لم يكن يساور الشعب التونسي قبل عامين وهو ينتفض ضد رئيسه السابق بأنه بعد رحيله سيضيع في متاهة من التوتر الأمني والاحتقان السياسي والتدهور الاجتماعي والانكسار السياسي..
لم يخطر على بال التونسيين وهم ينشدون شمّ نسائم الربيع أن تعصف بهم رياح التغيير وتقذفهم إلى بحر هائج فتلطمهم أمواجه العاتية وتلقي بهم في “هوة” سحيقة من التجاذبات السياسية، والتصادمات الحزبية وتجرهم الى حالة من الشد والجذب والتصعيد الذي بلغت خطورته درجة تسجيل أول عملية اغتيال سياسي كانت بمثابة قوة دفع أخرى نحو مزيد من التوتر والفوضى والمجهول المفتوح على أخطر الاحتمالات.
بين البوعزيزي وبلعيد
مثلما كانت صورة »البوعزيزي« وهو يحترق سببا في انتفاضة تونس والانقلاب على بن علي، جاء اغتيال المعارض اليساري »شكري بلعيد« ليزلزل أركان القيادة الجديدة ولينسف بحكومة »حمادي الجبالي« المؤقتة، وليعيد البلاد الى أجواء مرحلة تشبه في بعض الجوانب ما عاشته قبل سنتين، وبعد أن اعتقد البعض بأن أزهار الياسمين بدأت تتفتح وروائحها تعطر تونس، حيث تم انتخاب مؤسسات السلطة التي باشرت مهمتها في اقرار الهدوء الاجتماعي واستتباب الأمن عاد الوضع الهش لينتكس مع اغتيال »بلعيد« في 6 فيفري الماضي، حيث كان هذا الحادث الخطير بمثابة الشرارة التي ألهبت البلاد من جديد وأقامت الوضع فيها ولم تقعده، وهزت الشوارع بأمواج المحتجين الذين خرجوا للمطالبة بتحقيق أهداف »الثورة« واحداث التغيير الحقيقي معبرين عن رفضهم لحكم التيار الاسلامي الذي تقوده حركة النهضة.
وأدت هذه التطورات الى الإطاحة بحكومة »الجبالي« الذي فهم رسالة الشعب الغاضب، وسعى الى تهدئة الوضع وايجاد حل وسط يحول دون حصول انسداد سياسي غير محمود العواقب من خلال اقتراحه لحكومة كفاءات غير حزبية، لكنه اصطدم بجدار من الرفض أبدته »النهضة« التي تمسكت بحقها في تشكيل أي حكومة جديدة من منطلق حصولها على الأغلبية البرلمانية.
ورمى »الجبالي« المنشفة كما وعد وقدم واستقالته وتم تعيين وزير الداخلية »على العريض« خلفا له، ومن المرجح أن يواجه هو الآخر تحديات كبرى، بل وقد يصطدم بالانسداد نفسه، لتستمر تونس في حالة من المخاض السياسي العسير ومعها يحبس التونسيون أنفاسهم خشية مزيد من الانزلاق أو الدخول في متاهة العنف واللاأمن لتزيد أوضاعهم سوءا خاصة وهم يعيشون ترديا اقتصاديا ومصاعب اجتماعية جمة.
للأزمة أبعاد اقتصادية
بين الاقتصاد والسياسة علاقة متكاملة ومتبادلة فإذا صحّ الأول تعافت الثانية وإذا مرض أحدهما إعتل الآخر.
وفي تونس كان السبب الذي اطلق شرارة »الثورة« اقتصاديا واجتماعيا، حيث كان »البوعزيزي« يعيش البطالة ويقتات وعائلته من طاولة خضار قلبها في وجهه رجال أمن قبل أن تصفعه واحدة منهم.
إذن الوضع الاقتصادي في عهد النظام البائد لم يكن مريحا على الأقل بالنسبة للجزء الأعظم، من الشعب القاطن بالجنوب البائس على وجه الخصوص، لكن التغيير لم يحمل مفتاحا سحريا وعدم الاستقرار السياسي الذي صاحبه، زاد من التدهور الاقتصادي الذي عرف حسب أرقام رسمية عجزا تجاريا وتراجعا لاحتياطي العملة الصعبة وتقلصا في الاستثمارات الأجنبية وانخفاظا كبيرا في عائدات السياحة ورغم أن الحكومة التونسية المؤقتة أعلنت بأنها حققت نموا بنسبة 5 . 3 ٪ خلال السنة الماضية، فإن موجات الاضطرابات والأوضاع الاقتصاية الموروثة عن سياسات النظام السابق، كان لها التأثير السلبي على الديناميكية الاقتصادية وعلى الانتاج، وحسب مصادر رسمية، فإن العجر التجاري ارتفع إلى 7 مليار دولار والمجودات الصافية للعملة الصعبة انخفضت بحيث أنها لا يمكن أن تغطي ثلاثة أشهر من الواردات وذلك في سابقة لم تعرفها البلاد، وارتفعت نسبة التضخم في جانفي الماضي إلى 6 ٪.
وفي المجال السياسي الذي يشكل عصب الاقتصاد التونسي وبسب الاضطرابات الاجتماعية والأمنية وإغلاق العديد من المرافق السياحية وتسريح العمال لم يتجاوز عدد السياح خلال العام الماضي 6 ملايين سائح، ولم تتجاوز عائدات هذا القطاع الذي مازال يشهد ترديا خطيرا 6 . 1 مليار دولار.
كما تراجعت مختلف قطاعات الصناعة، بعد أن هاجر الكثير من المستثمرين بحثا عن مناخ مناسب لتوطين مشاريعهم، وشهدت البطالة ارتفاعا مطردا زاد عن 16 ٪ العام الماضي، ومعها زادت نسبة الفقر التي وصلت إلى 7 ، 24 ٪ وفي المقابل شهدت الأسعار ارتفاعا جنونيا تجاوز 6 ٪.
على خطى اليونان!
مكمن الخطورة في هذه المصاعب الاقتصادية هو انعكاساتها على الوضع الاجتماعي والاستقرار السياسي، فاجتماعيا لم تتوقف الاضطرابات والاحتجاجات وواجهت الحكومة المؤقتة التي استقالت قبل أيام حسب أحد المصادر، انتقادات شديدة من طرف قوى المعارضة التي اتهمتها بالاكتفاء بترميم السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي انتهجها النظام السابق، دون حل للمشاكل، بل وتتهمها بتأجيج الاحتقان الاجتماعي وترسيخ التفاوت الطبقي، وهذا الوضع الاجتماعي المضطرب ألقى بظلاله القاتمة على الاستقرار السياسي وأضرّ به.
كما أن التردي الاقتصادي المتواصل قد يجر تونس كما كتب أحد الخبراء الى الحالة اليونانية فاستمرار ضبابية المشهد السياسي والاضطرابات على المستوى الاجتماعي والأمني بما لا يوفر المناخ المناسب لجذب الاستثمارات وانعاش قطاع السياحة واستعادة عافية بعض القطاعات الانتاجية، سيجعل الحكومة في حالة افلاس وقد يضطرها للجوء الى الاقتراض الخارجي لتجاوز المشكلات المرتبطة بتمويل الميزانية ومواجهة النفقات العمومية وهو بديل أكثر تكلفة، خاصة وأن حجم مديونية تونس أصبح لا يطاق كماأضاف ذات الخبير.
وحتى تتجنب السيناريو اليوناني اقتصاديا وتستعيد استقرارها الاجتماعي والأمني، لابد من توافق سياسي يخرج تونس من حالة الانسداد والاحتقان ويضع القطار الذي انطلق نحو التغيير قبل عامين على السكة الصحيحة.