إن المصالحة فطرة نشأ عليها الجزائريون، منذ القديم، بسبب التركيبة البشرية للمجتمع الجزائري الذي استمد أصوله من تنوعه وكلها تدعو الى الوسطية ونبذ العنف واصلاح ذات البين والرفق بالمستضعفين، وهو ما ترجم اعتراف الامم المتحدة بمقترح الجزائر بجعل 16 ماي يوما عالميا.
بولاية تيارت، رسخت فيها الكثير من القواعد التي تدعو الى المصالحة، وذلك في المناسبات التي يتجمع فيها الكثير من شرائح المجتمع، من خلال «الوعدة» أو ما يسمى بـ «الطعم»، لكن المناسبة، هي كذلك للصلح بين المتخاصمين و تقريب من فرقتهم السبل، مثل ما يجري في كل مناسبة المولد النبوي الشريف وليلة السابع والعشرين من شهر رمضان بزاوية «الغوافلة»، ببلدية عين الحديد، والتي يتولى شؤونها أو خادمها، كما يحلو أن يقول الشيخ الحاج مكي بوغفالة، والذي قال لنا في دردشة معه أنه استطاع التقريب بين جميع المتخاصمين ببلدية عين الحديد ولمدن المجاورة وحتى من ولاية معسكر المجاورة، زيادة على تعليم شبان من مختلف البلديات والولايات والتكفل بهم من مأكل ومشرب ومبيت وترسيخ ثقافة المصالحة بينهم، من طرف الشيخ المكي بوغوفالة إمام بمسجد ما فتئ يلقي دروسا حول المصالحة.
أما علال دحو مقدم ضريح سيدي علي بوشنافة «رجال الدايرة»، وهو شيخ الوعدة ولمشرف عليها ببلدية سيدي عبد الرحمان بتيارت فقد شرح لنا من خلالها دور الوعدة في لم الشمل والتقاء أناس لم تسعفهم الظروف في الملاقاة سوى مرة كل سنة حيث يتم التحضير للوعدة لعدة شهور، فالتحضير المادي يتمثل في نصب الخيم وتعيين العائلات التي ستتكفل باستضافة المدعوين والذين يأتون للوعدة دون دعوة لأنها عامة، والاستضافة فيها من مأكل ومشرب والإيواء للذين يأتون من بعيد كولايات النعامة والبيض والاغواط وتيسمسيلت وغيرها من الولايات وتغتنم فرصة التجمع لالتقاء المتخاصمين ويتعرف بعض الزوار ببعضهم، كما تتم المصاهرة بين البعض من خلال التعرف على خصال كل أسرة أو عائلة،وبحسب محدثنا، فإن الاصلاح بين الزوجين المتخاصمين أو المطلقين الذين يجوز لهما الشرع بالمراجعة، وهي كلها ألوان للمصالحة بين افراد المجتمع والاحتفالية لا تخلو من مظاهر البهجة و الفرح ففيها يستمتع الزوار بلعبة الفنتازيا أو الخيالة التي تمتع الناظرين من خلال 5 أو 6 «علفات»وهي عدد فرق الخيالة التي تتوالى على ميدان الفروسية الذين يكونون غالبا بالقرب من ضريح الولي الصالح، ويتم التطوّع من طرف أهالي الولي الصالح لتزويد الخيول بالأعلاف ومادة البارود التي أصبح الحصول عليها صعبا بسبب القوانين التي تنظم الصيد والافراح، وعن توزيع الضيوف على مساكن المساهمين في الاطعام، يقول السيد علال دحو، مقدم الضريح الصالح أنها تطوعية وتسجل أسماء المساهمين أثناء التحضير للوعدة،ومن الزوار من يقصد المكان للتبرك والاستطباب، وكل بحسب نيته، يشكر السيد علال مصالح الدرك الوطني التي تؤطر اللّقاء الروحاني.
في الجانب الدراسي الاكاديمي السيكولوجي، توّجهنا بالموضوع الى الاستاذة دالية أمينة من جامعة ابن خلدون بتيارت من تخصص علم اجتماع الاتصال، حيث قالت عن الموضوع انه فضاء يتم فيه اللقاء بين الأفراد من كل الفئات الاجتماعية فضاء للفرجة والفرحة لتخفيف الضغوط وأعباء الحياة اليومية.. للاستهلاك وفيه تبادل للمنافع والمنتجات المحلية فضاء لتأكيد الرابط الاجتماعي، يتم فيه الاجتماع بأبناء العشيرة والقبيلة من كل المناطق، فضاء للتنشئة ونقل المعرفة بين الأجيال، فيه حلقات للذكر وللقصص الشعبي والشعر، فضاء للاستشفاء والتبرك وفيه العديد من الطقوس الاستشفائية.
أضافت الاستاذة دالية ان هذه التجمعات تعمل بطريقة آلية على دفع أي صراع ممكن داخل التنظيم الاجتماعي يستغل الأعيان المناسبة للتذكير بوحدة الجماعة ووصايا الولي الصالح... في حالة وجود خلافات يسعى الأفراد إلى التقاضي في هذا الفضاء لدى الاعيان ويتم حل كل المشاكل العالقة، يتم التعهد أمام الناس مثلا بأن العلاقات ستتوطد و تتعمق ويسهر الأعيان على التحالفات القرابية مثل الخطبة وعقد القران بين العائلات في هذه المناسبة.
هي مناسبات، تضيف الاستاذة، أمينة دالية، انها جمعية دورية تخدم وظائف اجتماعية متعددة مثل الاحتفاء بالجد المؤسس للعرش والفرقة مناسبة للإحتفاء بالقبيلة واعادة التجمع ولو بشكل رمزي حول ضريح الجد، وفيها تتجلى قيم الكرم أي الاطعام، ترميم العلاقات الاجتماعية وحل كل أشكال الصراع. الرجوع للقيم الأصلية ومحاولة الرجوع للزمن الماضي، السعي للمحافظة على ديمومة الحدث التاريخي واسترجاع المآثر الماضية، مثل استعراض الجماعات الحربية أي الفرسان. وهي عبارة عن طقوس زراعية تجمع، في بداية الموسم الفلاحي، وفي نهايته للاحتفاء بالأرض، والمناسبة، هي أيضا، وهي عبارة عن طقوس زراعية تجمع في بداية الموسم الفلاحي، وفي نهايته للاحتفاء بالأرض ومزايا الارض في التعايش السلمي المتبادل.