ظلّ اللّيبيون على مرّ العقود يحلمون بإقامة دولة ديمقراطية مدنية يحكمها القانون، تقوم على حماية حقوق الإنسان وتوفير احتياجاته. ولمّا نجحوا قبل ثلاث سنوات في الاطاحة بنظام العقيد معمر القذافي بدعم من “الناتو”، اعتقدوا بأنّ الوقت قد حان لتحقيق حلمهم، لكن الفرحة سرعان ما أجهضت لتحلّ مكانها معاناة حقيقية مع العنف
والاقتتال والتّيهان السياسي، الذي جعل ليبيا اليوم تقف على مسافة قريبة من الحرب الأهلية بكل ما تحمله من مآسي ومخاطر تفتيت الوحدة التّرابية والسّكانية وتهديدات التّدخل الخارجي الذي ستكون ويلاته كبيرة.
لقد ضلّت “الثورة” اللّيبية الطّريق شيئا فشيئا بفعل تضارب المصالح وصراع الهويات القبلية والفئوية وسيادة سلطة السلاح، إلى أن دخلت البلاد في نفق الاقتتال المظلم اعتبارا من منتصف العام الجاري، وبات المشهد هناك قاتم وصعب الفهم.
سلطة برأسين ومليشيات “متغوّلة”
لم تحدث المواجهة بين رفاق الأمس الذين أصبحوا يصنّفون بعضهم “ثورة” و«ثورة مضادة” فجأة، ولم ينطلق الاقتتال المسلّح مع انفجار معركة مطار طرابلس منتصف أوت الماضي بين مليشيات “فجر ليبيا” ونظيراتها القادمة من الزنتان على أهميتها. فقد سبق ذلك خلافات وصراعات عزّزها عجز الدولة، و«تغوّل “المليشيات عليها، ومصادرة دورها.
ثم اقتحم هذا المشهد المضطرب اللواء المتقاعد خليفة حفتر رافعا شعار “مكافحة الإرهاب” لتدخل البلاد في نفق مظلم، خاصة مع
ولادة برلمانين وحكومتين في ظرف شهر واحد، يدّعي كل منهما الشّرعية التي باتت الرّقم الغائب في المعادلة الليبية الصّعبة الحل .
قلق الجوار
لم يقف جيران ليبيا مكتوفي الأيدي، فالنّار المشتعلة هناك بدأت تهدّد المنطقة برمّتها، وقد اجتمع وزراء خارجيتهم أربع مرات لبحث الوضع في هذا البلد، وأجمعوا على رفض أي تدخل عسكري خارجي، وأصرّوا على تسوية سياسية تمرّ عبر حوار يجمع جميع الاخوة الفرقاء.
ولعلّ من أكثر بلدان المنطقة تشديدا على الحل السياسي التفاوضي هي الجزائر، التي تستعد لاحتضان لقاء بين الليبيين قريبا، تماما كما فعلت مع الفصائل المسلّحة شمال مالي وسلطات باماكو في الأسابيع الماضية.
سلاح مستباح في كل مكان
تعاني ليبيا من ظاهرة الميليشيات المسلّحة التي نشأت في الأساس للاطاحة بالقذافي في 17 فيفري 2011، لكنها رفضت تسليم السّلاح بعد أن حقّقت “الناتو” هدفها وأخدت شوكتها تقوى إلى أن تحوّلت إلى ظاهرة سياسية وأمنية أقوى من الجيش الوطني، بل وأصبحت بمثابة الدولة داخل الدولة خاصة مع إخفاق الأحزاب السياسية الفائزة في الانتخابات التشريعية في التوافق على تشريعات لحلّها ودمجها في مؤسسات الدولة.
وتشير التّقديرات إلى أنّ هذه المليشيات باتت تضمّ نحو 200 ألف.
وفي وقت لاحق أصبحت الميليشيات بديلا عن الجيش في تنفيذ المهمات الأمنية التي تحتاجها الحكومة، وفي مقدّمتها تأمين الحماية لمنشآت الدولة نفسها.
وبالتّزامن مع لجوء الحكومة للميليشيات، بدأ استخدام الأخيرة كوسيلة لفرض مطالب جهوية أو سياسية، فاستخدم المطالبون بإنشاء إقليم برقة حراس المنشئات النفطية لحصارها بدلا من حمايتها، وحاولوا تصدير النّفط بأنفسهم بعيدا عن الحكومة، لكن قوة أميركية أفشلت المحاولة في البحر في 25 مارس الماضي وأعادت الباخرة المستخدمة بتنفيذها مع حمولتها.
وفي مناسبات عدة اقتحمت ميليشيات أخرى مقر المؤتمر الوطني (البرلمان) لفرض بند على مداولاته.
وخلال العامين الماضيين، سقط ليبيون في بنغازي وطرابلس، برصاص ميليشيات، كانوا يتظاهرون سلميا للمطالبة بحلّها، كما استخدمت الميليشيات في عمليات اختطاف أو ابتزاز دبلوماسيين من الأردن وتونس ومصر.
احتراب داخلي يطلّ برأسه
مع دخول اللّواء المتقاعد خليفة حفتر على المشهد في إطار عملية “كرامة ليبيا” وإخفاق الفرقاء في حل خلافاتهم داخل الحكومة والمؤتمر الوطني، بدأ استخدام الميليشيات لحسم الخلاف على هوية السّلطة والحكومة.
وأدّى اقتتالها على نطاق واسع في طرابلس وبنغازي مند مطلع أوت 2014، إلى تهجير 250 ألفا، وإخلاء سفارات أجنبية كثيرة، وتعطيل المطارات الدولية، إلى جانب مقتل المئات، في مؤشّر على أنّ الاحتراب الأهلي الليبي يطلّ برأسه ويتحتّم على جهات محايدة التدخل لإطفاء النّار الملتهبة.
وفي ظل الأجواء القاتمة التي تشهدها ليبيا تبقي حلول الأزمة ممكنة وتتلخّص في القضاء على فوضى السّلاح المنتشر في البلاد، ودمج الثوار في مؤسّسات الدولة الرّسمية، وجلوس جميع الفرقاء السياسيين إلى طاولة المفاوضات للاتفاق على خارطة طريق للمرحلة المقبلة تُعلي مصلحة ليبيا على المصالح الفئوية الضيّقة.