ظلت عبر العصور مضرب المثل في التعايش بين الأجناس والثقافات والحضارات. ثارت ضد ما روج عن تصادم الحضارات في كتب هزت المجتمعات الغربية في أوسع مدى. وبينت أنها تحمل خصوصية وتمايز لا تتنازل عنه قيد أنملة. لكنها بدأت تسقط رويدا رويدا في هذا الفكر المتطرف وتتنكر فجأة لقيم رسخت في مجتمعها. إنها مقطاعة كيبيك التي باتت متفتحة على أخذ نماذج أوروبية فرنسية بالتحديد وصيغ نصوص قانونية كانت التربة الخصبة للإسلاموفوبيا.إنها الخطر الداهم للجاليات الأجنبية ومنها الجزائرية المتنامية بكثرة مثلما ترصده “الشعب” من خلال “رسالة كندا”.
كيبك مقاطعة وحيدة في كندا تتميز باستعمال ازدواجية اللغة الفرنسية و الانجليزية جلب إليها الكثير من المهاجرين الجزائريين كونهم يتقنون لغة موليار.
لكن رغم التسامح الانڤلوساكسوني من زيلندا الجديدة إلى أستراليا، تبقى مقاطعة كيبك في دوّامة اللاتينية التي لم تستطع الاستغناء عنها منذ قرون، بل تعمل كل ما بوسعها مصرّة على انتمائها للثقافة اللاتينية ذلك أن مثلها الأعلى كان و يبقى فرنسا.
منذ ترشح و للمرة الأولى في تاريخ كيبك امرأة وزيرة أولى في سبتمبر 2012، أصرت هذه على انتهاج نفس السياسة الفرنسية واستنسخت برنامج سياسة ساركوزي خاصة، و كل ما يحتويه من قوانين عنصرية تجاه المهاجرين المسلمين المقيمين بمقاطعة كيبك، بل و تعمل كل ما بوسعها لتقليص عددهم.
بهذا نفهم ما الذي جعل سياسة كيبك تأخذ منعرج 360°.
الربيع الإيرابلي
ألهم ما يعرف ب«الربيع العربي” سنة 2012 طلاب جامعات مونتريال اللذين كانوا السباقين في إضراب عام بعد قرار حكومة ماروا رفع ثمن الدراسة بجل جامعات كيبك، الأمر الذي أثار غضب طلاب كل جامعات المقاطعة و جعلهم يعبرون يوميا على احتجاجاتهم في شوارع مدن مونتريال و كيبك و شربروك والانقطاع عن ذهابهم للجامعات مطالبين بإلغاء قانون ماروا.
لم يتوقف الغضب عند الطلاب فحسب، بل اجتاح الأوساط الفقيرة في كامل ربوع مقاطعة كيبك حتى أصبحت موجات الغضب التي تغلغلت في جل المقاطعة تسمى “بالربيع الإرابلي” ( للذكر شجرة الإيرابل هي الرمز الأول لكندا). الشيء الذي جعل أعضاء حكومة بولين ماروا يفكرون في كيفية وجود حل كون موجة الغضب هذه أصبحت تهدد وحدة كيبك.
تمر سنة كاملة تقريبا كادت أن تحترق مقاطعة كيبك، مما جعل حكومة ماروا تصل إلى بديل نجح في تسوية الأمور ألا وهو مشروع القانون 60 المسمى بالميثاق الوطني للقيم الكيبكية .
ميثاق العلمانية والحياد
الديني تحت المجهر
ترى ما الذي ينص عليه هذا الميثاق الذي جعل كل الأضواء تسلط على كيبك؟ يسمى هذا الميثاق بميثاق العلمانية و الحياد الديني و المساواة بين المرأة و الرجل.قام بتحرير هذا الميثاق الوزير المكلف بالمنشآت الديمقراطية برنارد درانفيل.
بعد تحريره، قدمته بولين ماروا بتاريخ 7 نوفمبر 2013 لمجلس النواب للأداء بآرائهم لاسيما موافقتهم أو رفضهم لمشروع هذا الميثاق المعروف بالقانون 60.
للذكر، يمثل نواب حزب ماروا المسمى بالحزب الكيبكي الأقلية من أعضاء حكومتها، السبب الذي جعلها تقدم مشروع القانون 60 لمجلس النواب للمصادقة عليه.
يحتوي هذا الميثاق على 6 بنود، أربعة منها تستهدف المسلمين، في حين يؤكد البندين الآخرين على المساواة بين المرأة و الرجل.
لتطبيق تغيرات كبيرة بل جذرية هدفها الوحيد إدماج الجالية المسلمة كونها تهدد المجتمع الكيبكي الذي عانى الكثير ليفصل الدين عن الدولة، ارتأت حكومة ماروا أن تستعمل الذاكرة التاريخية لكيبك لتسوية الأوضاع.
فلاشباك
عاش المجتمع الكيبكي ضغوطات كبيرة من الكنيسة التي كانت تدير كل الشؤون الخاصة للعائلة الكيبكية.، وصل الوضع إلى درجة كان بابا الكنيسة هو الذي يدير نسل العائلة، الأمر الذي نتج عنه كره للدين من طرف المجتمع.
للملاحظة متوسطة العائلة الكيبكية في الأربعينات و الخمسينات كانت تعد على الأقل من 6 أطفال إلى 15 طفلا.
استمرت هذه الحالة بالعائلة الكيبكية خاصة و المجتمع عامة على هذا المنوال إلى غاية الستينات حيث حصل ما يسمى و يعرف”بالثورة الهادئة”.
الثورة الهادئة
هي فترة من التاريخ المعاصر لكيبك جد مهمة تعود جذورها للقرن التاسع عشر بتطور التصنيع و التحضر. تغلغلت و بقيت إلى غاية الستينات لتولد فصل الدين الكاثوليكي عن الدولة و بناء هوية قومية كيبكية جديدة التي تبعد كل البعد عن القومية التقليدية “الكندو-فرنسية”. لذا ساعدت أحداث هذه الثورة الهادئة بالستينات كيبك على أن تلتحق هي الأخرى بالعالم الغربي العلماني لتجسد قطيعة هامة جدا تعجلت بعد مشادات و مناقشات بالغة حصلت طوال الخمسينات.
بقيت هذه الثورة في الذاكرة الجماعية الكيبكية، استطاع سكان كيبيك من خلالها فصل الدين فصلا باتا عن الدولة، بل و تنازلوا كليا على كل القيم الدينية التي كانت تعتبر ميثاق حياتهم الاجتماعية و الخاصة، ليجعلوا من العلمانية ميثاقهم الوحيد.
تساعد هذه المعلومة جدا لفهم لماذا يتميز سكان كيبك عن بقية الكنديين بانفصالهم النهائي و الكامل عن الدين و كل ما يمثل أي مفهوم ديني.
ردود فعل الشارع
نجح مشروع القانون 60 في خلق بلبلة لم تكن في الحسبان، بل سال حبر كبير جدا في مقاطعة كيبك حتى أصبح الشغل الشاغل و الوحيد للصحافة و المجتمع ككل، بل نتجت عنه ظاهرة غريبة في كندا و بالأخص مقاطعة كيبك ألا وهي العنصرية ضد المسلمين و المسلمات في الأماكن العمومية، حيث جاء مشروع قانون 60 لميثاق مروا خصيصا لإدخال الإسلاموفوبيا في مجتمع عرف بأنه من أحسن المجتمعات و الأكثر تسامحا تجاه كل الديانات بما فيها الإسلام.
في حين يصر مؤيدو ماروا لمشروع القانون 60 على أنه يخص كل سكان كيبك بما فيهم كل الجاليات التي تعيش بالقاطعة.
لكن لما نقرأ البند الرابع من هذا القانون نفهم بسهولة أن المسلمين هم المستهدفين من المشروع كونه ينص على ما يلي:
«لا يقبل أي شيء يغطي الرأس سواء أكان خمارا أو قبعة أو عمامة في أي مكان عمل في القطاع العمومي”، يخص هذا البند بذكر الأماكن التي لا يقبل فيها تغطية الرأس لتطبيق القانون 60 وهي البلديات، الثانويات، الجامعات، المستشفيات. الذي يلفت الانتباه هو أن هناك تعليمات صارمة خاصة بالمستشفيات و التي خصصت لها مدة انتقالية لتطبيق القانون 60 وهي 4 سنوات كونها يعمل فيها الكثير من الطبيبات و الممرضات المسلمات اللواتي يتحجبن بسبب النقص الملموس للأطباء في مقاطعة كيبك.
لم يثر هذا البند الرابع من القانون 60 غضب المسلمين فحسب، بل اجتاح الغضب أوساط الجالية السيخية التي تحثها ديانتها عن غطاء الرأس السبب الذي خلق نقاشا كبيرا و حساسا للغاية، جعل كل سكان كندا يتساءلون عما يحصل بالضبط بمقاطعة كيبك مما أدى بمستشفيات تورنتو إلى توجيه نداءات وعروض عمل للطبيبات و الممرضات المسلمات بشعار “لا يهمني ما على رأسك بل يهمني ما في داخل رأسك”.
الجالية السيخية هي الأخرى خرجت عن صمتها و هدوئها المعروف لما يهان شاب سيخي ولد بكندا و طرد من فريقه لكرة القدم الشيء الذي فضح الكثير من مسؤولي الفريق الذي كان يلعب به و ذلك لطرده بسبب غطاء رأسه بالعمامة مطبقا لديانته.
بعد بلبلة كبيرة نقلتها وسائل الإعلام بما فيها الصحافة المكتوبة و السمعية المرئية، يعود الشاب السيخي لفريقه دون نزع عمامته عن رأسه.
الغريب في الأمر هو أن الأكثرية من الجالية اليهودية بقيت صامتة ولم تكشف عن موقفها الصريح تجاه مشروع القانون رغم أن البعض من الكيبكين اليهود التحقوا بالمسلمين في المقاطعة وساروا في المظاهرات السلمية التي نظمت عدة مرات للتعبير عن رفضهم القاطع لما سموه بميثاق الخجل.
يرى الملاحظون السياسيون في البند السادس من القانون 60 مؤامرة محضة ضد المسلمين كونه لا يؤكد على ضرورة عدم تغطية الرأس و الوجه حيث أنه لا يخص عمال القطاع العمومي فقط، بل أيضا المواطنين الذين يحتاجون إلى خدمات في هذا القطاع. الأمر الذي أسقط قناع التسامح والذهنيات المتفتحة التي كان يتميز بها المجتمع الكيبكي عن المجتمعات اللاتينية المعروفة بعنصريتها و بما أصبح يعرف بالإسلاموفوبيا الغنية عن التعريف و التي أصبحت متفشية بصورة مقلقة في عواصم أوروبية كثيرة.
وتؤكد بولين ماروا جازمة أن مشروع القانون 60 يخص كل سكان كيبيك إلا أن الحقيقة ليست مطابقة لقولها، ولا تدخر هذه الأخيرة أي جهد لتقول أنها تعمل كل ما بوسعها لتفادي أية تجاوزات،للأسف أصبحت التجاوزات تقريبا يومية. دون اتخاذ أي قرارات حكومية بحتة ضدها.
تهان امرأة داخل حافلة من طرف مواطن كيبكي لأنها ترتدي حجاب يقول لها “ارجعي إلى بلدك لا نريد إسلامكم”، تضرب محلات تجارية لأن مالكيها مسلمون، تقوم حرب على شبكة الأنترنيت حيث تطرح تساؤلات البعض عن سبب قبول الحكومة الكيبكية مهاجرين مسلمين في كيبك في حين سيطبق عليهم قانون يحثهم على الانفصال و التخلي عن دينهم.
الأمر الذي أثار غضب و غيظ رؤساء بعض الأحزاب السياسية حيث عبروا عن عدم موافقتهم ورفضهم القاطع لمشروع هذا القانون حيث أدلى رئيس الحزب الجديد الديمقراطي توماس مولكر برأيه مصرحا أنه لا يتماشى مع القيم الحقيقية لكندا في حين يقول جاستن ترودو رئيس الحزب الليبرالي الكندي أنه لا يوافق بتاتا عن هذا القانون الذي سوف يكون سبب تشتيت و تفكيك المجتمع الكندي.
أما الوزير الأول لكندا ستيفن هابار فندد بما تصر عليه حكومة كيبك مؤكدا أن الوزيرة الأولى بولين ماروا تريد قطعا زرع الفتنة مع أوتاوا.
أما المسلمون الكنديون الذين هاجروا وقدموا لكندا بحثا عن حياة أفضل يقولون أن الشيء الوحيد الذي جلبهم هو التسامح الكندي في حين يعبرون عن مدى حرصهم و إرادتهم في الدفاع عن دينهم، لأنهم لم يطلب منهم الانفصال عن دينهم لما قدموا طلبات الهجرة لكندا، كما أنهم يعلقون أنهم يعتبرون أنفسهم جزءا لا يتجزأ من سكان كيبك لأنهم استقروا منذ سنوات، للذكر هناك مسلمون مقيمون في كيبك منذ أكثر من 50 سنة.
نظمت مسيرات كبيرة شارك فيها الألوف من الكيبكيين المسلمين طوال أسابيع للتعبير عن عدم قبولهم، بل و تنديدهم بما أصبح يعرف بميثاق الإهانة و الخجل. نظم “ المؤتمر المغاربي لكيبك” و على رأسه منصف دراجي عدة مسيرات نجحت في جر عدة شخصيات لها وزنها في الساحة السياسية الكيبكية.
في غضون تلك المسيرات ندد الجميع بعدة شعارات، حيث طالبوا محرر هذا الميثاق الوزير درانفيل بتقديم اعتذار للجالية المسلمة في حين يقول شعار آخر حملته متظاهرة تقول فيه : “ لا أريد أن أكون مجبرة على أن أختار ما بين ديني و عملي”.
ويضيف أبناء الجالية المسلمة بكيبك أن بلدهم هو كندا كونه مسقط رأسهم حيث تقول ندى بنت الثلاثين ربيعا: “ ولدت بكندا وهذا بلدي مصرة على أنها مقتنعة أن بلدها الأصلي سيبقى الجزائر لكنها تتساءل وتقول : “ كوني كندية مسلمة، أدفع كل الضرائب المعروف أنها مرتفعة جدا بكندا، لماذا يراني البعض أنني كندية فقط لما يطبق علي قانون الضرائب، لكن أصبح مسلمة لما تريد ماروا تطبيق قانونها لأقلع حجابي؟”
لما نرى أنه لم يفعل أي شيء لوضع حد للتجاوزات التي تعرفها كيبك، بالعلم أن العنصرية و الإسلاموفوبيا اجتاحت مقاطعة كيبك ككل، نستطيع أن نستدل أن مشروع القانون 60 جاء ليشجع المجتمع الكيبكي غير المسلم للإطاحة بالدين الإسلامي، بل و ليحمي كيبك مما يسمى بالغزو الاسلامي.
لكن السؤال الذي يبقى مطروح هو: هل سيصادق مجلس النواب لحكومة ماروا على مشروع القانون 60، أم سيأخذون بعين الاعتبار أراء رؤساء الأحزاب المعارضة وعلى رأسهم الوزير الأول الكندي ستيفان هاربار.
لنترقب الانتخابات القادمة المبرمجة في مقاطعة كيبك التي تنتظرها حكومة بولين ماروا بفارغ الصبر للحصول على الأكثرية
للمصادقة على مشروع القانون 60 الذي أصبح يعرف بقانون المهزلة الكيبكية.
ومن جهة أخرى تنتظرها أيضا الجالية المسلمة المقيمة بمقاطعة كيبك عامة و الجالية الجزائرية خاصة.