وراء كل محل بسيط حكاية..

شبـاب أرهقتهم البطالة فواجهوهـا بأبسط الإمكانيـات

عنابة: هدى بوعطيح

الشاي الصحراوي والبوراك بحثا عن لقمة العيش



البطالة.. ذلك الشبح القاتل الذي يلاحق العديد من شباب الجزائر، الذين يقفون عاجزين أمام محاولاتهم البائسة لإيجاد فرص عمل يواجهون بها مشاق الحياة، حيث أنهم يصطدمون أمام بيروقراطية الإدارة بأبواب موصدة تجعلهم يبحثون عن سبيل آخر لكسب لقمة العيش، والابتعاد عن كابوس بطالة تتعدد أثارها الاجتماعية والنفسية على الفرد، وقد ترمي به إلى طريق لا تحمد عقباها.
وراء كل محل بسيط بأيّ مدينة من مدن الجزائر حكاية شباب أرهقتهم ظروف الحياة بسبب عدم إيجاد عمل قار، شباب لم يكن أمامهم من حل سوى البحث عن بديل وإن كان عملا بسيطا يغنيهم مشقة العيش في ظروف صعبة، ويكسبون من ورائه مالا حلالا، لتكون محلات بيع الشاي والمكسرات وأكلة البوراك ملاذ العديد من الشباب المغلوب على أمرهم والباحث عن فرصة للعمل مهما كانت ميزتها حتى لا يحمل صفة بطال أو عاطل عن العمل..

الشاي الصحراوي ينافس المقاهي “التقليدية”

باتت محلات بيع الشاي من أكثر المحلات انتشارا عبر مختلف ربوع الوطن، والتي تعرف إقبالا كبيرا لعشاق هذا المشروب، الذي أصبح منافسا قويا للقهوة ويكاد يكون بديلا لها، خصوصا وأن القائمين على هذه المحلات يتفننون في صنعه لاستقطاب أكبر شريحة من الزبائن وتحويل وجهتهم من المقاهي إلى محلات الشاي في ظل تقديم خدمات ذات جودة، وفي بعض الأحيان، إرفاق كأس الشاي بحلويات جافة إن كان الزبون يرغب في ذلك.
محل متواضع يحمل بين جدرانه حكايات مختلفة لشباب كان فيها “كأس الشاي” المنقذ لهم من براثين البطالة، شباب ذوو مستويات متفاوتة، منهم المتخرج من الجامعة، مع العلم أكثرهم شباب من الجنوب الجزائري، قدموا من أدرار، تمنراست، وادي السوف، ورقلة وغيرها.. يبدعون في تقديم الشاي الصحراوي على أصوله، بسعر يتراوح بين 30 دج إلى 50 دج أو يتعداها حسب حجم الكوب وطلب الزبون.
في هذا الصدد، يقول “محمد الجيلالي” القادم  من تيميمون إنه بعد تخرجه من الجامعة، ومحاولاته المتعددة للظفر بمنصب عمل دون أن يكون له نصيب، اضطر إلى السفر إلى إحدى ولايات الجزائر، حيث كان له صديق يقطن بولاية عنابة، أين نصحه بالالتحاق به ومحاولة البحث عن عمل هناك، أين حالفه الحظ في استئجار محل صغير لتراوده فكرة بيع شاي تيميمون، خصوصا وأنه يكاد يكون غير متوفر بهذه الولاية، مشيرا إلى أنه ومنذ الأيام الأولى لفتح المحل عرف إقبالا كبيرا لسكان المدينة ليتراءى له عشقهم الكبير للمشروب الصحراوي، منهم من يفضل أن يكون بشرائح الليمون أو بنكهة العسل مرفوقا بالمكسرات، ما جعله يوسع محله لبيعها، مؤكدا بأن سعر كوب شاي يختلف بحسب الطلب وحجمه.

للخيمة نكهة أخرى
«سليم السوفي” اسم ارتبط بأحد باعة الشاي، والذي أطلقه عليه أصدقائه نسبة لمسقط رأسه بولاية وادي سوف،  في حديثه أكد بأنه كان يعيش ظروفا صعبة حيث كان يقطن، وبعد إكمال دراسته الجامعية تيمن خيرا بحصوله على عمل، إلا أن كل الأبواب أوصدت في وجهه، وهو ما جعله يبحث عن أي عمل شريف يساعده على كسب لقمة العيش، فكانت وجهته الأولى نحو العاصمة، إلا أن الحظ ـ يقول ـ لم يحالفه، ليتوجه بعدها إلى وهران ثم عنابة أين نصحه أحد أصدقائه بفتح محل صغير لبيع الشاي، ليصبح مع مرور الوقت من أكثر المحلات إقبالا ولديه زبائنه، مضيفا بأن العديد منهم أصبحوا يفضلون شرب الشاي بدلا من القهوة، خصوصا في الفترة الصباحية قبل التحاقهم بأماكن عملهم، قائلا بأن الشاي الصحراوي يختلف في طريقة تحضيره عن الشاي العادي، وهو ما جعل تجارته ناجحة.
مع العلم أنّ العديد من أصحاب محلات بيع الشاي، تفننوا في تزيينها على شاكلة خيمة صحراوية تستقطب إليها سكان المدينة، خصوصا وإن كانت لا تقتصر على بيع الشاي فقط، وتصنع بداخلها أجواء القعدات الصحراوية التي يشتهر بها جنوب الجزائر الكبير، حيث أكد الشاب “منذر” أن الخيمة تستقطبه كثيرا هو وأصدقاءه، إذ لا يفوّت فرصة الاستمتاع بما يقدم إلى جانب الشاي من أطباق تقليدية، وعلى رأسها الشخشوخة، الدوبارة البسكرية، الكسكس، إلى جانب طبق الزفيطي الذي تشتهر به ولاية المسيلة.

البوراك.. تجارة مربحة

وإن كان بعض الشباب البطال قد وجدوا في محلات الشاي ملاذا لهم، فإن هناك من اختاروا أيضا مهنا مماثلة أخرى بسيطة حسب إمكانياتهم المادية في شراء محل أو استئجاره، ليكون “بيع البوراك” طريق آخر لكسب بعض المال ومواجهة أعباء الحياة وظروفها القاسية، خصوصا وأن هذه الأكلة تشتهر بها بونة، ومن أكثر الأطباق إقبالا من قبل زوار المدينة، لا سيما وأنها تُطهى بأشكال وأذواق متنوعة، حيث يعتمد في حشو هذه الأكلة على البطاطا المهروسة، البصل، الجبن والزيتون، إضافة إلى حشيش البقدونس، وكل حسب ذوقه في اختيار اللحم أو الدجاج أو سمك التونة أو الجمبري، ليضاف إليه في الأخير بيضة أو اثنين حسب رغبة الشخص.
البوراك العنابي كما يطلق عليه هو أيضا حرفة متوارثة أبا عن جد، حيث أن هناك العديد من أبناء عنابة ارتبطت أسماؤهم بهذه الأكلة الشعبية وجعلوا منه سلطان المائدة، لا سيما خلال الشهر الفضيل أو في الأعراس ومختلف الحفلات، ليصبح البوراك المطلب الأول لزوار المدينة وسياحها لتذوقه ( فلا يمكن لزائر بونة أن يمر عليها دون أن يتذوق البوراك العنابي)، والذي وصلت بعنابة عدد المطاعم بها والمحلات التي تقدمه إلى أكثر من 500 موزعة بكل من وسط المدينة والأحياء الشعبية وشواطئ بونة، التي يتنافس البائعون هناك على استمالة المصطافين لشرائها.

من «استحقار» إلى نجاح
ويقول الشاب “محمد لامين” إنه بعد أن استأجر محلا، ظل يفكر في ماذا سيشتغل إلى أن قاده تفكيره إلى بيع “البوراك”، على اعتبار أنه الأكلة الأكثر رواجا بين جميع سكان عنابة دون استثناء، قائلا بأن طهيه للبوراك لا يتوقف على مدار يوم كامل، حيث تختلف طلبات زبائنه الذين يقصدونه أيضا من الولايات المجاورة استثناء لشراء هذه الأكلة، بين من يفضلها باللحم المفروم أو فواكه البحر أو مشكلة، مشيرا إلى أن سعر البوراك يختلف حسب الطلب والذي يقد يصل إلى 1200 دج وأقلها 300 دج، مع العلم يقول محدثنا أن هناك من يفضل أن يكون البيض غير مطهو بالكامل، أو كما يطلق عليه بـ«بوراكة مروبة” وآخرون يفضلون طهوه كاملا، وهو ما يجعل شكله يأخذ حجما كبيرا ويعتبر وجبة غذائية كاملة.
أما منصف فقد اعتبر “البوراك” حلا أنقذه من البطالة، قائلا بأنه “استحقر” في بادئ الأمر هذا العمل، على اعتبار أنه خريج كلية الحقوق، وكان ينتظر منصبا يليق بشهادته، إلا أن ظروفه المادية جعلته يبحث عن أي عمل كان، ليقوده “رزقه” كما قال إلى أحد بائعي البوراك الذي وظفه معه في محله، حيث لم يكن على علم بأنها تجارة مربحة قد تدر على صاحبها ما يقارب 5 ألاف دج في اليوم الواحد، ومع مرور الوقت أحب هذه المهنة وبمجرد تحسن ظروفه المادية فتح محلا صغيرا لبيع البوراك بأحد شواطئ عنابة، والذي يشتغل فيه منذ 4 سنوات إلى ساعات متأخرة من الليل، لا سيما خلال موسم الاصطياف، قبل أن يحل الوباء، قائلا بأنه أصبح له زبائن من مختلف جهات الوطن، ولهذا يفكر مليا في توسيع محله والاستمرار في هذه المهنة.
وهو نفس الأمر بالنسبة للشابة “أمينة” صاحبة الـ25 سنة، والتي تتفنن في إعداد البوراك في منزلها وبيعه للمحلات، قائلة بأنها تعبت وهي تبحث عن عمل قار، فهداها تفكيرها لهذه الوجبة لما لها من شعبية وإقبال في الوسط العنابي، ولأن ظروفها المادية تحول دون فتح محل خاص بها، سعت إلى بيعه جاهزا لبعض المحلات التي يلجأ إليها على وجه الخصوص العمال في فترة الراحة، وهو ما أكسبها زبائن دائمين، على أمل أن تفتح مستقبلا محلا لبيع مختلف الأكلات التقليدية، لا سيما التي تشتهر بها المدينة، وعلى رأسها البوراك العنابي، الذي اعتبرته المتحدثة تجارة جد مربحة.
وبهذا يبقى وراء كل محل متواضع وبسيط حكاية شباب أرهقتهم البطالة، فوجدوا في هذه المهن طريقا لكسب لقمة العيش، وعدم الاستسلام لقساوة الظروف، وإعانة أنفسهم وربما عائلاتهم من عرق جبينهم، بعيدا عن التسوّل والحاجة والاعتماد على الآخرين في كسب قوتهم اليومي.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024