صنع المنتدى الاجتماعي العالمي بتونس نهاية الاسبوع الماضي الحدث السياسي من حيث نوعية النقاش الذي فتحه على مدار الـ 5 أيام، والورشات التي أفضت إلى توصيات في غاية الأهمية والجدوى لا زالت تتصدّر أولى صفحات العناوين الاعلامية وندوات الفضائيات وحوارات النوادي السياسية. وفّق المنتدى في خرجته في المشروع الذي يناضل من أجله وتمايزه في عرض انشغالات القوى الحية في المجتمع المدني، التي لم يسمع لها ولم تشرك في القرار والتغيير. وهذا الاقصاء الذي لم يكن مفاجئا ولا غريبا في شيء، ولّد للمنتدى شحنة إضافية في النضال من أجل إعادة التوازن للمعادلة وكسبها المناعة والمتانة في محيط حبلى بالتناقضات، تجرفه عولمة عرجاء تعمل ما في المقدرة للبقاء على حالة الجمود والمفارقة وإطالة سيطرة “المركزية الغربية”، دون الأخذ في الاعتبار صعود قوى ناشئة أخرى تحمل رؤية مغايرة ونظرة متباينة في تشييد العالم الجديد الحق.
وفّق المنتدى في هذه الخرجة التي أعادت إلى الواجهة صرخات المجتمع المدني ومعركته المصيرية لاستقامة وضع مهتز وواقع مختل متدهور إلى حدّ الإفراط، عبر مضمون الخطاب الذي رافع من أجل منظومة جديدة تقرّ بدمقرطة المؤسسات والهيئات ورفض الاحتكار والانفراد بالقرار.
وكشف المنتدى الذي جرت وقائعه لأول مرة بدولة عريبة تونس، كيف هي الحاجة الملحة لعالم آخر تحكمه القيم والمعايير لا يخضع لسلطة المال والنفوذ وصراع القوى المهيمنة بالمعمورة؟ عالم بديل لما يروج إليه منتدى دافوس الذي يخدم القوى المهيمنة على المعمورة أكثر من البحث عن تدابير علاج لمشاكل أمم الجنوب التي هي في الغالب تعقيدات تداعيات نظام رأسمالي وتناقضات مؤسسات “بروتون وودز” المنشأة في أعقاب الحرب العالمية الثانية للابقاء على سيطرة القوى الغربية، وتوفير لها المناعة والديمومة أمام زحف النظام الاشتراكي المغاير آنذاك في ظل المواجهة المفتوحة بين الثنائية القطبية وصراعها الإيديولوجي ومباراتها الفكرية حول العالم الأفضل.
كشف المنتدى التناقض الصارخ بين ما يرفع من شعارات جوفاء حول النظام العالمي الجديد، الذي ولد على أنقاض “يالطا”، بوتسدام وسان فرانسيسكو والواقع المتغير بأسرع ما يمكن، وهو واقع يناقض تماما تطلّع شعوب المعمورة التي أنهكتها الحروب والنزاعات، وأثقلت كاهلها الأزمات التي ما هي في حقيقة الأمر سوى إفرازات النظام الليبرالي المسيطر على كبريات الأشياء وأصغرها، والمركزية الغربية التي تقود العالم بانفراد وتوجهه حسب المصالح والنفوذ غير قابلة بالمرة تقاسم القرار، وإشراك الآخرين في رسم معالم التغيير الحق.
على هذا الأساس جاءت رسالة المنتدى الذي ترك فيه المجتمع المدني الجزائري بصماته ومرّر مقترحاته حول “ميثاق السلم”، غير مشفّرة في أكبر تجمّع عالمي للبدائل والنشطاء حاملة لمواقف واضحة المعالم تجاه ما يجري من “حراك عربي” في أكثر من موقع تطالب بتصحيح المسار في سبيل البناء الوطني، وتطبيق مبدأ الحرية والعدالة الاجتماعية للجميع، وتوسيع الديمقراطية التشاورية التي يعوّل عليها في ترسيخ مؤسسات تعتمد قاعدة “الرأي والرأي المخالف “، منهجية عمل دائم في بلد لا يمكن أن يتحول من يحكمه في يوم وليلة إلى “ديكتاتور” آخر يرفض تقاسم السلطة ويصرخ بملء الفم “أنا الدولة والدولة أنا”.
من هذه الزاوية تقرأ نظرة المنتدى الذي يعقد لأول مرة منذ تأسيسه عام 2000 في البرازيل، في بلد عربي بمشاركة 30 ألف من ممثلي النقابات العمالية والنشطاء من جميع أنحاء العالم تجاه المشهد المضطرب في العالم العربي، الذي يعطي الانطباع بأنّه يخضع لأجندة خارجية بحكم مؤشرات كثيرة وملامح اتّضحت معالمها، وإن كانت هناك الكثير من الأسباب الداخلية التي أجّجت الأزمة وولّدت الصراع وظّفت بطريقة عجيبة وفق ما تمليه مصالح القوى الخارجية وحسابات الجغرافيا السياسية وإملاءات الاستراتجية الراهنة. كانت هناك مسائل زجّت في معادلة التحول، ممثلة في إفرازات أنظمة سياسية لم تبد أي تفتح تجاه الآخر، وظلّت حبيسة النظرة السلبية المولدة للانفجار: “كل معارض فهو ضدي ومحاربته فرض عين”.
ظلّت الكثير من الأنظمة التي عرفت “الحراك العربي” عالقة الأبواب والنوافذ، ولم تكلّف نفسها عناء الاجتهاد في اتخاذ القرار الصائب والاحترازات التي تؤمّن للدولة القومية الدوام وتنبعد عنها شر التدخل الخارجي.
العكس حدث، والعاصفة هبّت محرّكة من قوى خارجية، موظفة كل الأساليب المؤدية إلى تحقيق مآربها التي خطّطت لها من زمان وسطّرتها في خارطة لتجزئة المجزأ، وتطبيق سايكس بيكو جديدة في العالم العربي حبيس التناقضات المغلوب على أمره ونظامه الأمني مخترق من كل مكان يفرض التحرك الاستعجالي لوقف الطوفان.
المنتدى الاجتماعي العالمي يضع اليد على الجرح
“ الربيع العربي” يتحول إلى شتاء عاصف
فنيدس بن بلة
شوهد:1411 مرة