يصادف هذا العام الذكرى السنوية المائة لتفاهمات سايكس بيكو السرية التي تمّت في 16 ماي 1916، بين الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس على تقاسم تركة الإمبراطورية العثمانية وبالتحديد في منطقة الهلال الخصيب. ثم ما لبثت أن توّجت هذه التفاهمات باتفاقيات دولية رسمية بمؤتمر سان ريموعام 1920.
ومع تردي الأوضاع العربية في الوقت الحالي يراود العديد من المهتمين تخوف مشروع بأن تقسيما جديدا لعدد من الدول العربية يلوح في الأفق، ورغم ذلك هناك العديد من العوامل التي لا تؤيد سيناريو التقسيم وإعادة رسم الحدود أو ما يمكن تسميته سايكس بيكو جديدة أهمها:
أولا: طبيعة النظام الدولي؛ إذ مع حالة الفوضى التي تسوده والتحول في موازين القوى الدولية هناك صعوبة شديدة في اتفاق هذه القوى على قضية شائكة جدا مثل إعادة ترسيم الحدود.
بالمحصلة النهائية، فإن غياب الاستقرار في النظام الدولي يجعل من الصعوبة بمكان للقوى المكونة له التوصل إلى سايكس بيكو جديدة مقارنة بالنظام الدولي الذي ساد عام 1916، وسان ريمو 1920، الذي انجلت فيه حالة التحول في النظام الدولي وخرجت بموجبه بريطانيا وفرنسا كدول منتصرة قوية ومستعدة لتقاسم التركة العثمانية تعترف كل قوة منها بقوة الطرف الآخر وتحترم مناطق نفوذه؛ الأمر الذي ساعد على جلوس ممثلي الدولتين لتقاسم مناطق النفوذ على الخارطة وبالمسطرة والقلم.
ثانيا: يختلف الوقت الراهن عما كان عليه الحال عام 1916، بوجود لاعبين أساسيين وفاعلين على الأرض تشكّلوا على أسس طائفية وإثنية وسياسية وحزبية وأيديولوجية، ومن غير الممكن للقوى الدولية أن تقوم بإعادة ترسيم الحدود باتفاقية سايكس بيكو جديدة دون التنسيق المباشر مع هذه القوى وهو أمر غير ممكن في الكثير من الحالات نظرا لاختلاف أجنداتها وحالة العداء غير المسبوق فيما بينها وغير ذلك من الأسباب.
فهناك تنظيم الدولة الإرهابي والتنظيمات الكردية المتعددة في العراق وسوريا وميليشيات الحشد الشعبي وجبهة النصرة والقاعدة والقبائل المتعددة في اليمن وليبيا وغير ذلك من القوى، ومن شبه المستحيل الجمع ما بين هذه التنظيمات على طاولة واحدة سوية مع الطرف الدولي للاتفاق على شكل الحدود الجديدة. وفي الوقت ذاته من المستبعد أن تستطيع هذه القوى المحلية إعادة ترسيم الحدود بنفسها وبمعزل عن التوافق الدولي على الحدود الجديدة.
محاولات تقسيم فاشلة
إن الساحة الدولية مليئة بالأمثلة الفاشلة لمثل هذه المحاولات؛ فهناك شمال قبرص التي انفصلت بدعم تركي عام 1974، ولم تستطع نقل هذا الانفصال خطوة واحدة إلى الأمام باتجاه إقامة دولة معترف بها دوليا وهي تفاوض الآن من جديد من أجل العودة إلى الوحدة مع قبرص اليونانية. كذلك هناك إقليم ناغورني كاراباخ الذي انفصل عن أذربيجان على 1994، ولم يستطع هو الآخر ترجمة ذلك لدولة معترف بها دوليا.
عامل آخر يعمل ضد التقسيم هو موفق الأنظمة العربية الرسمية التي تخشى أن ينتقل تقسيم دولة ما إلى حالات أخرى قد يكون من الصعب تجنبها.
بدائل أكثر خطورة
على أية حال، فإن البدائل لسايكس بيكو جديدة قد تكون أكثر خطورة على المستقبل العربي، أولها التقسيم بحكم الواقع بحيث يصبح لدينا بهذه الحالة ما يسمى بالدولة الفاشلة، وهو نمط يهدّد دولا مثل سوريا واليمن وليبيا والعراق.
التقسيم الجغرافي الناتج عن الحروب يصاحبه تشكل هويات واقتصاديات جديدة تصبح فيما بعد عائقا أمام الوحدة الوطنية للدولة. الخطورة بهذا النوع من التقسيم إن حصل أنه سيتم على أسس طائفية أوعرقية أوقبلية أوغيرها بحيث تصبح الدولة مقسّمة بنيويا على أرض الواقع ولكنها تبقى دولة بالشكل فقط فاقدة لأهم مكون لها وهوالمتمثل باحتكار القوة.
الفدرالية خيار مطروح
النمط الثاني للدولة العربية المحتملة هو الدولة الفيدرالية القائمة على أنقاض الدولة المركزية؛ النظام الفيدرالي بحد ذاته لا يعني دولة ضعيفة بالضرورة فهناك أكثر من 27 دولة فيدرالية في العالم من بينها الولايات المتحدة وألمانيا وروسيا وغيرها، ولكن المشكلة هنا أن الدولة الخارجة من صراع دموي كبعض الدول العربية قد يؤدي إلى تقسيم فعلي للبلاد أو إنشاء دولة فيدرالية على أسس طائفية أوعرقية، وهو ما سيبقيها حبيسة لصراعات لا تنتهي، وإن لم تقسم لاحقا قد تتحول إلى دولة هشة، ولكن بالمقابل فإن نجاح النظام الفيدرالي حتى بعد مرحلة الصراع تبقى قائمة.
«التقسيم والفيدرالية واللامركزية والدولة الهشة وشبه الدولة ليست أقدارا محتمة على الدولة العربية، بل هناك الكثير من الحلول التي تخلق دولة صلبة قادرة على مواجهة تشتت الانتماءات الطائفية والعرقية والقبلية وكذا المخططات الخارجية سواء كان ذلك بسايكس بيكوأوغيرها».
النمط الثالث وهو ما يسميه أستاذ العلوم السياسية روبرت جاكسون الذي درس نشوء الدول في العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية (أشباه الدول) وهي التي تفرض حكوماتها السيطرة على حدودها ولكنها تفتقد للقدرة التشغيلية للدولة وتعتمد على المساعدات التي تأتيها من المجموعة الدولية مثل مصر في الوقت الحالي على سبيل المثال لا الحصر.
الوحدة قوّة
المستفيد الوحيد من إعادة التقسيم أو فشل الدولة العربية بأي من أنماطها الثلاثة السابقة هو إسرائيل، وعلى العرب أن يعوا تماما بأن التقسيم والفيدرالية واللامركزية والدولة الهشّة وشبه الدولة ليست أقدارا محتمة، بل هناك الكثير من الحلول التي تخلق دولة صلبة قادرة ليس فقط على مواجهة تشتت الانتماءات الطائفية والعرقية والقبلية بل المخططات الخارجية سواء كان ذلك بسايكس بيكو أو سان ريمو جديدين.
الحلول موجودة، وأهمها إنشاء دولة المواطنة التي تقوم على عقد اجتماعي جديد يتضمن إصلاحات سياسية واسعة وليست تجميلية، وإرساء قواعد الحكم الجيد والمساءلة وإيجاد قدر معقول من التنمية.. هذه ليست معجزات سياسية ولكنها مطالب شرعية لمواطني تلك الدول أولا، وأسس ضرورية لإقامة حكم يستبدل حالة الفوضى التي تعيشها الدولة العربية.
التنوع العرقي والطائفي الذي تعيشه جلّ الدول العربية يجب أن ينظر إليه كمصدر قوة وليس مصدر ضعف.