تشهد القارة الإفريقية تجاذبات وصراعات بين مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وباقي القوى الكبرى في ظل التوجهات الإستراتيجية الجديدة بعد ﻧنهاية الحرب الباردة، وكذا محاولة كل طرف تطبيق المشاريع الإستراتيجية للهيمنة على مناطق النفوذ والثروة في القارة الإفريقية انطلاقا من سياسة جيوبوليتكية براغماتية
كان من الطبيعي بعد سقوط الإتحاد السوفييتي، أن ساعد على بقاء الولايات المتحدة في صدارة القوة متربعة على العرش معيدة صياغة إستراتيجيتها بما يتوافق مع الوضع الجديد.
كما شهد العالم صياغة خارطة سياسية جديدة إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى، تمثلت في تطبيق اتفاقيات “سايكس بيكو” ووضع وعد بلفور البريطاني موضع التنفيذ تجسيدا للهيمنة البريطانية والفرنسية على منطقة الشرق الأوسط، وكما شهد العالم صياغة خارطة سياسية جديدة إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتراجع قوة ونفوذ كل من بريطانيا وفرنسا، تمثلت في الاعتراف بالثنائية القطبية، واعتمدت منطق الإزاحة للاستعمار التقليدي واستقلال كثير من الدول في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، فإن الإستراتيجية الجديدة ستنطلق من مسلمات عديدة أهمها تصميم الولايات المتحدة الأمريكية على التأكيد للعالم بأنه لم تعد هناك قوة عسكرية أو اقتصادية منافسة لها.
تجسيدا لمشروع القرن الأمريكي الجديد الذي ظهر سنة 1997 وهو المشروع الذي مولته شركة برادلي والذي أنتجته “براميل الفكر” think tanks” الأمريكية والذي من بين أعضائه نجد كل من دونالد رامسفيلد، ديك تشيني، ونخبة المركب الصناعي العسكري الأميركي والشركات النفطية العملاقة وغيرهم .
في أكتوبر 2008 انطلق النشاط الفعلي لـ«القيادة الأفريقية” التي أحدثتها الولايات المتحدة لكي تكون القارة الأفريقية في محور الأجندة الأمريكية لفرض النفوذ، وأتت الخطوة تنفيذا لآخر قرار اتخذه وزير الدفاع السابق دونالد رمسفيلد قبل مغادرة البنتاغون، وتشمل دائرة تدخل “أفريكوم” أو “أفريك كوماندمينت”، المؤلفة من ألف عنصر موزعين على 3 قيادات فرعية في كامل القارة الأفريقية (عدا مصر التي تتبع للقيادة المركزية في ميامي)، إلى جانب جزر في المحيط الهندي مثل سيشيل ومدغشقر وجزر القُمر.
من بين برامج “أفريكوم” نجد: أولا تدريب القوات على حفظ السلام في إطار برنامج “أكوتا” للتدريب والمساعدة، وثانيا “أيمت” أي برنامج التدريب والتعليم العسكري الدولي، وكان الرئيس الأميركي السابق جورج .و. بوش قد استجاب لضغوط استمرت سنوات في صلب المؤسسة العسكرية الأمريكية، بالإعلان يوم 6 فيفري 2007 عن قرار سبق أن اتُخذ قبل سنة في الحقيقة، ويخص تكوين مركز مستقل للقيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا بعدما كانت مرتبطة بقيادة القوات الأميركية في أوروبا.
طريقة عمل أفريكوم
تشمل مهام “أفريكوم” جميع دول القارة، باستثناء مصر، التي بقيت ضمن اختصاصات القيادة الأميركية الوسطى، التي تتخذ من الخليج مقرا لها، كانت المسؤولية عن مشاركة القوات الأميركية في مهام داخل إفريقيا موزعة على 3 قيادات عسكرية، هي: القيادة الأوروبية والقيادة الوسطى وقيادة المحيط الهادئ.
وقد سبق لوزير الدفاع الأمريكي، روبرت غيتس، أن وصف توزيع المسؤولية على النحو الذي كان قائما بأنه “ترتيب عفا عليه الزمن من مخلفات حقبة الحرب الباردة”، وكان الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الإبن قد أعلن عن خطط تشكيل أفريكوم في فيفري 2008 ، موضحا أنها تتضمن إنشاء قاعدة عسكرية في إفريقيا. والقاعدة العسكرية الأميركية الوحيدة في القارة الافريقية، التي توصف بأنها قاعدة كبيرة، هي تلك الموجودة في جيبوتي، التي يقيم فيها نحو 1900 فرد. ولأمريكا قواعد عسكرية أقل حجما في أوغندا والسنغال وجمهورية ساوتومي وبرنسيب.
أما ما يعرف(بنقاط الارتكاز) فهي منتشرة في الكثير من الدول الأفريقية، ويُقدم رئيس قيادة “أفريكوم” تقاريره مباشرة إلى رئيس الدولة الأمريكية أسوة برؤساء القيادات الإقليمية الـ5 الأخرى في العالم. أما فيما يخص التدريبات و التطبيقات لهذه القوات ستكون “أفريكوم” آلية أساسية في إدارة المناورات الدورية والمنتظمة بين قوات من البلدان المغاربية وقوات أمريكية، وهي مناورات تجري عادة في البلدان المُطلة على الصحراء الكبرى حيث مسرح عمليات “القاعدة”.
ويمكن اعتبار هذا “التقليد” إحدى ثمار “أحداث الحادي عشر من سبتمبر “2001، التي قررت الإدارة الأمريكية في أعقابها شن حرب وقائية على الإرهاب، “فأحداث 11 سبتمبر” أفضت إلى تسليط الأنظار على طبيعة التهديدات الحقيقية التي تواجهها أمريكا، حيث تقول “كوندوليزا رايس” في هذا الصدد “ إن تهديدات اليوم لا تتأتى من الجيوش الجرارة بمقدار ما تنبع من عصابات صغيرة ضبابية من الإرهابيين ولا تصدر عن دول قوية بمقدار ما تأتي من دول مفلسة حيث أنه لا شك بأن أمريكا بعد 11 سبتمبر تواجه تهديدا وجوديًا لأمنها لا يقل عن الحرب الأهلية أو الحرب الباردة.
وفي سياق أخر قالت إن الولايات المتحدة بوصفها الدولة الأقوى في العالم تقع على عاتقها مسؤولية العمل على جعل العالم أكثر أمنا حيث أنه ليس ثمة أي شرط أخلاقي أو حقوقي يلزم بلدا معينا بانتظار التعرض للهجوم قبل أن يصبح قادرا على التعامل مع تهديدات “وجودية” .
ووجد الأميركيون في تزايد نشاط تنظيم “القاعدة” في منطقة شرق إفريقيا منذ عهد الرئيس كلينتون مُبررا لتكثيف الاهتمام العسكري بالقارة وخاصة بعد الضربتين المُوجهتين لسفارتيهم في كينيا وتنزانيا، ويعتقد الاستراتجيون الأمريكيون أن هذا الخطر لم يزُل اليوم بل تفاقم مع انتشار الفوضى في الصومال والسودان بالإضافة إلى انتشار “القاعدة” في المغرب العربي إضافة إلى باقي المستنقعات النزاعية في القارة الإفريقية..
وتعتبر “أفريكوم” كتدعيم لمبادرة “الشراكة العابرة للصحراء لمكافحة الإرهاب”TSCTI”TRANS-SAHARIAN COUNTER TERRORISM INITIATIVE، إن التجسيد الفعلي لتلك الشراكة بدأ مع المناورات المشتركة التي جرت في جوان 2005 تحت مُسمى “فلينتلوك (Flintlock 2005) في السنغال، ورمت المناورات إلى تكريس الرؤية العسكرية التي صاغتها القيادة الأمريكية في سنة 2003 والتي تقول بأن حماية الولايات المتحدة من الأخطار “الإرهابية” لا تبدأ من الأراضي أمريكية بل من “منابع الإرهاب” في آسيا وأفريقيا.
وهنا يرى كريس براونCHRIS BROWN :«أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها وحدهم لهم القدرة على تحديد متى تكون المعايير مهددة وما الذي يجب أن يفعل تجاه ذلك وهنا تظهر مشكلة إمكانية ممارسة هذا التقدير لخدمة المصالح الخاصة الأمريكية”.
الجزائر في قلب الحدث
وتعززت هذه العلاقات في ندوة “الشراكة العابرة للصحراء من أجل مكافحة الإرهاب” التي استضافها السنغال في 2007، وعلى هذا الأساس سيُعهد لـ«أفريكوم” بتطوير التعاون العسكري مع البلدان الأفريقية التسعة و«كذلك قيادة عمليات حربية عند الاقتضاء”، كما أن القيادة الإقليمية الجديدة التي لم تحدد بعد ونذكر هنا أن وعلى الرغم من الجهود التي بذلت لنحو عامين من الزمن، لم تستطع هذه القيادة الجديدة تأمين مقر لها في أي من الدول الافريقية، مما دفعها للبقاء في مقرها التمهيدي (أو المؤقت)، في مدينة شتوتغارت الألمانية.
وكانت دول في منطقة الساحل والصحراء الإفريقية قطعت خطوة نوعية جديدة باتجاه توحيد
جهودها لمواجهة الظاهرة “الإرهابية” وذلك بتنصيب قيادة عسكرية مشتركة تتولى التنسيق الأمني والاستخباراتي والعسكري بين الأجهزة المكلفة بمقاومة “الإرهاب” وملاحقة عناصر “القاعدة” في المنطقة والذين حولوا نشاطهم بشكل لافت نحو الصحارى الشاسعة مقتربين من السواحل الغربية لإفريقيا للتزود بالأسلحة عبر المحيط ودمج أنشطتهم بأنشطة مهربي المخدرات لتوفير الأموال، فضلا عن عمليات خطف الرهائن والحصول على الفدية .
ويتمثل الهيكل الجديد في غرفة قيادة مصغرة للعمليات العسكرية تشترك فيها كل من الجزائر ومالي والنيجر وموريتانيا وتحمل اسم “لجنة الأركان العملياتية المشتركة”، وقد تمخضت عنها “خطة تمنراست” التي تم الاتفاق عليها خلال اجتماع قادة جيوش الدول الأربع في 14 أوت 2009 والتي تضمنت قرارا مشتركا بإنشاء مركز قيادة للتنسيق الأمني والعسكري المشترك يكون مقره مدينة “تمنراست” الصحراوية الجزائرية.
ما وراء “أفريكوم”
إن “أحداث 11 سبتمبر2001 “ أعطت الشرعية المطلقة للولايات المتحدة الأمريكية في حربها على “الإرهاب” ويعتبر مشروع “أفريكوم” تجسيدا لهذه الحرب العالمية على “الإرهاب”، إلا أن هذا المشروع يحمل في طياته الكثير من الأهداف التي تصب كلها لتكريس الهيمنة الأمريكية على العالم فوجود قوات أمريكية في إفريقيا هو ليس من أجل حماية القارة الإفريقية من مخاطر “الإرهاب”، وإنما هو يدخل في إطار الإستراتيجية الأمريكية العالمية للسيطرة على منابع البترول والثروات
ومراقبة كل الممرات البحرية في العالم من جهة ومن أجل تجسيد مشروع الشرق الأوسط الكبير من جهة أخرى الذي يمتد من سواحل كاليفورنيا إلى فلاديفوستوك ومحاولة تطبيق الرؤية الاسرائلية التي تسعى لتفتيت المنطقة مثلما يحدث في السودان ومواجهة التوسع الصيني في المنطقة ومواجهة المد الإسلامي .
كما لا ننسى محاولة حصر الاتحاد الأوروبي والحد من مطامعه ومحاولة الولايات المتحدة الأمريكية جعل الاتحاد الأوروبي مجرد رقعة إستراتجية مغلقة من خلال السيطرة على القارة الإفريقية التي تعتبر منطقة نفوذ تاريخي لأوربا- وجعلها قفل استراتيجي لمواجهة خطط التوسع الأوروبية والقوى الكبرى في العالم، وإدخال أوروبا في تبعية أمنية ووقف برنامج الاتحاد الأوروبي لتشكيل قوات أمنية موحدة ومحاولة التخلص من سيطرة حلف الناتو مستقبلا.
يمكن القول أن “أفريكوم” هي الإعلان الرسمي للمخطط الأمريكي الذي سعت لتطبيقه بعد “أحداث 11 سبتمبر 2001 “ وهو ما يؤكده قول “جورج بوش الإبن” لما قال “بعد ثلاثة أيام فقط من الأحداث فإن الأمريكيين لايمتلكون البعد التاريخي للحدث إلا أنهم يدركون تماما مسؤوليتهم التاريخية الوطنية وهي الرد على هذه الهجمات وتخليص العالم من “الإرهاب”، لقد شنت الحرب علينا بالخفية والخدعة والقتل، إن هذه الأمة هي أمة مسالمة ولكنها شرسة عندما ينتابها الغضب، لقد بدأ الصراع بتوقيت وأسلوب الآخرين إلا أنه سوف ينتهي بطريقة وفي ساعة هي من اختيارنا نحن” جورج بوش الإبن واشنطن دي سي (مبنى الكابتول) 14 سبتمبر 2001 وبالتالي فإنه آن الأوان لأن يضع الأمريكيون إفريقيا الجديدة على خارطتهم وأنه حان الوقت لتطبيق نظرية تغيير الأنظمة التي ترى أنه إذا فيه نظام لا يتماشى مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية فيحق لها أن تغيره بكل الطرق حتى عن طريق القوة مثل العراق”.
وبالتالي فإن الأداة الجديدة في العلاقات الدولية هي القوة الذكية وما نشهده اليوم من سقوط للأنظمة العربية مثل العراق سابقا وتونس ومصر وليبيا ما هو إلا دليل على انتهاء مهام هؤلاء الرؤساء ومكافأة على وفائهم للإدارة الأمريكية ودليل على تطبيق هذه النظرية - تغيير الأنظمة- التي تدخل في إطار الترتيبات الأميركية العالمية الجديدة.
مع اكتمال تشكيل “أفريكوم” سيتم استيعاب واحتواء كافة الدول الإفريقية تحت المظلة الأمنية الأمريكية وسوف يصبح القائد العام الجديد “لأفريكوم” كرئيس للقارة الإفريقية والمهيمن علي القرارات والتوجهات الإستراتيجية للاتحاد الإفريقي، وقد اقترح تقرير إستراتيجية الأمن الوطني الأمريكي - الصادر عام 2002 - أربع دول إفريقية رئيسية للقيام بدور الحليف الاستراتيجي والتدخل العسكري تحت الغطاء الأمريكي وهذه الدول هي جنوب إفريقيا، كينيا، نيجيريا، وإثيوبيا.
إن فشل التدخل العسكري في الصومال وفشل “الحرب بالوكالة” أيضا عبر إثيوبيا وتمكن إيران من تحويل نقاط الإخفاق الأمريكية إلى مكاسب سواء فيما يتعلق بنسج علاقات وطيدة مع السودان أو متنامية مع اريتريا وعدد من الفصائل الإسلامية الصومالية بالتوازي مع تنامي أعمال القرصنة وظاهرة “الإرهاب” الدولي في الصحراء الإفريقية ومخاوف تحول الصومال إلى قاعدة إستراتيجية “للقاعدة” بعد محاصرتها في باكستان في الوقت الذي انصب فيه اهتمام إدارة “أوباما” على أفغانستان ومحور باكستان- الهند- إيران باعتباره المدخل الرئيس لإحكام القبضة على شرق وجنوب آسيا وقاعدة الانطلاق لمحاصرة “القاعدة” و«القوى الإسلامية المتطرفة” مع بروز العديد من العوائق الحائلة دون ذلك والمنتجة بصورة أو بأخرى تداعيات كارثية بدت علاماتها واضحة في تزايد عنف “القاعدة” ونجاحها في نقل عناصرها إلى منطقة القرن والبحيرات العظمى وبناء قواعد هناك وسط رغبة جامحة لتحويل موريتانيا إلى قاعدة انطلاق والسودان والصومال مع احتمال ضم اليمن إلى قاعدة مواجهة قادمة استعدادا لعرقلة المشروع الأمريكي الإفريقي .وبالتالي تشكيل الولايات المتحدة الأمريكية “لأفريكوم” الذي هو ورشة من الورشات الإستراتجية التي تضعها الولايات المتحدة الأمريكية في العالم على غرار القواعد العسكرية في الخليج واليابان وأسيا وأوروبا وبالتالي فإن “أفريكوم” هو في إطار فرض الهيمنة الأمريكية على القارة الإفريقية وتحضيريها لمشروع جيوبوليتيكي أوسع وهو مشروع الشرق الأوسط الكبير.