في ظل تفشي الكورونا المستجد، هذا الوباء القاتل الذي بات يكتسح كل بقاع العالم بمختلف قاراته وأجناسه، لا يفرق بين لونِ ولون، ولا بين مَنْ يعيش في أعلى ناطحات السحاب، وبين مَنْ يعيش تحت الأرض وفي الكهوف والأدغال أو الجبال، وحيث يسارع العلماء والباحثون والأطباء لإيجاد علاج ناجع لهذه الجائحة بدأتِ التساؤلات تلوح في الأفق عن شكل العالم الجديد الذي سيظهر بعد وباء كورونا.
وفي تحليلي الخاص، أن خارطة هذا العالم الجديد ستتغير بشكل كبير، بالاستناد إلى تغلب الصين على هذا الوباء الذي ظهرت فيه أول بؤرةٍ بالتراب الصيني.
فقد بات أكيدا هذه المرة أن الصين ستخوض حربها الناعمة بكل هدوء للانفراد بزعامة هذا العالم اقتصاديا وتجاريا في بداية الأمر، قبل أن تصبح حتى قبل احتفالها بالذكرى المائة عام 2049 لتأسيسها القوة الأولى عالميا حتى في المجال العسكري، كما بدأ التخطيط له منذ السبعينيات.
فالصين التي كادت ثورتُها البروليتارية الثقافية التي أعلنها الزعيم الراحل ماوتسي تونغ الذي كان يوصف بـ «بالشمس الحمراء في قلوب الصينيين» في ماي من عام 1966، تُدِخِلُ هذا البلد الضارب في الحضارة في حرب أهلية مدمرة عام 1967 بسبب التصرفات الهوجاء لمن كانوا يوصفون بـ «عصابة الأربعة» من خلال تطبيقاتهم الهوجاء للثورة الثقافية، ومن بينهن «جيانغ كينغ» آخر زوجات ماو، راحت مع نهاية السبعينيات تُحِدث تغييرا جذريا في طرق التسيير وخصوصا في المجال الاقتصادي حتى صارت الآن ثاني قوة اقتصادية وثالث قوة عسكرية في العالم.
إذ تعمل قيادتها السياسية بصمت وذكاء حاد عبر استخدام المعرفة والتسيير والانضباط المحكم..
ومن البديهي أن هذه الجائحة التي أصابت عمق العلاقات عبر العالم في الصميم، وشهدت الصين بدايتها ستجعل هذا البلد يخرج منها أكثر قوة وصلابة ليكون القوة الأولى حتى قبل حلول موعد الاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس الصين في الأول من أكتوبر 2049.
وقد استنتجت ــ من خلال مراجعتي لبعض الأرقام والتحليلات التي تضمنها التقرير الذي وضعته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية للعالم في 2035 والرؤية المستقبلية التي تضمنها تقرير الأكاديمية الصينية للعلوم لعام 2030 ــ عدة نقاط، من بينها أن الصين التي كان الملاحظون قبل أعوام يرون بأنها متخلفةٌ عن الولايات المتحدة الأمريكية بـ100 عام، تزحف الآن بسرعة ضوئية مما جعلها تحقق نموا سنويا يقدر بأكثر من 9 بالمائة، بينما لا يزيد معدل النمو السنوي في أمريكا سوى بنسبة 2 في المائة.
ولعل الملاحِظ يرى أن الحرب على وباء الكورونا هي جزء من لعبة صراعٍ بين قوتين باتتا تتشكلان الآن بجلاء:
ــ قوة أمريكية كثيرة الضجيج يظهر عليها الاستعلاء أثبتت عجزها الآن مع تفشي هذه الجائحة، بل إنها باتت تتراجع بالرغم من هيمنتها الاقتصادية والعسكرية على العالم.
ــ قوة صينية ناعمة، صامتة، ولكنها تتقدم في مختلف المجالات وتتمدد بشكل هادئ بعيدا عن الضجيج عبر العالم.
ومع ذلك فإذا كان الاعتقاد السائد أن عالم ما بعد كورونا سيبلور هاتين القوتين كأمر واقع، فإنني اعتقد أن الدب الروسي لن يكون هو الآخر بعيدا عن هذه القطبية الثنائية التي لا تريد روسيا بوتين أن تنفردا وحدهما بريادة العالم اقتصاديا وتجاريا وعسكريا.
فالروس لايزالون يمتلكون ترسانة حربية قوية، وهم يشكلون ثاني قوة عسكرية في العالم، فروسيا تمتلك السلاح النووي وحاملات الطائرات والغواصات والبوارج الحربية والصواريخ التي تفوق سرعة الصوت التي بإمكانها الوصول إلى أي هدف بما فيه العمق الأمريكي.
يبقى السؤال المطروح وهو أين باقي العالم، وخاصة الاتحاد الأوروبي الذي ظهرت هشاشته خلال جائحة كورونا، حيث بات مهددا ليس بالانقسام فقط، بل بالاضمحلال خاصة في ظل الصيحات التي تعالت في مدريد وروما، وجعلت رئيس وزراء إيطاليا يكفر باتحاد فقد كل المعايير التي ولد من أجلها، خاصة بعد أن أصبحت بعض دوله تمارس عمليات قرصنة همجية على بواخر كانت متجهة لهذا البلد أو ذاك، واستولت من خلالها حتى على الكمامات والقفازات وأجهزة طبية كانت موجهة لإنقاذ مواطنين كانوا في حالة موتٍ بطيء.
ولهذا فإن هذا الصراع المتبوع بالضجيج الأمريكي والهدوء الصيني باتت المعمورة تدفع ثمنه ليس عبر الحروب التقليدية المعتادة، بل بواسطة حروب زعامة، وربما تكون حرب الكورونا والحرب على الكورونا هي الجزء الخفي منها..
وفي ظل هذه الحرب المحمومة للتنافس على ريادة العالم تزداد التساؤلات الملحة، كيف ستكون خارطة العالم خلال عشريات ما بعد كورونا.
فالتوسع الاقتصادي الصيني عبر مختلف بلدان العالم والاستثمار الذي وصل إلى العديد من البلدان، وخاصة في القارة الإفريقية سيتمدد وينتشر بقوة عقب هذا الوباء، مما يجعل من الولايات المتحدة الأمريكية في حالة ضعف وانكماش، الأمر الذي قد يجبرها على التفاوض مع العملاق الصيني ليقتسما ريادة العالم دون تجاهل الدب الروسي وإعطاء الفتات لبعض الدول الأخرى وخاصة بريطانيا التي لا يمكن للولايات المتحدة أن تتجاهلها لأسباب تاريخية وسياسية، وكذلك فرنسا التي ظلت تستنزف القارة الإفريقية على مدى عشريات من الزمن، ففرنسا التي تمتلك قوة عسكرية مهمة لن يكون وضعها مستقبلا كما كان عليه الأمر في السابق عندما كانت تستأثر بخيرات القارة، ولكن بالنظر إلى حجم قوتها العسكرية وما تمتلكه من سلاح نووي ومن حاملة طائرات تشكل قواعد عسكرية متنقلة ستحصل على فتاتها من كعكة ما بعد كورونا.
صحيح أن هناك من بات يتحدث عن أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح بوجود قوة ثانية لتنافسها وأنها بدأت تلملم أشلاءها وتسعى لتغيير نظامها بشكل جذري سواء من الداخل عبر الاهتمام بالمنظومة الصحية التي أظهرت هشاشتها أمام قوة الصين، أو بالنسبة للقوة العسكرية التي تصل الميزانية السنوية المخصصة 750 مليار دولار، لكن الذين يقولون هذا ينسون، أنه إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تخصص 3.3 بالمائة من ميزانتها على الدفاع، فإن الصين التي لا تصرح عادة بحقيقة نفقاتها العسكرية تخصص 2 بالمائة للجانب العسكري، بحيث بلغت العام الماضي 177 مليار دولار.
في ظل هذا السباق المحموم على ريادة هذا العالم المنهك بالحروب وتسابق العديد من الدول على شراء السلاح، بات بعضهم يتحجج بعائق آخر يحول دون رِيَادةِ الصين للعالم وهو عائق اللغة، بدعوى أن اللغة الصينية صعبة الفهم، وأنها لن تكون لا لغة العلوم والمعارف ولا لغة التجارة والاقتصاد أمام اللغة الإنجليزية التي عمت العالم.
وفي اعتقادي أن مشكلة اللغة لا يمكن أن تكون عائقا حقيقيا أمام الصينيين لإبراز قوتهم وهيمنتهم الاقتصادية والتجارية على العالم، ومن ذلك أن الصينيين باتوا يهيمنون على 40 بالمائة من التجارة العالمية الإلكترونية عالية الجودة.
ومن ذلك أيضا أن العديد من الناس بمن فيهم رجال الأعمال عبر العالم باتوا يسعون إلى تعلم اللغة الصينية رغم صعوبتها، كما أن الصينيين وخاصة رجال الأعمال والجامعيين والباحثين باتوا يستخدمون اللغة الإنجليزية في تعاملاتهم التجارية والعلمية في انتظار تعميم لغتهم لتصبح لغة عالمية بعد أن أصبحت لغة العلوم والمعرفة والتكنولوجيا، لغةً يسعى الناس وخاصة العاملين في حقلي التجارة والصناعة والتكنولوجيا عموما لتعلمها والتواصل بها.
ولعل مما يعزز التخمين القائل إن الصين ستصبح القوة الأولى في العالم، أن الناتج المحلي لهذا العملاق بات يحقق قفزاتٍ نوعية عكس ما هو عليه الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، ففي حدود 2040 يتوقع أن يقفز الناتج المحلي الصيني، حسب التحليلات التي سبقت جائحة كورونا، إلى 127.8 تريليون دولار أي ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الأمريكي. وهذا سيكون كافيا لأن يُزيل كل التخمينات الخاطئة التي ترى أنه لا يمكن للصين أن تَلحق بالولايات المتحدة الأمريكية..
كما أن هناك جانبا مهما يتعلق بالمنظور الذي سيبدو عليه عالم ما بعد كورونا، ويرتبط بالاقتصاد والتجارة عموما، وهو مصير العملة الأمريكية الدولار التي أصبحت سيدة التعاملات الاقتصادية والتجارية منذ الحرب العالمية الثانية بفعل اتفاقية بوتون وودز التي جعلت الدولار يتغول على مختلف العملات الوطنية لمختلف دول العالم رغم محاولة الأوروبيين جعل اليورو كمنافس للدولار، ومع ذلك لم تبلغ قيمة التعامل العالمي لليورو سوى أقل من 20 بالمائة.
فهل ستكون جائحة كورونا نهايةَ عصر هيمنة الدولار الأمريكي ليحل محلها التعامل بالذهب كما بات يروج له، أو استحداث عملة جديدة تُنهي سيطرة الدولار الأمريكي ؟.
المؤشرات الأولية لا تشير إلى نهاية عصر الدولار، بالنظر إلى أن القوة الصاعدة الصين تملك حاليا أكبر احتياطي لمختلف العملات الصعبة، وخاصة الدولار يبلغ 3000 تريليون دولار.
و مع ذلك فقد يكون بإمكان القوى الصاعدة ممثلة بتحالف الصين وروسيا اللجوء إلى الذهب كآخر الوسائل التي تنهي بها الهيمنة الأمريكية الشاملة بما في ذلك هيمنة الدولار.
وإذا ما حدث هذا فإن السيادة على العالم ستعود إلى الشرق من جديد بعد سباتٍ دام عدة قرون.
و يبقى السؤال المطروح الآن: هل يتجه العالم إلى قطبيةٍ ثلاثيةٍ تتزعمها الصين والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، أم صعود قطبية من عالم مستجد يتشكل من عدة قوى خاصة الصين وروسيا بفعل هذه الكورونا المستجدة التي ستقلب كل ميزان القوى في عالم ساد فيه العم سام على مدى ست عشريات من القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين؟ـ