تـــاريـــخ طـــويـــل وخـــبرة مــتــأصّــلــة في الــصــّنــاعــة الــغــذائــيـــــة
تعتبر مدينة سيق بمعسكر مركزًا حيويًا لزراعة الزيتون وجني ثمار هذه الشجرة المباركة، حيث يضفي موسم جني الزيتون حيوية مميزة على المنطقة، ويكتسي أهمية خاصة لدى السكان، كما يشهد نشاطًا دؤوبًا من قبل الفلاحين والناشطين في مجال التحويل.
تبلغ مساحة حقول الزيتون في محيط سيق أكثر من 7000 هكتار، مما يجعلها وجهة للعمالة الموسمية، حيث يستفيد الآلاف من الفلاحين من الأجر اليومي الذي يتراوح بين 4500 دج بفضل الإنتاج الكبير الذي كان يصل في السابق إلى 700 ألف قنطار، ومع ذلك فقد تأثّرت هذه الصناعة مؤخرًا بتقلبات المناخ، حيث سجلت انخفاضًا في الإنتاج هذا الموسم بنسبة تصل إلى 40-50 %، ممّا أثّر سلبًا على وحدات التحويل والمصانع التي تعتمد على هذا المنتج، في وقت يُواجه الفلاحون تحديات تتعلق بشح مياه الري وارتفاع درجات الحرارة، ممّا يتطلّب جهودًا أكبر لتحسين الظروف الزراعية.
يأتي موسم جني الزيتون كنبض للقلب في مدينة سيق، فيضفي على كل زاوية من شوارع مدينة سيق نكهة مميزة، حيث تتناغم رائحة الأرض وثمار الزيتون مع الحماس الذي يغمر الفلاحين والعائلات في هذا الموسم، فيتحدث الزيتون بلغة الأرض، ويُسرد على ألسنة الأجيال حكايات عن الفصول التي مضت، وعن أمل في موسم جديد يحمل في طياته خيرات الطبيعة.
ويتحول إقليم دائرة سيق وضواحيها في بداية شهر أكتوبر من كل موسم فلاحي إلى قبلة لليد العاملة الموسمية، التي تشتغل في مجال جني الزيتون من حقوله المترامية على مساحة تزيد عن 7 آلاف هكتار بمحيط سيق، فضلا عن العمل الموسمي في وحدات التحويل والتصبير المتخصصة، المتمركزة داخل النسيج الحضري لمدينة سيق، والتي تشكّل عصبا اقتصاديا حيويا، بعدد يزيد عن 340 وحدة تحويل وتصبير نظامية تشغّل زهاء 3325 يد عاملة، بالإضافة إلى عدد معتبر من الوحدات المنتجة لزيتون المائدة بطريقة تقليدية، حيث تمتلئ شوارع هذه المدينة المترامية الأطراف بالمركبات المحملة بثمار الزيتون، القادمة من كل حدب وصوب لتقتحم مستودعات تخزين الزيتون استعدادا لتحويله بعناية فائقة،
مجــــــــــال مــــــــدرّ لــــلــــــثـــــّروة ومــســتــقــطــب لــلــيــد الــعــامــلــــة
ويعني موسم جني الزيتون بمدينة سيق الكثير لسكانها، فهو فترة مليئة بالحيوية والنشاط لسكان المنطقة رجالا ونساء من مختلف الأعمار، حيث يسترزق الآلاف من عمال حقول الزيتون من جنيه الموسمي يدويا، بأجرة تصل إلى حدود 450-700 دج عن صندوق الزيتون الواحد، ما يرفع أجرة العامل الواحد إلى 4500 يوميا كحد أدنى عن 10 صناديق في مواسم الوفرة، حيث تعتبر هذه الفئة العاملة في مجال الجني الموسمي للزيتون، نشاطها فرصة للربح والإسترزاق بالتخلي مؤقتا عن مجالات عملها اليومية والخروج في عطلة سنوية، بالنسبة لبعض العمال ذوي الالتزامات الإدارية من أجل التفرغ لحملة الجني وسط الحقول، زيادة على العمل الموسمي بوحدات التصبير الذي تختص فيه اليد العاملة البسيطة من كلى الجنسين، على امتداد ساعات اليوم التي تبتدئ بالنسبة لهذه الفئة قبل شروق الشمس.
وتعد اليد العاملة أحد أعمدة صناعة الزيتون، حيث يعرف سكان مدينة سيق بخبرتهم النافذة في تحويل وتصبير الزيتون، وهي الحرفة المتوارثة أبا عن جد، وتعتبر اليوم واحدة من روافد الصناعات التحويلية الغذائية ذات الآفاق الاقتصادية الواعدة، وعلى الرغم من أن شعبة الزيتون تستقطب كتلة معتبرة من اليد العاملة، بداية من الإنتاج إلى الجني ثم التحويل والتسويق، غير أنّها تسجّل نقصا ملحوظا في اليد العاملة المؤهلة في عدة مجالات فلاحية وصناعية، من بينها اليد العاملة المختصة في تقليم الأشجار وحماية النباتات، والمختصة في التصبير والتحويل، التغليف والتعليب ومراقبة النوعية، وهي مهن يقدّمها قطاع التكوين المهني لولاية معسكر، في شكل عروض تكوين في شعبة الفلاحة في 19 تخصصا، تتواجد كلها بمؤسسات التكوين المهني خارج أقليم دائرة سيق، ما يشكّل عائقا أمام سكان المنطقة من أجل الحصول على تكوين مهني يؤهّلهم لاقتحام مجال الصناعات التحويلية ضمن مؤسسات مصغرة خاصة بهم أو الظفر بمنصب عمل دائم براتب محترم في الوحدات الصناعية.
تـــقــــريـــــب مجـــــالات الـــــتّــــكــــويـــــن وتـــــنــــويــــــعـــــهـــــــــا
ولا يمكن تجاهل الدور الكبير لليد العاملة في تعزيز إنتاجية هذه الشعبة الفلاحية والحيوية، فرغم التحديات التي تواجهها اليد العاملة، إلا أن الفرص المتاحة في مجال التدريب وتحسين ظروف العمل، يمكن أن تساهم في تعزيز هذه الصناعة وجعلها أكثر استدامة وفعالية، حيث أبرز المهنيون في هذه الشعبة، أهمية تقريب مجالات تكوين وتأهيل اليد العاملة في المنطقة لتحقيق الأهداف والتطلعات الاقتصادية، وعملا على تحفيز وتشجيع الاستثمار في مجال الصناعة الغذائية، من خلال توفير برامج تدريبية لتحسين مهارات وكفاءة اليد العاملة والرفع من فعاليتها، مقابل إسهامات هذه الشعبة في تنشيط قطاعات وصناعات أخرى، ما يسهم بالتالي في تنمية الاقتصاد الوطني.
ســــــرّ الــــتّــــســــمــــيــــــة
وتعود زراعة الزيتون بمنطقة معسكر إلى حقب متقدمة من تاريخ منطقة شمال إفريقيا وحوض البحر المتوسط، حسب المختصين في التاريخ، الذين يؤكّدون أن عامل المناخ ساعد في انتشار زراعة الزيتون وتطويرها بهذه المنطقة، لاسيما خلال فترة الوجود العثماني والفترة الاستعمارية الفرنسية، التي استغلت تواجدها بالجزائر لاستنزاف وتحويل خيرات البلاد إلى الضفة الشمالية من الأبيض المتوسط، الأهم من ذلك، أنه وبفضل احتكاك أهالي منطقة سيق وغيرها من المناطق التي تشهر بزراعة الزيتون في ولاية معسكر، تمكّن هؤلاء من اكتساب خبرات المعمر في مجال زراعة الزيتون حتى أصبح ذلك إرثا متداولا بين الأجيال المتعاقبة.
أما تسمية منتوج الزيتون المصبّر “سيقواز”، فهي لا تعود لثمار المنتوج الفلاحي، إنما على المنتوج الذي مرّ عبر طريق التحويل والتصبير، كتسمية ملتصقة بخبرة سكان منطقة سيق في هذا المجال، والمتوارثة عن حقب متقدمة من الممارسة الفلاحية، حيث زاد الاهتمام بزراعة الزيتون في معسكر بعد سياسات الدولة وبرامجها لتثمين وترقية هذه الشعبة الفلاحية، عملا على تنويع مصادر دخل الاقتصاد الوطني وتحقيق الاكتفاء الغذائي، برفع تحدي تكثيف زراعة الزيتون وتوسيع المساحة المنتجة، التي يتموقع 50 بالمئة منها بإقليم مدينة سيق ذات الشهرة الواسعة بزراعة الزيتون، تليها منطقة وادي التاغية في جنوب الولاية، التي تعتبر هي الأخرى من الركائز الأساسية لزراعة الزيتون بالولاية على مساحة تقدر بألف هكتار.
وتشتهر مدينة سيق بحقول الزيتون الشاسعة، وبخبرة سكانها المتوارثة في تحويل وتصبير زيتون المائدة، في حين اكتسبت المنطقة شهرتها في إنتاج زيتون “سيقواز” المحوّل، والذي كثيرا ما تدخل كميات كبيرة منه إلى مصانع سيق من ولايات مجاورة، تزيد أحيانا عن المليون قنطار، إضافة إلى المنتوج المحلي لمعسكر الذي يتربع على مساحة زراعية تزيد عن 19 ألف هكتار من أشجار الزيتون، منها 15 ألف هكتار مساحة منتجة، وتصل مردودية إنتاجها إلى 700 ألف قنطار في مواسم الوفرة.
يذكر أنّ موسم الجني الماضي لامس مردود الإنتاج 570 قنطار، ومع توالي موسمين من الجفاف والقحط، تراجع الإنتاج إلى نحو 40-50 بالمئة هذه السنة عن الموسم الماضي.
تحــــدّي الــتّـــقــلــّبـــات المــنـــاخـــيـــــة
ويعتمد النشاط الصناعي لوحدات تحويل زيتون المائدة، على ما يجود به مردود الشجرة المباركة في المنطقة، زيادة على الكميات الكبيرة التي ترد إلى مصانع المنطقة من ولايات الوطن على غرار تلمسان، سعيدة وغليزان، ما أهّل المنطقة أن تكون قطبا فلاحيا وصناعيا بامتياز، على الرغم من تقلّب ظروف الإنتاج وتأثّرها بالوفرة، نتيجة التقلبات المناخية التي تسبّبت في تراجع مردودية حقول الزيتون بمحيط سيق، حيث تتسابق مصانع المنطقة على احتلال حقول الولايات المجاورة التي نجت بقدرة قادر من الجفاف، اعتمادا على السقي التكميلي خلال فترة الانتاج.
شــــعـــبـــة فـــلاحـــيـــة مـــبــــاركــــة
فعلى الرغم من الجهود الحثيثة لترقية زراعة الزيتون بولاية معسكر، غير أنّ تأثر المنطقة بالعوامل المناخية أرخى بظلال ثقيلة على الصناعيين، ناهيك عن تضرر منتجي الزيتون، فالجميع هنا يتحدث عن تراجع المنتوج الأساسي الذي تعتمد عليه وحدات التصبير والتحويل، على غرار المتعامل الصناعي الحاج بسايح، الذي تكلّم كثيرا عن شهرة زيتون سيق، وخبرة المنطقة في مجال التحويل، قائلا إن مصانع المنطقة تشغّل الآلاف من أرباب الأسر، وذلك الجانب الوحيد الذي لا يتأثر بعامل وفرة المنتوج من عدمه، باستثناء ساعات العمل التي تقلصت هي الأخرى بسبب انخفاض كميات الزيتون التي تعالجها أياديهم الخبيرة، بالاستعانة بالمعدات والتجهيزات الحديثة بالمصانع، مؤكّدا أنّ أكبر المصانع وأكثرها شهرة لن يتعدى نشاطها تحويل ألف قنطار من ثمار الشجرة المباركة هذا الموسم.
أمّا منتجو الزيتون الذين تبدو عليهم ملامح التأثر والتذمر لتراجع محصول ثمار الشجرة المباركة، فقد أرجعوا أسباب ذلك إلى شح مياه السقي الفلاحي التي استلموا منها دورة سقي فلاحية واحدة بقدرة 10 ملايين متر مكعب، زيادة على عامل ارتفاع درجات الحرارة والتقلبات الجوية التي أثرت على نوعية الإنتاج وكميته، فضلا عن عجز كميات المياه الموفرة عن تغطية احتياجات المنتجين خارج محيط سيق ببلديتي العلايمية وعقاز على مساحة تزيد عن 100 هكتار، ما تسبب في تضرر المنتوج كما ونوعا، متطلعين إلى رفع حظوظ الولاية الفلاحية من الإنتاج، خاصة في هذه الشعبة الفلاحية المباركة المدرّة للثروة والمشغّلة للآلاف من شباب المنطقة في مختلف مراحل الجني والإنتاج.
وتمتلك مدينة سيق مؤهلات عظيمة في مجال انتاج الزيتون وتحويله، زيادة على خبرة السكان المحليين في هذا النشاط، الذين يتطلعون إلى دعم هذه الشعبة الفلاحية التي ترتبط بها صناعات تحويلية غذائية، وأخرى مبتكرة ناتجة عن تحويل مخلفات عصر وتصبير الزيتون، على غرار النواة التي تستخرج منها زيوت طبيعية تستعمل في صناعة مستحضرات التجميل، وحتى تحويلها إلى الفحم الفاخر النباتي المعروف بجودته العالية، الذي ارتفع عليه الطلب في السوق المحلية والوطنية، وحتى استخدام هذه البقايا كأعلاف للحيوانات، وهي صناعات ترافق إنتاج الزيتون وتساهم في تحقيق الاستدامة البيئية، من حيث التقليل من نفايات المصانع وتحويلها إلى موارد مفيدة.
وعلى الرغم من هذه التحديات، يظل الزيتون رمزًا للخصوبة والتاريخ في المنطقة، حيث تواصل سيق التطلع إلى تعزيز قدراتها في هذا المجال، بما يسهم في دعم الاقتصاد المحلي، وتحقيق استدامة بيئية من خلال تحويل المخلفات إلى موارد مفيدة.