تخرج جريمة الإبادة الجماعية عن إطار الجرائم العادية؛ لأنّها في الأساس تستهدف من خلال الأفعال المحظورة، تدمير جماعة معينة وليس فردا بذاته. كما أنّ السلوك الإجرامي في هذه الجريمة لا ينتهك قاعدة أو قواعد قانونية فحسب، وإنّما يمسّ بالمقوّمات الأساسية لحياة مجموعة بشرية بأكملها، وبالنظام العام الدولي، ومن ثمّة فإنّ جريمة الإبادة الجماعية تعدّ من أخطر الجرائم التي شهدتها ولا تزال تشهدها البشرية، ممّا دفع المجتمع الدولي إلى وضع نظام قانوني دولي يمنع ارتكاب مثل هذه الجريمة والمعاقبة عليها.
«الإبادة الجماعية” (Genocide) مصطلح مشتق من اليونانية (Genius) وتعني الجماعة ومن (Caedere) وتعني القتل، أيّ قتل جماعة، وقد بدأ اهتمام الدول بجريمة الإبادة الجماعية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أسندت لمنظمة الأمم المتحدة، مهمة وضع اتفاقية دولية تتضمّن أحكاما ضدّ هذه الجريمة الدولية، وتحدّد المسؤولية الجنائية المترتّبة عنها، وتعتبر أول محاولة لتحديد مفهوم جريمة الإبادة الجماعية، نصّ القرار الذي صادقت عليه الجمعية العامة بتاريخ 11-12-1946، وقد جاء في هذا القرار : “إنّه طالما اضطهدت جماعات من البشر بقصد إبادتها إبادة تامة أو جزئية.. وأنّ إبادة الجنس، أيّ إنكار حقّ الوجود بالنسبة لجماعة إنسانية بأسرها، جريمة في نظر القانون الدولي، يستحق مرتكبيها العقاب عليها سواء كانوا فاعلين أم شركاء.. وسواء كانوا رجال دولة أم موظفين أم أفرادا، بصرف النظر عن البواعث التي تدفعهم إلى ارتكاب جريمتهم، كما أنّها تتعارض مع أغراض ومقاصد الأمم المتحدة، وينكرها العالم المتمدّن”.
وبتاريخ 09-12-1948، أقرّت الجمعية العامة بالإجماع، اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
وجاء في المادة الثانية من هذه الاتفاقية: الإبادة الجماعية تعني أيّ من الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلّي أو الجزئي لجماعة قومية أو اثنيه أو عرقية أو دينية. ووفقا لنصّ هذه المادة تتمثل الأفعال المجرمة في: القتل أو إلحاق أذى جسدي خطير بأعضاء من الجماعة أو إخضاع الجماعة لظروف معيشية قصد إهلاكها، أو اتخاذ تدابير لمنع إنجاب الأطفال داخل الجماعة أو نقل الأطفال وتهجيرهم عنوة “.
وعلى الرغم من أهمية هذه الاتفاقية الدولية، فإنّ أهم تطور سجّل على مستوى القانون الدولي الجنائي تمثل في تبنّي المجموعة الدولية لنظام المحكمة الجنائية الدولية سنة 1998.
لقد حدّد النظام الأساسي، في المادة الخامسة، أنواع الجرائم الدولية التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، ومن هذه الجرائم، جريمة الإبادة الجماعية. ووفقا لنصّ المادة 06، فإنّ الإبادة الجماعية تعني: “أيّ فعل من الأفعال يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو اثنيه أو عرقية أو دينية بصفتها هذه، إهلاكا كليا أو جزئيا: قتل أفراد الجماعة، إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة، إخضاع الجماعة عمدا لأحوال معيشية يقصد بها تدميرها أو إهلاكها كليا أو جزئيا، فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة، نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى..
أما على مستوى الفقه فقد وردت تعاريف مختلفة لجريمة الإبادة الجماعية، إذ يرى غرافان Graven أنّ جريمة الإبادة الجماعية تعني إنكار حقّ المجموعات البشرية في الوجود، وهي تقابل القتل الذي هو إنكار حقّ الفرد وحقّ الإنسان في البقاء، أما ديفارب Devabre فيرى أنّ جريمة الإبادة الجماعية هي جريمة ضدّ الإنسانية، وتتخذ ثلاثة مظاهر: الإبادة الجسدية، وتتمثل في الاعتداء على الحياة والصحة والسلامة الجسدية. الإبادة البيولوجية وتتمثل في الاعتداء على نمو المجموعة البشرية بواسطة الإجهاض والتعقيم. الإبادة الثقافية وتتمثل في تحريم اللغة الوطنية والاعتداء على الثقافة القومية.
ويذهب ليمكين إلى أنّ الإبادة الجماعية تستند على خطة منسّقة من خلال عدّة أعمال مختلفة، تهدف إلى تدمير الأسس الضرورية لحياة جماعة قومية، قصد تدمير هذه الجماعة. وتهدف الخطة تفصيلا إلى تفتيت وتفكيك المؤسّسات السياسية والاجتماعية والثقافية واللغوية والشعور القومي والديني والوجود الاقتصادي للجماعات القومية، وأيضا القضاء على الأمن الشخصي والحرية والصحة والكرامة، ويضيف ليمكين بأنّ الإبادة الجماعية توجّه ضدّ الأفراد بصفتهم أعضاء ينتمون إلى الجماعة وليس بصفتهم الفردية.
بناء على ما سبق، فإنّ جريمة الإبادة الجماعية تتميّز بالصفة الجماعية للضحايا، أيّ المجني عليهم حيث تقع هذه الجريمة ضدّ جماعة، وتحدّد الجماعة على عدّة أسس مختلفة، فالجماعة القومية تتكوّن من أشخاص ذوي أصل قومي مشترك، ويعني الجنسية أو المواطنة أو على أساس نفسي اجتماعي.
الطابع الـدولي لجريمة الإبـادة الجماعية
تعرف الجريمة الدولية بأنّها سلوك إنساني غير مشروع صادر عن إرادة إجرامية يرتكبه فرد باسم الدولة أو برضى منها، وينطوي على انتهاك لمصلحة دولية يقرر القانون الدولي حمايتها عن طريق الجزاء الجنائي.
ولقد أقرّت ديباجة اتفاقية الأمم المتحدة الطابع الدولي لجريمة الإبادة الجماعية وجاء في نصّ الديباجة بأنّ: “الإبادة الجماعية جريمة بمقتضى القانون الدولي تتعارض مع روح الأمم المتحدة وأهدافها”.
كما تنصّ المادة الأولى من هذه الاتفاقية على أنّ: “الإبادة الجماعية سواء ارتكبت في أيام السلم أو أثناء الحرب هي جريمة بمقتضى القانون الدولي وتتعهّد بمنعها والمعاقبة عليها.
ويرى عدد من الفقهاء أنّ هذه الاتفاقية أرست مبادئ وأحكام قانونية تلتزم بإعمالها كافة الدول بصرف النظر عن تمتّعها بوصف الطرف في الاتفاقية أو افتقارها إلى هذا الوصف، فهي مبادئ وأحكام معترف بها من طرف الأمم تستهدف تحقيق غايات إنسانية وحضارية تتمثل في : حماية الوجود للجماعات البشرية.
إنّ إضفاء الصبغة الدولية على أفعال الإبادة الجماعية، مستمدّة من طبيعة المصلحة الجوهرية المعتدى عليها؛ فالمحافظة على الجنس البشري وحمايته من أيّ اعتداء أصبح يمثل هدفا وغرضا أساسيا للنظام القانوني الدولي، ومن هذا المنظور، فإنّ جانبا من الفقه يذهب إلى اعتبار أنّ هناك حقوقا إنسانية معيّنة تشكّل قواعد آمرة للقانون الدولي، يتعين احترامها حتى في غياب التزام اتفاقي باحترام هذه الحقوق. فأيّ فرد في العالم له حقوق أساسية يجب حمايتها من أيّ انتهاك، حيث تقوم فكرة حماية حقوق الإنسان في العالم على أساس ضرورة وجود تضامن إنساني، يشكّل أبرز أسس القانون الدولي.
ولاشكّ أنّ جريمة الإبادة الجماعية، مضادة لحقّ أساسي من حقوق الإنسان، بل حقّ يأتي على رأس هذه الحقوق، وهو الحقّ في الحياة. وتبعا لذلك، فإنّ هذه الجريمة تمثل خرقا صريحا للقواعد الدولية الآمرة في القانون الدولي العام التي تهدف إلى الحفاظ على النظام العالمي.
ومن الملاحظ أنّ الإبادة الجماعية تعتبر جريمة دولية بطبيعتها، كما أنّ المسؤولية المترتبة عن هذه الجريمة هي مسؤولية مزدوجة تقع تبعتها على الدولة من جهة، وعلى الأشخاص الطبيعيين مرتكبي الجريمة، من جهة أخرى.
ونتيجة لذلك، فإنّ المادتين 5 و 6 من نظام روما الأساسي، اعتبرا جريمة الإبادة الجماعية جريمة دولية تمثل خطورة على الأسرة الدولية، حيث جاء في الفقرة 1 من المادة 5: يقتصر اختصاص المحكمة على أشدّ الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره”، ومن هذه الجرائم، جريمة الإبادة الجماعية.
إنّ الطابع الدولي لجريمة الإبادة الجماعية كرّسه القضاء الدولي، ففي رأي استشاري سنة 1951 اعتبرت محكمة العدل الدولية بأنّ الاعتبارات الإنسانية الأولية هي جزء من المبادئ العامة القانون، وأنّ المبادئ المنصوص عليها في اتفاقية منع الإبادة الجماعية، هي مبادئ مقرّرة بواسطة الأمم المتحدة كقواعد ملزمة للدول حتى بدون التزام اتفاقي، فهي مبادئ تفرض نفسها على المجتمع الدولي.
أركان جـريمـة الإبــادة الجـماعـيـة..
لقيام المسؤولية الجنائية الدولية، يجب أن تتوافر في جريمة الإبادة الجماعية ثلاثة أركان: الركن المادي، الركن المعنوي والركن الدولي.
أما الركن المادي فإنّه يشمل كلّ ما يدخل في تكوينها، وتكون له طبيعة مادية، ويتمثل الركن في أحد الأفعال المكوّنة للسلوك الإجرامي، وهذه الأفعال محدّدة على سبيل الحصر في تعريف جريمة الإبادة الجماعية في المادة 6 من نظام روما الأساسي، وتأخذ المظاهر أو الصور المادية التالية:
قتل أفراد الجماعة: تتجسّد هذه الجريمة في إقدام الجناة على قتل أفراد مجموعة أو جماعة بشرية تقوم بينها روابط مشتركة دون تمييز بين الرجال والنساء والشباب والأشخاص المسنّين، ويشمل القتل جميع أفراد الجماعة أو معظمهم. ويهدف القتل إلى الاستئصال المادي للجماعة المجني عليها، ويتحقّق ذلك بأفعال مادية تؤدّي إلى القضاء على الجماعة المضطهدة كليا أو جزئيا، ومن أمثلة ذلك صور القتل الجماعي مذبحة دير ياسين 1948 التي اقترفتها قوات الاحتلال الصهيوني، مساء يوم 9 أفريل سنة 1948، ضدّ سكان دير ياسين العربية، وقامت القوات المعتدية بقتل 250 شخصا، وهي لا تختلف عمّا يحدث منذ عام كامل بفلسطين.
إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة: وهي الصورة الثانية للركن المادي في جريمة الإبادة الجماعية ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. وتنصرف هذه الصورة إلى كافة الأفعال المادية التي تؤثر على السلامة البدنية والجسمية، وكذلك على القوى العقلية للمجني عليه، ومن أمثلة هذه الاعتداءات استخدام وسائل التعذيب بشتى أنواعها وما قد ترتبه من عاهات وإعاقات جسدية مستديمة لدى الأشخاص الضحايا أو إصابتهم بأمراض عقلية أو عصبية. ويدخل ضمن حالات الإيذاء الجسمي والنفسي، وهو ما يحدث يوميا في سجون الاحتلال الصهيوني في حقّ الأسرى الفلسطينيين.
إخضاع الجماعة عمدا لأحوال معيشية بقصد إهلاكها: يقصد بهذه الحالة تعمّد حرمان الجماعة من الموارد الأساسية التي تعتمد عليها في حياتها من أجل البقاء مثل المواد الغذائية والخدمات الطبية: الماء والكهرباء والطرد من المنازل أو حتى تدمير المنازل. ويمكن أيضا أن تتحقّق هذه الصورة من صور الإبادة الجماعية بواسطة الحصار الذي يفرض على جماعة لمدّة زمانية معيّنة. ويرى جانب من الفقه أنّ هذه الطريقة للإبادة الجماعية تنطوي على إبادة بطيئة، فهي تهدف إلى إخضاع المجموعة لظروف معيشية قاسية من شأنها القضاء عليهم ببطء، وهو ما يطبّق على الفلسطينيين حرفيا، بداية من منع الأغذية والمياه، إلى اغتيال الأطفال الخدج في المستشفيات، بقطع الكهرباء.
فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة: يطلق الفقه على هذه الصورة من صورة الإبادة الجماعية اسم “إعاقة التناسل في الجماعة”، وهي إحدى صور إبادة الجنس البشري، حيث تعتمد على أساليب بيولوجية تعوق نموّ وتزايد أعضاء الجماعة المستهدفة مثل استعمال وسائل الإجهاض عند تحقّق الحمل وطرق التعقيم، ويدخل ضمن صورة منع الإنجاب عمليات القتل للرضع والأطفال صغار السنّ، وهو ما يتحقّق في الحالة الفلسطينية منذ 1948.
نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى: تتحقّق هذه الصورة عند النقل القسري للأطفال من جماعة إلى جماعة أخرى، قصد فصلهم عن جماعتهم الأصلية، وذلك لقطع أيّة صلة لهم مع جذورهم، ومن الواضح أنّ النقل القسري للأطفال يسبّب أذى جسيما للطفل المعني ولوالديه وأقاربه ويلحق أذى بالمجموعة.
أما الركن المعنوي لجريمة الإبادة الجماعية، فهو يشكّل ركنا أساسيا إضافة للركن المادي، وقد أكّد نظام المحكمة الجنائية الدولية على أهمية الركن المعنوي : ووفقا لنصّ المادة 30 من النظام الأساسي: “ لا يسأل الشخص جنائيا عن ارتكاب جريمة تدخل في اختصاص المحكمة ولا يكون عرضة للعقاب على هذه الجريمة إلا إذا تحقّقت الأركان المادية مع توافر القصد والعلم”، وعرفت المادة نفسها “القصد” بأنّه ارتكاب الشخص للسلوك المجرم قانونا والتسبّب في النتيجة التي يحدثها سلوكه، ولابد من توافر علاقة سببية بين إرادة الجاني والفعل، أو التصرف الذي أتاه، فيسأل الإنسان ويعاقب عن أفعاله التي أتاها بإرادته ولا تكون هذه الإرادة مجرمة إلا إذا كانت مدركة وقائمة على مكننة التمييز بين الأفعال المحظورة والمباحة. فالركن المعنوي علاقة بين المظهر المادي للجريمة وشخصية الجاني، وتظهر هذه العلاقة سيطرة الجاني على الفعل وآثاره.
الركن الــدولي في جريمة الإبـادة الجـماعيـة..
يقصد بالركن الدولي في جريمة الإبادة الجماعية ارتكاب هذه الجريمة بناء على خطة منظّمة مرسومة من “الدولة” ينفّذها كبار المسؤولين فيها أو أنّ الدولة تشجّع تنفيذها من قبل الأفراد العاديين ضدّ مجموعة تربط بين أفرادها روابط قومية أو اثنيه أو عرقية أو دينية. ولا يشترط في المجني عليهم أن يكونوا تابعين لنفس الدولة أو دولة أخرى. ويستوي أيضا أن تقع جريمة الإبادة الجامعية في وقت السلم أو وقت الحرب.