يعكس سلوك الخارجية الأمريكية تفاعل عدة عوامل تؤثر في صناعة القرارالأمريكي حيال مختلف القضايا الدولية، لعّل اللوبيات المتعدّدة سيما اللوبي الإسرائلي واليهودي أين أثبتت التجارب المختلفة، أن هذا الأخير له اليد الطولي في السياسة الخارجية الأمريكية خصوصا اتجاه قضايا الشرق الأوسط بشكل عام والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص.
«الأيباك” أكبر لوبي يهودي في الولايات المتحدة
«الأيباك” أو اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤؤن العامة هي جماعة ضغط صهيونية تأسست في سنة ١٩٥١ هدفها دعم إسرائيل صراعها ضد الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط ونشر الإيديولوجية الصهيونية، من خلال دعم اليمين الإسرائيلي وحزب الليكود على وجه الخصوص، سيما ما يتعلّق بالملفّات المتعلقة بالمستوطنات في الأراضي المحتلة. وحسب الموسوعة الحرة ويكيبيديا تصل الميزانية السنوية لهذه المنظمة ٤٥ مليون دولار أمريكي وتعتمد على شبكة ممتدة تضم ٧٠ منظمة تابعة لها، ولديها مكاتب منتشرة عبر غالبية الولايات الأمريكية.
كما يقع مقرها الرئيسي في واشنطن قرب الكونغرس الأمريكي، بلغ عدد المنخرطين في “الأبياك “العام ٢٠١١، ٠٠٠ . ١٠٠ عضو، في حين وصل عدد الموظفين في نفس السنة إلى ١٦٥.
من أهم الأهداف التي أنشأت من أجلها هذه الجماعة الضاغطة المثيرة للجدل، ضمان الفيتو الأمريكي حيال أي قرار أممي يدين إسرائيل، تحضير الأجيال القادمة من القيادات الأمريكية الموالية لإسرائيل، تنسيق وتوجيه الدعم المالي ليهود أمريكا خلال الإنتخابات لتوجيهه للمرشّح الذي يخدم الصالح الإسرائيلي، وقد استطاعت هذه المنظمة التي كانت تحمل في البداية اسم (اللجنة الصهيونية الأمريكية للشؤون العامة) التأثير بشكل مثير للإنتباه على السلوك الخارجي للولايات المتحدة الأمريكية وتجلى ذلك في الدعم اللامشروط لإسرائيل وغض الطرف على جرائمها وإجهاض كل المحاولات الرامية إلى إدانة ذلك، وكذا في التحريض على غزو العراق وضرب ليبيا والعقوبات المفروضة على إيران ...إلخ وهي حالات لم تكن فيهاالإدارة الأمريكية أكثر من مجرد منفذ لنزوات وأهداف هذا اللوبي الصهيوني النافذ في مفاصل هذه الإدارة التي وجدت نفسها مصابة بعقدة اتجاه إسرائيل التي أعطتها شيكا على بياض لتفعل ما تشاء حتى تلك الأفعال والممارسات التي كثيرا ما أحرجت الإدارة الأمريكية، أمام الرأي العام الداخلي والدولي، وطأطأت رؤوس العديد من الرؤساء الأمريكيين الذين انحنوا أمام البطش الصامت لهذه المنظمة الصهيونية. ويكفي أن الرئيس باراك أوباما تعرّض لإهانة شديدة في المؤتمر السنوي للإيباك الذي عقد سنة ٢٠١٢، في واشنطن حين أخذ الكلمة في افتتاح المؤتمر بعد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي تعامل مع نظيره الأمريكي بفوقية مثيرة للإنتباه. وقد تكون هذه المحطة التي بدأت تتدحرج فيها الأيباك في الجهة الخلفية من الهرم.
الإيباك ... بوادر أولية للتراجع:
لابد من التذكير أن الإيباك جاءت كجماعة ضغط مستقلة لتخلف المجلس الصهيوني لأمريكا بعد التوتر الذي حصل بين إدارة إيزنهاور والمتحمسين لإسرائيل والتي تسربت على إثرها إشاعات عن اعتزام الإدارة الأمريكية آنذاك إجراء تحقيق حول هذا المجلس الذي عاد إلى العمل سنوات بعد ذلك تحت مسمى اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤون العامة. وفي العام ٢٠٠٦ وأمام ممارسات هذا اللوبي وضغوطه المستمرة والمفضوحة أصدر باحثان من جامعة شيكاغو كتابا حول اللوبي الموالي لإسرائيل في الولايات المتحدة الأمريكية وقد أثار هذا الكتاب ضجّة حينما أشار إلى التأثير الضخم للإيباك على السياسة الخارجية للولايات المتحدة وانتقد الدعم اللاشروط لهذه المنظمة لحزب الليكود الإسرائيلي وإجهاض كل مجهودات السلام مع الفلسطنيين...
واليوم تزداد مخاوف الدوائر الرسمية في إسرائيل بعد تراجع ملحوظ للإيباك في أوساط الإدارة الأمريكية مما قد يعرّض المصالح الإسرائيلية إلى الضّرر جرّاء هذا التراجع والذي تجلّى في مواقف أمريكية جاءت عكس ما تشتهيه إسرائيل، وهي مؤشرات تنبأ بإفلات الولايات المتحدة الأمريكية من براثن الأخطبوط الإسرائيلي ولو أن ذلك سوف لن يكون غدا!.
الكل يتذكّر الحملة الشرسة التي قادتها وسائل الإعلام الإسرائيلية ضدّ ترشح الرئيس أوباما لعمدة رئاسية ثانية بل أكثر من ذلك وفي فلتة دبلوماسية وتدخل صارخ في الشؤون الأمريكية الداخلية أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي دعمه لمنافس أوروبا في رئاسيات ٢٠١٢، ميترومني وقد أثار تصريح نتنياهو حينها زوبعة في الولايات المتحدة وكشف درجة التخبط التي أصابت اليمين الإسرائيلي وهو يرى أجهزة التحكم عن بعد التي وضعتها الأيباك بين يديه لم يعد لها نفس المفعول السابق. وهناك الكثير من النقاط تثبت تراجع تأثير هذا الوبي الصهيوني في مراكز القرار لأمريكي وصناعة الرأي العام الداخلي بما يتماشى ونزوات إسرائيل ولا بأس من ذكر أهمها:
١) السقوط الحر للتمثيل الرسمي للإدارة الأمريكية في المؤتمرات السنوية للأيباك حيث انخفض التمثيل هذه السنة في مؤتمر مارس الجاري إلى وزير الخارجية جون كيري في حين شارك في مؤتمر ٢٠١٢ الرئيس الأمريكي شخصيا وألقى كلمة في افتتاح المؤتمر، وفي سنة ٢٠١٣ مثّل الإدارة الأمريكية نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن.
٢) إعادة انتخاب الرئيس أوباما لفترة رئاسية ثانية يعتبر في حد ذاته فشلا للإيباك ولإسرائيل على حد سواء بعد مراهنتها ودعمها الصريح لمنافسه الجمهوري ميت رومني.
٣) فشل الإيباك في دفع الإدارة الأمريكية إلى صرف النظر عن تعيين بعض المسؤولين على غرار الضغوط التي مورست على هذه الإدارة لإسقاط تعيين تشاك هاغل على رأس البنتاغون وما رافق ذلك من حملة إعلامية شرسة ضدّه في وسائل الإعلام الإسرائيلية، والأوساط الصهيونية في داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
٤) إنخفاض عدد المشاركين في مؤتمر مارس ٢٠١٤، مقارنة بالمؤتمرات السابقة، حيث شارك في المؤتمر الأخير ١٠.٠٠٠ مشارك في حين حضر في المؤتمر السنوي للسنة الماضية ٠٠٠ ١٣ مشارك أي يتراجع يقدّر بـ ٣٠ ٪.على صعيد السياسة الخارجية هناك محطات حاسمة أثبتت تراجع هذا اللوبي على السلوك الخارجي للولايات المتحدة الأمريكية، ومنها:
١) سقوط خيار توجيه ضربة عسكرية لسوريا من قبل الولايات المتحدة فقد فشلت الإيباك بالدفع بالإدارة الأمريكية بتبني هذا الخيار وهذا طبعا بالإضافة لعوامل أخرى أهمها الموقف الروسي الرافض لذلك بصلابة متناهية.
٢) فشل إسرائيل ومنظمة الإيباك في إجهاض مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني بين إيران ومجموعة (٥ + ١)، وقد بلغ حينها الإمتعاض الإسرائيلي أشده حين لوّح نتانياهو في فكتة ديبلوماسية أخرى بتوجيه ضربة عسكرية لإيران في تحدّ للولايات المتحدة ما يعكس الخيبة التي أصابت اليمين الإسرائيلي والتي تعكسها تهوّر وجنون بنيامين نتنياهو الذي حاول إجهاض المفاوضات بكل الوسائل ولو تعلّق الأمر الأمر بالعدوان على إيران وهي خطوة يدرك الأمريكيون جيدا أنّما غير محدودة العواقب على المنطقة.
وعلى أمن إسرائيل الذي يشكّل صلب الإسراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط. وفشل اللّوبي الصهيوني في الولايات المتحدة ومن ورائه إسرائيل كذلك في تجديد العقوبات الأمريكية على إيران.
٣) الخلاف الأمريكي الإسرائيلي حول المفاوضات مع الفلسطنين ولو أنّ هذا لا يعني أن الدعم الأمريكي غير المشروط لإسرائيل سينتهي غدا لأنه صار أشبه بمدأ في السياسة الخارجية الأمريكية ولكن رغم ذلك فإن التصرّفات الإسرائيلية، سيما مع حكومة نتنياهو أصبحت مصدر قلق للإدارة الأمريكية ويكفي لتوضيح ما قاله الرئيس أوباما عند استقباله لبنيامين نتانياهو بداية مارس الجاري حول مفاوضات السلام في الشرق الأوسط، أنه لا ينبغي أن يكون الاتفاق الإطار إتفاقا بين الولايات المتحدة وإسرائيل ثم يعرض على الفلسطينين ليقبلوه أو يرفضوه.
وهناك إشارات أخرى على هذا التراجع تتجسّد في بروز تيار بقيادة اليمين المتطرّف أفيدغور ليبرمان مفاده أنّه على إسرائيل البحث عن حلفاء جدد أخذ يزداد نفوذهم على الساحة الدولية على غرار روسيا والصين والدول الناشئة بشكل عام كالهند والبرازيل...إلخ لتعويض المساحة التي خسرتها مع الولايات المتحدة الأمريكية والتي يتراجع دورها هي الأخرى في مجريات السياسة الدولية لصالح روسيا والصين أو ما يعرف بدول “البريكس” بشكل عام.
الأكيد أن إسرائيل ومنذ تأسيسها من طرف عصابات الهاجانا العام ١٩٤٨ لم تشهد الإخفاقات الديبلوماسية التي لحقتها السنتين الآخيرتين، حيث إن الكثير من التطوّرات الحاصلة جرت عكس ما تشتهيه هذه “الدولة” العنصرية التي جعلت من الولايات المتحدة مجرّد آداة للدفاع عن تصرفاتها المنحرفة اتجاه شعب أعزل يعاني منذ ٦٠ عاما من الشتات والضياع والحرمان والاعتداءات المستمرة لإسرائيل دون أن يستطيع المجتمع الدولي أن يحرّك ساكنا لأن القرار الأمريكي لا يزال رهين اللّوبيات الصهيونية المتغلغلة في مفاصل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ولكن يبدو أن هناك موجة وعي بدأت تجتاج هذه الإدارة وتنذر بخطر هذه اللّوبيات الجاثمة على صدرها وخصوصا “الأيباك” التي بدأ يتراجع تأثيرها وتأثير إسرائيل التي لحقتها الكثير من الإخفاقات الدبلوماسية المتكررة فهل حان الوقت لكي تُغلّب الإدارة الأمريكية مصلحة الشعب الأمريكي على مصلحة إسرائيل؟!.