مـــنـــارة لــنـــشــر تــعــالــــيـــم الــــديــــن الحــــنـــيـــف ودور إصـــــلاحـــــي في المجـــــتـــــمـــــع
على بعد أميال من عاصمة البيبان برج بوعريريج، يقف المعلم الديني والتاريخي “جامع سيدي عبد الله بن جعفر اليعدلي” شامخا، بجبال دائرة الجعافرة، تحاكي جدرانه الصخرية وأسقفه الخشبية العتيقة مسيرة أجيال وحقب تاريخية، تجاوزت الـ6 قرون من الزمن، فالمسجد ظل طيلة هذا الفترة مقصدا لأهالي وسكان بلدية “تفرق” ومناطق أخرى لحفظ كتاب الله، ومنارة لنشر تعاليم ديننا الحنيف، فضلا عن دوره الإصلاحي في المجتمع، وهو المعلم الذي أعيد ترميمه وتدشينه، تزامنا والذكرى الـ70 لاندلاع الثورة التحريرية المباركة..
بغض النظر عن المكانة الروحية التي يحظى بها المسجد في نفوس أهالي وسكان قرية “تاتشريت” التابعة لبلدية “تفرق”، فهو يكتسي طابعا تاريخيا هاما، حيث لعب دورا أساسيا في مجابهة المستعمر الفرنسي.
نمط معماري متفرد..
نمط معماري متفرد تحاكي طريقة بنائه بساطة المكان والزمان، يقع الجامع على بعد 32 كلم غرب شمال عاصمة البيبان برج بوعريريج، في قرية تادشيرت ببلدية “تفرق”، والذي يعرف عند أهالي وسكان المنطقة بجامع “سيدي عبد الله بن جعفر اليعدلي” الذي أعيد افتتاحه مؤخرا تزامنا والذكرى 70 للاحتفالات المخلدة لعيد الثورة التحريرية، بعد ترميم استغرق أكثر من 3 سنوات، تم الاستعانة فيها بخبراء في مجال الترميم ومكتب دراسات راعى فيها المزج بين نمط البناء الذي كانت تشتهر به المنطقة في طريقة بنائها للمساجد والبيوت، والنسق الهندسي المعماري للمساجد المعروفة في منطقة شمال إفريقيا، مع الحرص على استعمال وسائل بسيطة في تشييده مثل الصخر وألواح الخشب، تماشيا مع نمط تشييده لأول مرة في القرن الـ16 عشر، أين استعين في بنائه بالصخور وألواح الخشب التي تشتهر بها تلك المناطق الجبلية..
فقد تقرر بناء هذا الصرح الديني العتيق، باستخدام مواد أولية طبيعية مشتقة من البيئة المحيطة من الصخور الجبلية المتواجدة بالقرب من مكان تشييد المعلم، باستعمال الأخشاب المتواجدة بالغابات المحيطة بقرية “ثادشيرث”، في نمط معماري وهندسي متفرد مستوحى من الطراز المحلي، خاليا من كل الزخارف التي انتشرت حديثا.
ووفقا للروايات الشفوية المتناقلة عبر أهالي وسكان المنطقة، أوضح الأستاذ محمد أوجمعة بغورة أحد أبناء القرية، أن المسجد يعود بنمط بنائه وتأسيسه إلى تلك المساجد القليلة جدا التي تم تشييدها قبل قرون، بالاعتماد على طابقين باستعمال مواد أولية متواجدة في المنطقة، منها الأقواس المبنية بطرق عادية وبسيطة، مكونة من أبواب خشبية كباقي بنايات المنطقة، تتصدرها قاعة الصلاة، بها محراب يتضمن شقا متطاولا لاستغلاله خلال فترة الآذان، وأما على يسار المحراب توجد حجرة بارزة تم وضعها كمصدر الإنارة (شمعة) وعلى يساره منبر مكون من درجتين.
الشيخ عبد الله.. الرجل الصالح والواعظ
ترجع تسمية هذا المعلم إلى الشيخ عبد الله ابن منطقة “بني يعدل” التي تضم كل من منطقة “القلة”، “الجعافرة”، و«الماين” بشمال ولاية برج بوعريريج، وكان رجلا صالحا واعظا محباً للخير..
رغم شح المصادر التاريخية التي تذكر تاريخ تأسيس هذا الصرح الديني، إلا أن جل أعيان القرية والمنطقة وشيوخها، يجمعون على أن تاريخ تأسيسه يعود إلى القرن السادس عشر ميلادي، أي قبل 5 قرون من الآن أو يزيد، ويؤكد أعيان المنطقة وعلى رأسهم نصر الدين دعدوش ومحمد اوجمعة بغورة ومصطفى فرماش “بأن تاريخ تأسيس الجامع يعود إلى القرن الـ16 وفقا للروايات الشفوية المتناقلة لدى شيوخ وسكان وأهالي المنطقة”.
وقد تعرض الجامع ـ بحسب شهادات أحد أعيان القرية ـ إلى قصف من طرف المحتل الغاشم، أتى على بعض من جدرانه الخارجية، غير أنه ولحسن الحظ لم يتأثر كثيرا لعملية القصف، وبقي يؤدي دوره كما يوم تأسيسه.
عندما أصبح لا يستوعب هذا المعلم الديني عدد المصلين، قرر أعيان القرية ترميمه لكن اكتشفوا أن بتكلفته يمكن بناء مسجد جديد بسعة أكبر، فتحولت الأنظار إلى بناء مسجد “ثادشيرت” الحالي المشيد سنة 1974م.
مدرسة، مصلى ومجلس للقضاء
التنقل إلى هذا الموقع والتجوال في هذا الجامع، على مساحة تزيد عن 300 متر، يعطيك إحساسا روحيا جميلا، فسرعان ما تنتابك تساؤلات تدفعك للبحث والاكتشاف أكثر في خبايا هذا المعلم الديني الحافل بالأحداث التاريخية، أبرزها تلك الأماكن والتي ـ قيل لنا ـ إن جانبا منها كانت مقرا لمبيت عابري السبيل، وأخرى مخصصة للصلاة وغيرها، ويُجمع سكان وأهالي القرية والمنطقة بأن المسجد لعب دورا هاما في نشر تعاليم ديننا الحنيف، منذ تشييده في القرن السادس عشر ميلادي، حيث ضل محافظا طيلة هذه الفترة على دوره الديني والثقافي وحتى الاجتماعي، إلى غاية تعرضه للتخريب على يد الاحتلال الفرنسي.
فقد كان يحتضن حلقات للعلم وتحفيظ القرآن الكريم وتعليم مبادئ اللغة العربية، خاصة قبل تواجد المدرسة بالمنطقة، ناهيك عن دوره الاجتماعي الذي كان يمارسه، باحتضانه لجلسات قضائية تعمل على الفصل في القضايا الاجتماعية والخصومات عبر مجلس قضاء القرية أو ما يعرف بـ«تاجماعت”، من خلال الرجوع إليه وإلى شيوخه للفصل في القضايا المصيرية المتربطة بأهالي وسكان القرية، فضلا عن أنه كان مركزا لاستقبال الضيوف وعابري السبيل المارين بالمنطقة، إلى غاية قيام الثورة التحريرية أين لعب جامع “سيدي عبد الله بن جعفر اليعدلي” دورا بارزا في مواجهة المستعمر الفرنسي، بإيوائه المجاهدين إلى درجة أنه تحول إلى معقل يأوي الثوار المجاهدين بالمنطقة ومركزا يعودون إليه للفصل في جميع الخصومات وممارسة الشعائر الدينية إبان فترة الاحتلال الفرنسي.
افتتاح المعلم يعكس مدى تمسك أهالي القرية بِتراثهم
اعتبر المختص في التاريخ الوسيط ومدير جامعة محمد البشير الإبراهيمي، البروفيسور بوعزة بوضرساية، على هامش افتتاح جامع “سيدي عبد الله بن جعفر اليعدلي”، الذي عرف حضورا لافتا لأهالي وسكان القرية، فضلا عن أساتذة وباحثين، على غرار مدير الثقافة والفنون لولاية برج بوعريريج، بأن إعادة الروح إلى هذا المعلم التاريخي في ذكري أول نوفمبر، يعد شاهدا على مدى تمسك أهالي وسكان منطقة “تفرق” وقرية “تادشيرت” بِتراثهم العريق واعتزازهم بتاريخهم الوطني والديني، مبرزا الدور الايجابي الذي لعبته المنطقة خلال المقاومة الشعبية، وثورة أول نوفمبر 1954 وبعد استرجاع السيادة الوطنية، إذ لم يكن ـ حسبه ـ مجرد مكان للعبادة والصلاة، بل كانت حجراته العتيقة، ملاذا للمجاهدين، ومنارة يستلهم منها أهالي القرية وعيهم الثوري في مسيرة الكفاح وتحرير الأرض ضد المستعمر الفرنسي، وقبسا أيمنيا يستضاء به في سبيل تحرير الوطن والأرض، من خلال الدروس الدينية والتوعوية، بما يغذي ـ يقول المتحدث ـ نفوس أهالي المنطقة، ويعزز الروح الوطنية وقيم الجهاد، لدى هؤلاء السكان للانطلاق في عمليات فدائية ضد المستدمر الفرنسي الذي أحرق الأخضر واليابس بمنطقة “تفرق” و«الجعافرة” وما جاورها إبان الحقبة الاستعمارية.
شاهد على نضال شعب
شهد جامع “سيدي عبد الله بن جعفر اليعدلي”، العديد من الاجتماعات التنسيقية التي كان يشرف عليها مجاهدو المنطقة في مواجهة المحتل الفرنسي، كما كان مكانا لتجنيد سكان المنطقة ضد سياسة الاستعمار الفرنسي، فقد حظي الجامع بحسب روايات أحد أعيان المنطقة باجتماع قام به المجاهد “عيسى البونداوي” ناقش فيه مع السكان السياسة الاستعمارية وكيفية وجوب صدها من طرف الثوار، بينما كانت الكلمة الثانية من طرف الشهيد الشيخ الإمام محمد الطاهر بغورة المدعو الشيخ يونس، أين بين حقيقة الجهاد من الناحية الشرعية ـ بحسب ذات الرواية ـ كما تم الاتفاق على عدة أمور تتعلق بالثورة، وفي الختام كانت عملية القسم على المصحف بعدم خيانة الثورة.
مدير الثقافة: نعمل على تصنيف الموقع ضمن التراث الثقافي الوطني
أكد مدير الثقافة والفنون لولاية برج بوعريريج، الدكتور عمر كبور، على هامش إعادة افتتاح جامع “سيدي عبد الله بن جعفر اليعدلي”، بقرية “تفرق” و«ثاذشيرث” التابعة لبلدية تفرق، بأن عملية ترميم هذا الجامع والمعلم التاريخي المهم، تم الحرص فيها على الأبعاد التاريخية والأثرية التي يحملها الجامع في حد ذاته، من خلال العمل على إبقاء تلك الجوانب الأثرية ببعدها التاريخي والأثري التي حملها المعلم، والذي شهد مرافقة من طرف مكتب للدراسات متخصص في التراث بالاستناد على الخطط المعروفة في عملية الترميم، بمساعدة مواطني وأهالي القرية، من أجل الحفاظ على ذاكرة المنطقة وعلى هوية المعلم التاريخي غير المصنف، تمهيدا ـ يقول مدير الثقافة ـ للانطلاق في عملية إجراءات التصنيف حتى يكون محميا ومعترفا به على المستوى الوطني، من خلال الانطلاق فعليا على مستوى مصلحة التراث الوطني من أجل إنشاء ملف خاص لإدراجه ضمن التراث الثقافي في ولاية برج بوعريريج، تمهيدا لتمريره على اللجنة الوطنية من أجل تصنيفه ضمن التراث الثقافي الوطني.
وجهة للسياحة الجبلية والدينية بامتياز
يشكل مكان تواجد هذا الجامع والمعلم التاريخي الهام، الذي يقع وسط غابات كثيفة بين مرتفعات جبلية لغابة منطقة “الجعافرة” و«بوندة” و«تفرق”، موقعا هاما يؤهله لأن يكون وجهة سياحية ودينية فريدة من نوعها، لاكتشاف ذلك الجامع والاستمتاع بعراقة المكان، الذي يمزج بين أصالة العمارة الإسلامية ذات الطابع المغاربي، وبساطة وهدوء المنطقة وغطائها النباتي المتميز، ما يؤهلها لأن تكون مقصدا لهواة السياحة بمختلف أنواعها ويمكن استغلالها في تنظيم رحلات سياحية للتعريف بالمنطقة والجامع بشكل عام..