأدنى من أسباب التعايش رغم الخلافات والاختلافات.
في هذا الاطار، ينبغي التركيز على ضرورة أن يعيش الجميع في سلام باعتماد الحوار وسيلة مثلى لحل الخلافات بين الأطراف أفرادا أو جماعات، وعلى كل فرد أن يعلي من شأن نعمة السلام والتمسك بما يتحقق بسببه من سعادة وتنمية بشرية مستدامة خاصة في هذه المرحلة حيث تشهد الجزائر في الفترة الأخيرة انتشاراً مقلقاً لمنسوب خطاب الكراهية والعنصرية والعرقية، لا سيما من بعض الأوساط حيث تحولت بعض منصات التواصل الاجتماعي إلى فضاءات لنشر مقالات مسيئة لأسس ومقومات الوحدة الوطنية والانسجام المجتمعي. وأضحت بعض الأوساط تبث عبر مواقع التواصل الاجتماعي مضامين وخطابات الكراهية والازدراء والنعوت المشينة تجاه شخص أو فئة من المجتمع وذلك لاعتبارات جهوية ودينية وشخصية.
وفي هذا السياق، يمكن القول إنّ «خطاب الكراهية يهدد المجتمع بشكل خطير، بسبب التلاعب في قضايا الهوية وتشجيع مجموعات تبث خطاب الكراهية، بدلاً من نشر خطاب التسامح واحتواء التنوع الثقافي القائم في الجزائر».
إننا اليوم بحاجة إلى بذل مجهود بصدق وإخلاص لخدمة الوطن والسعي لتبليغ هذه الرسالة، أي العيش معا في سلام هو أن نتقبل اختلافاتنا وأن نتمتع بالقدرة على الاستماع إلى الآخرين والتعرف عليهم واحترامهم، والعيش معًا متحدين في سلام. كما إننا بحاجة ان نغتنم هذه المناسبة كأفراد ومواطنين للمساهمة في تعبئة جهود المجتمع لتعزيز السلام والتسامح والتضامن والتفاهم والتكافل، والإعراب عن رغبة أفراد المجتمع في العيش والعمل معاً، متجاوزين بذلك اختلافاتهم لبناء مستقبل ينعم بالسلام وبالتضامن وبالوئام وبترقية ثقافة الحوار.
إن السعي لتحقيق السلام شرط ضروري ليتمكن كل فرد من أفراد المجتمع أن يعيش بكرامة ويتمتع بالأمن والتنمية المستدامة. وهذا ما أكده الأمين العام السابق للأمم المتحدة -كوفي عنان- عند ترشيحه لجائزة نوبل للسلام قائلا: «قد علمتني أربعون سنة من العمل مع الأمم المتحدة دروسا عديدة، لكن درسا منها يظل الأهم في خاطري، وهو أن المجتمعات الصّحية والمستدامة تقوم على ثلاث ركائز هي: السلام والأمن، والتنمية المستدامة، وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان. ولا يمكن أن يكون هناك أمن طويل الأجل بدون تنمية؛ ولا يمكن أن تكون هناك تنمية طويلة الأجل بدون أمن؛ ولا يمكن أن يدوم رخاء مجتمع بدون سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان».
السبيل للعيش معا في سلام
من طبيعة الانسان الخلاف في الرأي و العمل والممارسة ويحتكم الانسان في الخلاف إلى العقل والمنطق والدين والقانون، كما يحتكم إلى العاطفة والاخلاق والتربية والسلوك العام.
 ومن ثم يسطع الخلاف بين الناس سلوك حضاري كلما احتكموا إلى العقل والمنطق والقانون والاخلاق والتربية المستقيمة. فإذا كان ذلك سلوكا فإن العمل على تجسيد ذلك كله أصبح من واجب الانسان كذلك أن يبحث عن سبل ترقية شروط العيش معا بسلام بتغليب القيم الانسانية وأساليب الحوار والتعاون والتضامن. كما ان تكريس أهم المبادئ والقيم الوطنية والتجارب و الدروس القيمة التي أصبحت في رأيي منبع العيش معا في سلام في ظل المشروع الوطني للتغير وبناء الجزائر الحديثة على أسس الحرية، العدالة الاجتماعية، المساواة الشاملة، الوحدة الوطنية، سيادة الدولة وقوتها وهيبتها، الدفاع عن حرمة الوطن ومبادئ الديمقراطية السليمة.
 ومن السبل التي يمكن الاستحضار بها في وجداننا وحسّنا المدني تلك القيم الراسخة في وعي وضمير المجتمع الجزائري، والتي انصهرت وانبثقت من صلب إحداث في مختلف الأزمنة التي مرّت على بلادنا كقيم التضامن و التكافؤ والاتحاد خاصة خلال المحن،       والشدائد والاحداث الأليمة التي تحدق بالوطن والمجتمع بين الحين والآخر، وقيم الغيرة والتمسك بالوحدة الوطنية و مقومات الهوية الوطنية والذود عنها في كل الظروف والأحوال، وقيم التسامح و الولاء للدولة ومؤسساتها الشرعية، وقيم المواطنة الصالحة ذلك إذا ما توفرت القدوة المثالية لدى أولياء الامر وأبناء الوطن.
ومن التجارب والدروس كذلك التي يمكن استخلاصها في هذا الشأن، أنه إذا ما اهتدت القوى والاطراف الحية والفاعلة في المجتمع الى أساليب الحوار والتشاور والاتفاق للخروج من الأزمات الحادة والمحن التي قد تعصف بالدولة و الوطن والمجتمع بين الحين والآخر،كمسعى وسبيل لتحقيق عوامل الاستقرار المؤسساتي والأمن والسلام الاجتماعي والحفاظ على هيبة الدولة و قوّتها، فإن ذلك سيكون شرفا للجميع و الحل الأفضل لتحقيق المصالح العامة الحيوية والمصالحة الخاصة في نفس الوقت بل فحسب، فإن ذلك سيبقى راسخا كإحدى مقوّمات المشروع الوطني المنشود ضمن الاهداف والمحاور الهامة لبناء الجزائر الجديدة.  يمكن القول بأن المقومات الأساسية للمشروع الوطني تتجسد في تعزيز المبادئ والقيم التي تساعد في تأسيس النظام الوطني الجديد الذي يساهم في تحقيق المشروع الوطني في بناء الجزائر الجديدة.
تحصين الجبهة الداخلية
إن الجزائر دولة ومجتمعا ونظاما اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا دوما تواجه تحديات نظرا لهاجس الخوف من قوتها وهيبتها وقدرتها على الاشعاع و التأثير في المحيط الإقليمي والعالمي و لموقعها الاستراتيجي ووفرة ثرواتها الاقتصادية المتعددة والمتنوعة وحيوية سكانها، فضلا عن مواقفها ومبادئها تجاه القضايا العادلة. هذه المكانة الطبيعية لبلادنا تجعلها دائما عرضة لمخططات وحملات، بل وحتى هجومات  غايتها زرع الفتنة بين أبناء الشعب الواحد وتحريك النعرات وبث سموم الفتن، تغذيها جهات أجنبية مشبوهة هدفها تفكيك المجتمع والنيل منه، بإثارة الفتن، والنعرات العنصرية وما شبه ذلك: فمن واجبنا التصدي لهذه المخططات بالفكر والعقل، وتحصين الجبهة الداخلية»، وعدم الانسياق وراء ذلك، إذ تتدخل أطراف متسترة الغايات والأهداف، غير محددة الهوية، تعمل على تغذية عناصر التطرف والكراهية من أجل خدمة مصالحها وبذلك تشن حربا تندرج بما يعرف اليوم بحروب الجيل الخامس لمالها من تأثيرات سلبية على الجبهة الداخلية يمكنها أن تساعد في تدمير المجتمع واستهداف الشباب ونشر الفساد الأمني والفكري، وعليه فإن مجابهة هذه التهديدات وتداعياتها وصدها لن يكون فعالا إلا بتعزيز صمود الجبهة الداخلية، وجاهزيتها، لتتمكن من دعم القوات المسلحة، والأجهزة الأمنية، والوقوف معا صفاً واحداً للمحافظة على أمن واستقرار الوطن.
أن الجبهة الداخلية المتينة، ووعي وشعور المواطن بالمسؤولية، يسهمان إسهاما كبيرا في تحصين الجبهة الداخلية ضد الأحداث المحدقة بالأمن والاستقرار.
في مثل هذه الظروف لا يجوز ان يبقى تحصين الجبهة الداخلية شعارا نرفعه وفقط. فالوضع الداخلي لم يعد يحتمل الشعارات، بل هو في حاجة ماسة لعمل جاد ومستدام. هكذا فقط نحمي هذا البلد بتظافر سواعد أبنائه وجهود مؤسساته في آداء كل دوره و بالخصوص الدور الذي تلعبه المؤسسات التربوية والدينية والثقافية والاجتماعية، ومسؤوليتها الكبيرة من حيث تنوير وتوعية أفراد المجتمع كافة، إلى خطورة  مثل هذه الحملات والدعايات.
إن المرحلة تتطلب مهما كانت المواقف والاتجاهات والمطالب، الانتباه لخطورتها، وأن يحشد الكل طاقاتهم وجهودهم نحو الأولوية التي تعلو على الأولويات، وهي درء الخطر عن الجزائر، والحفاظ على أمنها واستقرارها، واعتبار أنفسهم شركاء للدولة.
ونحن نعيش هذه الفترة الراهنة في زمن تفاقمت فيه أسباب القطيعة و عوامل الفرقة وأمام دعاة الصراع والتفرقة وأمام مروّجي الكراهية وما ينجر عنها من عنف متعدد الأشكال كالانغلاق على الذات ورفض الآخر واحتقاره والتمييز بشتى أشكاله وكره الآخر وهو ما يتنافى مع تعاليم ديننا الحنيف، دين السلـم والسلام دين التعايش والتشاور والحوار والتفاهم مثلـما تؤكد عن ذلك قرون من تاريخ الإنسانية وما تعبر عنه الأبعاد والقيم الإنسانية والاجتماعية المستوحاة من الاخوة الانسانية التيكانت بمثابة درس إنساني عالمي ونموذج لإرساء السلام في العالم ونبذ العنف.
ومن منطلق هذه القيم السمحة للإسلام، نستذكر صمود الشعب الجزائري و توفيقه في الخروج من مأساته الوطنية من إرهاب وحشي ومقيت كافحته بلادنا في عزلة قاسية وفتنة تغلبت عليها الجزائر بفضل الإرادة الشعبية. لقد سمح هذا الخيار النبيل الـمنبثق من قيم الإسلام بإصلاح ذات البين وتوحيد  الطاقات وضم الجهود والآمال على الخصوص من أجل بلوغ الغاية الوحيدة التي تستحق السعي من أجل طلبها ألا وهي تعزيز الوحدة الوطنية وتوثيق تماسك شعبنا وصون سيادتنا الوطنية والعمل معا في مسعى تضامني من أجل بناء جزائر حديثة يفخر كل واحد و واحدة منا بالانتماء إليها.
التفاهم قيمة دينية لحضارة إنسانية
في ظل تعدد مفاهيم الكراهية وأدواتها وتجلياتها وكيف أن انتشار خطابات الكراهية أصبح يشكل أحد أهم عوائق التحولات الاجتماعية بسبب ما يروّج في الفضاء الافتراضي من شائعات وفتن تنال من وحدة الصف ونسيج المجتمع،  ويبقى التفاهم المبدأ الذي يهدف إلى ترسيخ منهج ذو قيمة دينية وحضارية وفي نفس الوقت كسلوك إنساني لبلوغ غاية من الغايات.
إن التعايش بين الشعوب أمر يرتضيه الشرع والعقل، فضلاً على أنه ضرورة حياتية، حتى يقبل كل بالآخر، ويعيش كل الناس متسامحين ومتحابين، على اختلاف انتماءاتهم وأيديولوجياتهم لأن هناك قواسم مشتركة تكاد تكون هدفا لكل الفئات الاجتماعية.
إن الإسلام يبني ويجسد العلاقات الإنسانية، سواء كانت بين الأفراد أو الجماعات، على التسامح، والتواد، انطلاقا من قول الله تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ»، بل إن الإسلام منذ ظهوره قد تبنى الدعوة إلى الحوار، والتعايش السلمي بين البشر، فضلا عن ذلك فإن مواجهة خطابات الكراهية المنتشرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي تقتضى أيضا العمل و تجسيد العزم والحزم من حيث الاجراءات حيث أصبح من الضروري تفعيل آليات تطبيق قانون مكافحة التميز وخطاب الكراهية لصيانة الوحدة الوطنية والانسجام المجتمعي ووحدته خاصة من خلال حملات توعية بخطورة هذه الخطابات على المجتمع. فإذا كان من يريد زرع الياس فهناك من يزرع الأمل والأمل ما زال معقودا في أن يتعايش أبناء المجتمع بكل فئاته المختلفة مع بعضهم البعض.
ختاما لهذه المساهمة الخاصة، من حقنا القول من حق بلادنا أن تفتخر بمبادرتها كوسيلة لتعبئة جهود المجتمع الدولي لترويج لثقافة السلام والتسامح والشمول والتفاهم ضمن مسعى يهدف إلى ببناء عالـم أفضل قائم على التسامح والاحترام الـمتبادل في كنف الاختلاف والتنوع والتضامن.
ومن الحق الإيمان بأن هذا المسعى كفيل لإحداث نقلة نوعية في طريق بناء ثقافة التعايش والعيش في إطار مجتمع مفتوح يقبل بالتعدد ويعمل على ضبط الحريات وضمانها بما يسمح بإحداث القطيعة مع الكراهية واستعداء الآخر. وهو كذلك مبدأ كفيل أيضا بإقامة أدوات لتعزير أساليب الحوار والتشاور لتحقيق عوامل الاستقرار المؤسساتي و الأمن والسلام الاجتماعي، وأن تحقيق ذلك سيكون شرفا للجميع والحل الأفضل لتحقيق المصالح العامة الحيوية و المصلحة العليا للوطن في نفس الوقت، بل إن ذلك سيبقى راسخا كإحدى مقومات المشروع الوطني المنشود ضمن الأهداف والمحاور الهامة لبناء الجزائر الجديدة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024