أدّت الثورة في تكنولوجيا المعلومات إلى تغييرات عميقة في إدراكنا لذواتنا وللعالم، تغييرات حدثت، وتحدث، بسرعة كبيرة تتعدّى حتّى قدرة الإنسان على الاستيعاب. قد نلمس هذا التغيّر الإدراكي حين انقطاع النت مثلا، حيث نكتشف فراغا رهيبا في عالمنا الحقيقي يسببه غياب «عالمنا الافتراضي». أدّت هذه التغيرات إلى ظهور مفاهيم جديدة على غرار المجتمع الافتراضي، الذي أنتج «هُويات افتراضية»، حتى بات الفصل بين الواقعيْن لدى البعض ضربا من ضروب الخيال.
نحاول في هذا المقال أن نقترب، ولو نسبيا، من هذا المفهوم الجديد، ونعرض بعضا من آثاره النفسية والاجتماعية.
أوجه متعدّدة لمفهوم واحد
عديدة هي محاولات تعريف الهُوية (بضمّ الهاء) بتعدّد المجالات والاختصاصات، مثلا: يرى علم الاجتماع أن الهُوية هي «الشيء الذي يُشعر الشخص بالاندماج في المجتمع الذي يعيش فيه، والانتماء إليه»، وأنّها «مجمل الشارات والسمات الشخصية لدى الإنسان منذ تلك اللحظة التي يعي فيها الطفل كونه مخلوقا منفصلا عن أمه». أما في الأنثربولوجيا الاجتماعية، فتقترب في اتجاه أول من الهوية بوصفها حقيقة ثابتة الانتماء لا يمكن تغييرها، تحددها عوامل بيولوجية كالنسب. أما الاتجاه الثاني فيرى الهوية في الانتماء لأفكار أو توجهات، يحددها الفرد لنفسه، وهذه بصفتها اختيارية ليست ثابتة بل متغيرة.
ولا يختصّ موضوع الهُوية بالمستوى الفردي فقط، بل يمكن أن يرتقي إلى المستوى الجماعي، أو أن يجمع بين المستويين، الفردي والجماعي معًا.
مثلا، تُعرّف الهوية الوطنية بأنها شعور الشخص أنه جزء من أمة، ورغم كون هذا الشعور فريدا لدى كل شخص، فإنه، بالنسبة لعلم الاجتماع، استيعاب لمعايير الهوية، الناتجة عن الرؤية الدائمة لـ «القواسم المشتركة» للأمة، والتي يمكن أن تتخذ شكل الرموز. وتعمل الدولة، عن قصد (عموما) على تنظيم هذه الرؤية، من أجل طبعها لدى الأفراد منذ طفولتهم.
كما يحدّد مفهوم الهوية الوطنية مجموعة «الخصائص المشتركة» بين الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم ينتمون إلى نفس الأمة. ولكن هذا لا يمنع من أن يتحوّل موضوع الهوية الوطنية، في حالات عديدة، إلى موضوع نقاش سياسي.
على صعيد آخر، تُطرح الهُوية الجماعية كنظام (نسق) وككل، له خصائصه العامة، دون أن تحدّد خصوصيات الأفراد خصائص الجماعة، لأنه على العكس من ذلك، نجد أن الجماعة هي التي تحدد سمات ووظائف عناصرها. لذلك لا يوجد بالضرورة تشابه بين العناصر، ولكنها ننتمي إلى نفس الوحدة حيث تكون العناصر مترابطة. الهوية الجماعية إذن هي أيضًا كيان يجمع أفرادًا مختلفين لديهم السمة المشتركة للانتماء إلى هذا الكيان. ومن الأمثلة على ذلك ما يُعرف بالهُوية الثقافية. وفي عكس هذا الاتجاه، نجد «الحق في الاختلاف».
و»الهُويّة الجماعية»
قريبة من نظرة رولان بارت لـ «الهُوية الاجتماعية»، التي لا يتطلب تحديدها جرد كل سماتها الثقافية، وإنما التعرف على ما تستخدمه تلك الجماعة من سمات دون الأخرى مما يبرر تميزها بين الجماعات الأخرى.
ولكن هذه التعريفات المختلفة للهوية صالحة في المجتمعات بمفهومها التقليدي، فهل تتغير بتغيّر خصائص المجتمع؟
المجتمع الافتراضي والهُوية الافتراضية
حينما تحدّث رينغولد Howard Rheingold لأول مرة عن مفهوم «المجتمع الافتراضي» (أو بعبارة أدقّ الجماعة الافتراضية Virtual Community)، كان استعمال العالم لأنترنت يخطو خطواته الأولى. قصد رينغولد بمفهومه شبكة اجتماعية لمجموعة أفراد يتفاعلون فيما بينهم باستخدام وسيلة تواصل ما، وهي الشابكة في حالتنا هذه، والأهم من ذلك أنهم يتجاوزون كل الحواجز الجغرافية والسياسية ويسعون وراء الاهتمامات والأهداف المشتركة.
من جهته، لا يعتبر ميشال مافيزولي الإنسان فردا ذا هوية مستقلة، خاصة وأنه لا يجد قيمته إلا مع الآخرين، وتحدث عن ميلاد تشكيلات اجتماعية جديدة قائمة على قواعد وجدانية، وتتشكل هذه «القبائل» عبر الشبكة الافتراضية في إطار ظاهرة أطلق عليها اسم «القبلية الجديدة».
منذ إطلاق شبكة الويب العالمية World Wide Web (المعروفة اختصارا بـ WWW) لأول مرة سنة 1991، عرفت تكنولوجيا المعلوماتية تقدّما وتطوّرا غاية في التسارع، وواكب ذلك ظهور إصدارات جديدة، نقلتنا من الويب 1.0 إلى الويب 2.0 وحتى 3.0. ما هو الفرق بين هذه الأشكال الثلاثة من الويب؟ ببساطة الويب 1.0 هو بوابة معلومات، بحيث يتلقى المستخدمون المعلومات بشكل سلبي (لا تفاعلي) دون أن يكون لديهم القدرة على نشر التعليقات أو ردود الفعل. بالمقابل، يشجع الويب 2.0 على المشاركة والتعاون وتبادل المعلومات. ومن الأمثلة على تطبيقاته نذكر شبكات التواصل الاجتماعي بمختلف أشكالها، على غرار فايسبوك وتويتر ويوتيوب وغيرها.
أما الويب 3.0 فيقدّم على أنه شابكة دلالية تشير إلى المستقبل. ففي هذا الجيل من الويب، يمكن لأجهزة الكمبيوتر تفسير المعلومات مثل البشر، وإنشاء وتوزيع محتوى مفيد مصمّم خصيصًا ومكيّف بذكاء حسب احتياجات المستخدمين. على سبيل المثال، «تيفو» هو مسجل فيديو رقمي (يسجل البرامج التلفزية مثلا) ويمكن لبرنامج التسجيل الخاص به البحث في الويب وتشغيل كل ما يجده للمستخدم بناءً على تفضيلاته.
بعبارة أخرى، إذا كان الويب 1.0 هو الويب البسيط الذي يربط بين المعلومات، فإن الويب 2.0 اجتماعي يربط بين الناس، والويب 3.0 دلالي يربط بين مختلف أشكال المعرفة.
ولعلّ من المثير للاهتمام في هذا الانتقال بين أجيال الويب، هو أن الجيل الأول كان يسمح للمستخدم بإخفاء هُويته الحقيقية، بينما صار الأمر أصعب نسبيا في الجيل الثاني. وقد أثارت العلاقة بين الهُوية «الحقيقية» الخاصة بحياتنا في سائر الأيام، والهُوية الافتراضية، ومدى مطابقة الثانية للأولى، وآثار ذلك السيكولوجية والاجتماعية وحتى السياسية، أثارت انشغال الدارسين في مختلف الحقول العلمية. فما هو المقصود بالهُوية الافتراضية، التي تُعتبر نتاج المجتمعات الافتراضية؟
تعرّف موسوعة الويب «ويبوبيديا» الهُوية الافتراضية بأنها الشخصية التي يتم إنشاؤها من قِبل المستخدم الإنسان الذي يعمل كصلة وصل بين الشخص الطبيعي والشخص الظاهري للمستخدمين. بعبارة أخرى فإن الهُوية الافتراضية هي السمات والمواصفات التي يقدمها الفرد للآخرين على النت.
العلاقات الافتراضية
في مقال أكاديمي جدير بالاهتمام، اعتمدت حسيبة قيدوم على العوامل الأربعة التي تلعب دورا هاما في تطور أي علاقة، وحاولت إسقاطها على العالم الافتراضي.
العامل الأول هو تأثير الجوار أو القرب، حيث كلما اقترب منا المرء ماديا (من حيث المسافة) كلما زادت فرصة الانجذاب نحوه. وهذا العامل غير متوفر بالضرورة في العالم الافتراضي مع انتفاء الحاجز الجغرافي، الذي قد يعوضه الحاجز اللغوي مثلا، ما يعني أن التبادلات تحدث ضمن «الحدود الخيالية للثقافة الافتراضية».
العامل الثاني هو الظهر الفيزيائي (أو الشكل)، وهو عنصر أساسي في الانجذاب الأولي، وترى حسيبة قيدوم أن هذا العامل أيضا فقد معناه في أنترنت، التي «هدمت الحواجز الفيزيائية، فالجسد قد ترك مكانه للفكر» على حدّ تعبيرها. ونرى أن هذا الرأي ليس صحيحا دائما، بل قد يكون «الواقع» الافتراضي عكس ذلك تماما. وكمثال نذكر شبكة إنستغرام، التي تعتمد على مشاركة الصور بشكل رئيس، مع ما يحمله ذلك من تركيز على الشكل. أكثر من ذلك، تكون الصور المشاركة في أحيان كثيرة معدّلة، ومحسّنة، كما أن روّاد شبكات التواصل لديهم نزعة مشاركة ما هو إيجابي في حياتهم أكثر من أي شيء آخر، ما قد يخلق إحساسا عند الآخرين بأن الحياة الطبيعية النموذجية هي ما تنقله تلك الصور من مظاهر الترف والراحة، من ملابس جميلة وجلسات في مطاعم فاخرة أو على شاطئ البحر، وهذا بطبيعة الحال بعيد كلّ البعد عن الصحّة.
العامل الثالث هو التشابه، سواء في الآراء أو الأذواق، وهو ما يعزّز حظوظ نشوء علاقة بين شخصين أو أكثر. أما العامل الرابع والأخير فهو التقدير الإيجابي، وإذا كانت الحياة الاجتماعية قد تفرض علينا أن نبتسم أو نجامل، فإن الواقع الافتراضي قد يكتفي بجملة إطراء أو الدخول في مراسلة بشكل مباشر، وهو ما تسهله الإنترنت بشكل كبير.
أمراض؟
ما تزال بعض الأسئلة ملحّة فيما يتعلّق بالذات في العالم الافتراضي..مثلا، هل يجوز الحديث عن هوية «افتراضية» وأخرى «حقيقية»؟ ألا يمكن اعتبار الهوية الافتراضية قد تحوّلت، بشكل أو بآخر، إلى هوية حقيقية أو على الأقل مكوّن من مكوّناتها الرئيسة؟
تشير د ــ ثريّا السنوسي، في بحث لها، إلى غزارة الدراسات الغربية الميدانية التي تصدّت لهذا الموضوع، وتذكر على سبيل المثال دراسة حول مفهوم الذاتية الحقيقي مقابل الهوية الرقمية على شبكة التواصل الاجتماعي فايسبوك، قام بها ماريانا ماركوفسكي ومجموعة من الباحثين سنة 2014، وتساءلوا حول ملامح الشخصية الافتراضية وعلاقتها بالهوية الحقيقية للمستخدمين لمواقع التواصل الاجتماعي. وأظهرت نتائج الدراسة أنه لا يوجد طالب واحد مع مفهوم الذات السلبي للغاية عبر الفايسبوك، و97.6 في المائة لديهم مفهوم النفس الإيجابي بشكل عام، وأن الهوية الرقمية لطلاب العينة هي شخصية حقيقية تمامًا، حيث أكّد الطلاب المشاركون في العينة أنهم صرّحوا بهويتهم الحقيقية وبياناتهم الصحيحة في صفحات الفايسبوك الخاصة بهم. واستنتجت الدراسة بأن نتائجها تتعارض مع الافتراض العام بأن الشبكات الاجتماعية قد استخدمت كأداة لبناء هويتنا المثالية التي قد تتناقض مع هويتنا الحقيقية، إذ تظهر النتائج أن الهوية الرقمية هي نفسها في الواقع مع مفهوم الذات في الحياة الحقيقية.
وحتى حين يلجأ مستخدمو أنترنت إلى «الهوية المقنعة» كما يسميها دوريان ويسنيوسكي وريتشارد كوين، فإن هذا القناع لا يخفي بشكل تام ما وراءه من شخصية الإنسان، فقد يدلّ القناع على أحد اهتمامات المرء، أو على ميوله الفنية مثلا، أو حتى على خوفه المفرط من كشف حقيقته للآخرين.
بالمقابل، قد يكون للعالم الافتراضي أمراضه، تماما كما للعالم الحقيقي أمراضه. منذ 1999، لاحظ دومينيك وولتون أنه منذ ظهور الإنترنت ظهر ما يسمى العزلة (أو الوحدة) التفاعلية، حيث بإمكان الفرد أن يكون مستعملا ممتازا للنت، لكن لديه أكبر الصعوبات في أن يدخل في حوار مع من بجانبه في مقهى الإنترنت..كما تحذّر دراسات أخرى من تطوّر ظاهرة الإدمان على الإنترنت، أو التبعية المفرطة لاستعمالها. من جهة أخرى، قد تخلق الجماعات الافتراضية، أو «القبائل» الافتراضية كما سبق ذكره، تحجّرا في الرؤى وانغلاقا على الرأي في مواضيع شتى، سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، في غياب مبدأ تبادل الأفكار، لأن الانتماء إلى مجموعة افتراضية ما قد يخلق الإحساس بأن رؤية هذه الأخيرة هي الرؤية السائدة، والصحيحة وجوبا، ولا يغذّي المرء سوى بأفكار تلك المجموعة ويحجب عنه الأفكار الأخرى (التي قد تكون أفكار الأغلبية في الواقع).
ثورة غير مسبوقة
من كلّ ما سبق، يمكن القول إن للمجتمع الافتراضي قوانينه الخاصة التي يصعب التحكم بها، لتغيّر المعايير وسلم القيم، والتمايز الاجتماعي وانتفاء التواجد الجسدي. كما أن تصّرف الفرد يختلف تحت تأثير عوامل شتى، على رأسها غياب الرقابة (نسبيا) وغياب الحواجز الفيزيولوجية والضوابط الثقافية والاجتماعية، ما قد يدفعه إلى التعبير عن مكنوناته بأريحية أكبر، قد تتجاوز الحدود وتصل مرحلة مرضيّة، سواءً بالفصل التامّ للهوية الافتراضية عن الحقيقية، أو العكس، الذوبان التامّ للأولى في الثانية. وكما يمكن للمجتمع الافتراضي أن يخلق أشكالا جديدة من الترابط والتضامن، يمكن له أيضا أن يعزّز مظاهر السلبية والاكتفاء بالتضامن «الافتراضي»، أو حتى الانعزالية والانطواء على الذات.
وبغضّ النظر عمّا إذا كانت قيم ما بعد الحداثة هي التي أحدثت هذا التفكّك والتشظي للمجتمعات بشكلها التقليدي، وأن المجتمعات الافتراضية تعززت لملء هذا الفراغ، أو إذا كان هذا التشظي والنزوع إلى الفردانية نتاجا لعوامل أخرى، فإن أثر ثورة التكنولوجيا المعلوماتية على حياتنا، في العقود القليلة الماضية، يتجاوز بأضعاف مضاعفة تأثير أي اختراع من الاختراعات على مدار تاريخ البشرية، خصوصا وأن هذا التأثير يطال إدراكنا لذواتنا، ومنه إدراكنا للعالم.