شدّ روسي وجذب غربي

أوكرانيا .. كرة لهب تهدّد العلاقات بين موسكو وواشنطن

فضيلة دفوس

في الوقت الذي يسابق فيه العام الزّمن للبحث عن تسوية سياسية سلمية للأزمة السّورية، وفي أجواء الاحباط التي تخيّم على بلاد الشّام إثر إخفاق مؤتمر “جنيف ٢” في تحقيق النتائج المرجوّة. تفجّر الوضع في أوكرانيا ومعه اختلطت الأوراق وتشابكت الخيوط لتتشكّل أزمة جديدة مختلفة بعض الشيء عن المعضلة السّورية لكنّها تتقاطع معها في بعض النّقاط، لعلّ أهمّها أنّ الأطراف التي تتحكّم بها هي نفسها، وكلاهما يعكس ملامح عودة الحرب الباردة والثنائية القطبية.

فما هي أسباب الأزمة الأوكرانية وأبعادها؟ وما هي حظوظ الحلّ السّلمي؟ وقبل ذلك وبعده كيف بدأت هذه الأزمة وما الذي جعلها تكبر ككرة اللّهب لتشعل العلاقات الرّوسية ـ الأمريكية؟
الخلاف بدأ عندما رفض الرّئيس الأوكراني المنتخب “فيكتور ـ يانوكوفيتش” قبل أشهر توقيع اتّفاقية تجارية مع الاتـّحاد الأوروبي تحت ضغط وإغراء ـ كما يقول البعض ـ من روسيا مقرون بصفقات غاز رخيصة و١٥ مليار دولار من الهبات والقروض الميسّرة واتّفاق تجارة موازي بشروط أفضل.
لكن موقف الرّئيس الأوكراني ومن ورائه روسيا الحريصة على إبقاء أوكرانيا جزءًا أساسيا من دائرة نفوذها، أثار نقمة عدد كبير من شعبه، الذي خرج إلى الشّوارع وسكن السّاحات متحدّيا أجواء البرد والصّقيع للمطالبة ليس فقط بتوقيع الاتّفاقية مع الغرب، بل وبتنظيم انتخابات مبكّرة وإقرار نظام حكم فيدرالي على الطّريقة الألمانية، يحوّل رئيس الجمهورية إلى رئيس صوري وشرفي.
وخلال أشهر من التّصعيد، تحوّلت أوكرانيا إلى شعرة معاوية يتجاذبها من جهة الشّعب المنتفض ومن ورائه الغرب، الذي يريد أن يُلحِق أوكرانيا بعالمه كما ألحق كل جمهوريات الاتّحاد السّوفياتي  السّابق. ومن جهة ثانية، النّظام الحاكم في كييف ومن ورائه روسيا التي ترفض وصول أوروبا إلى حديقتها الخلفية وتنظر إلى المعارضة الأوكرانية على أنّها مِعول ينفّد مؤامرة أمريكية تستهدفها شخصيّا.

إجهاض اتّفاقية فيفري

مع مرور الأسابيع والأشهر، تأزّم الوضع في أوكرانيا وتعفّنت الأجواء، وتوسّعت مطالب المحتجّين لتشمل رحيل “يانوكوفيتش”، على اعتباره يشكّل حجرة عثرة في طريق الاندماج الاقتصادي مع أوروبا. وفي خطوة وصفها البعض بالتّنازل من طرف السّلطة، وقّع الرّئيس الأوكراني في ٢١ فيفري الماضي مع زعماء المعارضة وبحضور وزراء خارجية ألمانيا، فرنسا وبولندا وممثّل عن روسيا، إتّفاقية للتّسوية نصّت على بدء الاصلاح الدّستوري بمشاركة جميع المناطق الأوكرانية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تشارك فيها جميع القوى السياسية وكل أنحاء الجمهورية.
والغريب العجيب أنّه بمجرّد توقيع هذه الاتّفاقية التي كان من المفروض أن تحلحل الأزمة، وحتى قبل أن يجفّ حبرها تراجعت المعارضة عمّا جاء فيها، وشهدت أوكرانيا تصعيدا مخيفا أرغم الرّئيس على مغادرة البلاد إلى روسيا وطلب منها المساعدة لاستعادة الشّرعية.
وفعلا، سارعت روسيا إلى التحرّك في اتـّجاه أوكرانيا تحت مظلّة حماية رعاياها والنّاطقين باللّغة الرّوسية، وأيضا حماية مصالحها وهي كثيرة وخاصة قوّاتها المسلّحة وأسطولها البحري المتمركز بالبحر الأحمر.

“الدبّ” الرّوسي يشحذ أنيابه

 لقد وصف الرّئيس الرّوسي  “فلاديمير بوتين” عزل الرّئيس الأوكراني بأنّه غير شرعي، وقال بأنّ بلاده تحتفظ بحقّها في التدخّل بأوكرانيا لحماية رعاياها والنّاطقين بالروسية.
ونفى أن تكون قوّاته تسيطر على شبه جزيرة القرم، وأورد بأنّ قوات محليّة للدّفاع عن النّفس هي التي تسيطر على مباني رسمية هناك، نافيا أن تكون مصلحة موسكو في إثارة المشاعر الانفصالية في القرم.
وحذّر الغرب الذي رفع في وجه روسيا عصا العقوبات من أنّ أيّ عقوبات تفرضها أمريكا وحلفائها الأوروبيّين ستضرّ من يفرضها أكثر ممّا تضرّ بلاده.
وجدّد بوتين اعترافه بشرعية يانوكوفيتش، ووصف ما جرى بأنّه استيلاء مسلّح وغير شرعي على السّلطة من قِبل المعارضة، وقال أنّ تولّي السّلطات الجديدة مقاليد الحكم في كييف غير دستوري.
وذكّر الرّئيس الرّوسي الذي أعادت أزمة أوكرانيا إلى ذهنه أزمة جورجيا سنة ٢٠٠٨، التي تمرّدت على بلاده وحاولت أن تكون حصان طروادة للغرب في جوار بلاده، بأنّ الأزمة الأوكرانية يجب أن تُحلّ من خلال تطبيق اتفاقية فيفري التي قبلت بها المعارضة ووقّعتها أمام العالم أجمع.
ورغم أنّ الخطوات الرّوسية على الأرض لم تتجاوز شبه جزيرة القرم، إلاّ أنّ الغرب جنّ جنونه وأشهر في وجه بوتين ورقة العقوبات.

الغرب وعصا العقوبات

ما أن حصل “بوتين “ على موافقة المجلس الاتحادي بالتدخّل العسكري في أوكرانيا إذا تطلّب الأمر، وما أن تحرّكت روسيا في اتجاه القرم حتى تهاطلت التّهديدات على موسكو من طرف أمريكا والاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات لوقف ما أطلق عليها انتهاك وريثة الاتحاد السوفياتي لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها.
وأدانت مجموعة الدّول الصّناعية السّبع تدخّل روسيا في أوكرانيا، وألغت التّحضيرات لعقد قمّة مجموعة الثماني التي تضمّ روسيا والتي من المقرّر تنظيمها في سوتشي شهر جوان القادم.
لكن لحسن حظّ روسيا، فقد تجلّى بوضوح تباين كبير في وجهات النظر داخل البيت الأوروبي حول آليات التّعامل معها، فأبدت دول حماستها لفرض عقوبات سريعة عليها، لكن فرنسا وألمانيا اللّتين تربطهما علاقات تجارية وعسكرية مع روسيا تحفّظت، وعارضت بريطانيا فرض قيود على القطاع المصرفي الرّوسي، تخوّفا من تداعيات محتملة على أوروبا وتفادى الرّئيس الفرنسي “فرانسوا هولاند” إعلان أنّ العقوبات المحتملة قد تستهدف القيادة الرّوسية ، وقال: “لا نبحث عن زيادة التوتر بل عن فرصة لإطلاق الحوار”.
وحذّر الوزير الألماني للخارجية من أنّ فرض عقوبات على روسيا سيفوّت فرصة إيجاد حلّ ديبلوماسي.
ومع تباين مواقفها من معاقبة روسيا، فضّلت مجموعة السّبع المضيّ قدما في استمالة أوكرانيا بمجموعة من المحفّزات والاغراءات والوعود العسلية التي قد تعجز عن تنفيذها، حيث تعهّدت بتقديم دعم مالي فوري للسّلطات في كييف، التي أبدت من جهتها استعدادها لتوقيع اتّفاق الشّراكة التّجارية مع الاتحاد الأوربي.
ومعلوم أنّ احتياجات أوكرانيا المالية كبيرة جدّا، وتتجاوز ٣٥ مليار دولار في العامين المقبلين فقط.

موسكو تشهر سلاح الغاز

 وردّا على التهديد الغربي، أشهر “بوتين” من جانبه سلاح الغاز لمعاقبة أوكرانيا التي تحظى بسعر تفضيلي، وهي مرتبطة ارتباطا كليّا بالغاز الرّوسي، وحذّرت شركة “غاز بروم” الرّوسية العملاقة للطّاقة، أوكرانيا من أنّها قد تعهد إلى قطع إمدادات الغاز عنها ما لم تفِ بمستحقّاتها التي تبلغ ١٠٨٩ مليار دولار. وكانت موسكو قد قطعت إمداداتها عن كييف وأوروبا عام ٢٠٠٩.
كما وجّهت روسيا تهديداتها لأوروبا التي تستورد منها ثلث احتياجاتها من الغاز.
وهذا يتجلّى واضحا بأنّ روسيا القادرة على امتصاص أيّة عقوبات يمكن أن تفرض عليه من قبل التّحالف الأوروبي ـ الأمريكي، مصمّمة على أن تردّ الضّربة بضربة أقوى، وهو ما يفسّر تردّد الغرب وعدم اتّفاقه بشأن معاقبة روسيا العازمة أكثر من أي وقت مضى على استرداد الهيبة التي اندثرت مع الاتحاد السّوفياتي بكل الوسائل.
ويبقى في الأخير السّؤال إلى أين تتّجه الأزمة الأوكرانية؟
ويردّ المراقبون السياسيون باستبعاد حصول مجابهة عسكرية بين الغرب وروسيا على الأراضي الأوكرانية، لكنّهم لا يستبعدونها بين الأوكرانيين أنفسهم في حالة عدم الجلوس إلى طاولة الحوار والبحث عن اتّفاق يُرضي الجميع، ويذكّرون بأنّ أوكرانيا تملك تاريخا عريقا من الانقسامات والحروب الأهلية.
هؤلاء المراقبون يجزمون بأنّه ما دامت خطوط الاتّصالات مفتوحة بين موسكو وواشنطن وعواصم أوروبا، فالوضع سيبقى تحت السّيطرة، لتنضمّ بذلك قضية أوكرانيا إلى قائمة القضايا الخلافية بين روسيا والغرب، من كوريا الشّمالية إلى المحيط الهندي والدّروع الصّاروخية وقضايا الشرق الأوسط وسوريا وإيران وأفغانستان...
وإلى أن يجلس الجميع إلى طاولة الحوار للبحث عن تسوية سلمية للأزمة الأوكرانية، لابدّ من الإقرار بأنّ روسيا استطاعت استعادة دورها كلاعب أساسي على السّاحة الدّولية.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024