عجلت تداعيات الأزمة الأمنية السورية بتشكيل الحكومة اللبنانية بعد حوالي ١٠ أشهر من تكليف السيد تمام سلام في ظروف سياسية صعبة جدا، خاصة على الصعيد الداخلي، عصفت برحيل نجيب ميقاتي الذي عمل جاهدا من أجل إحداث التوافق بين الفرقاء في تسيير شؤون البلد.. لكن للأسف سارت الأمور عكس هذا التوجه، نظرا لكثرة الضغوط الممارسة عليه للتموقع في ذلك المشهد المعقد آنذاك.
وخلال الآونة الأخيرة شعر اللبنانيون أكثر من أي وقت مضى، بأن السياق الراهن يحتاج حقا للإسراع بتوفير الإطار الحصين الذي يقي البلد من الأخطار الخارجية، خاصة ما ترتب عن النزاع المسلح القائم في سوريا وسعي بعض الأطراف إلى إقحام لبنان في صراع بعيد عنه لا ناقة ولا جمل له فيه. لكن بحكم التواصل على مستوى الحدود، كاد أن يجر إلى وضع لا يحمد عقباه يكلفه ثمنا باهظا.. وماتزال حتى الآن الاستفزازات بشتى الطرق.
وعليه، فإن التحلي بالمسؤولية الوطنية كان سيد الموقف هذه المرة، وتعالى الجميع عن الخلافات والحزازات الشخصية والخطابات النارية والتراشق بالأوصاف غير اللائقة. وهذا كله من أجل إبعاد لبنان عن كل هذه المشاكل القادمة من الخارج والتي أضرت بوحدته الوطنية وأدخلته في نقاش بيزنطي وحوار الطرشان، هذا ما كان يسود قبل ١٥ فيفري تاريخ إعلان التشكيلة الجديدة.
ويشهد للرئيس ميشال سليمان كفاءته العالية في إدارة الأوضاع المعقدة. ففي ذروة الانزلاقات كان حكيما في تعامله مع كل الأطياف ولم ينحاز إلى أي فريق، إلا أنه كان يقول كلاما على من تدخل في سوريا بعناصره.. وفي نفس الوقت رفض رفضا قاطعا التوقيع على مرسوم تأسيس الحكومة يقصي أي طرف فاعل في البلد. ولم يسرْ في الاتجاه الذي أراد إبعاد تيار أو حزب معين موجود على الساحة اللبنانية.
التفجيرات الأخيرة التي كان البلد مسرحا لها أيقظت الضمائر الميتة التي اعتقدت أن إزاحة طرف وإضعاف آخر هو الحل.. وأدرك الكل بأن الخطر الداهم لا يرحم أحداً، سواء أكان سنيا أو شيعيا أو مسيحيا.. والمسلك هو في العودة إلى بناء الجهاز التنفيذي وفق صيغة التساوي بين جماعة ١٤ آذار وجماعة ٨ آذار وقوى الوسط، المتكونة من رئيس الجمهورية والنائب وليد جنبلاط على قاعدة مبدإ التداول على الوزارات بين هذه الفعاليات.. وعدم احتكارها من أجل أغراض سياسية مبيتة.
وتكون تلك الأطراف قد فهمت بأنه لا بديل عن القرار اللبناني السيادي في الوقت الحالي لمواجهة كل طارئ.. كما شعرت هذه «القوى السياسية» بالفوضى العارمة التي يريد البعض إدخال لبنان فيها، جراء تحويل البلد إلى حلبة صراعات دموية، بوضع السيارات المفخخة في الأماكن العمومية.. وضرب المؤسسات الوطنية.. والتدمير الذاتي المتواصل لأهداف حقا لا فائدة منها.
ويندرج تشكيل حكومة تمام سلام في هذا الإطار الشامل ألا
وهو الخلاص الوطني.. وهذا بالعودة إلى جادة الصواب والاحتكام إلى العقل في تسيير شؤون البلد، وهي رسالة قوية على أن هذا الحس العالي، تنازل لمشروع الدولة ونقل النقاش من الشارع إلى الأطر النظامية من أجل المصلحة الوطنية الجامعة، لأنها الصيغة الأنسب في السياق الراهن، لتفويت الفرصة على كل المتربصين بهذا البلد والراغبين في إدخاله في حرب أهلية كما كان الحال سنة ١٩٧٥ لولا اتفاق الطائف والدور الفائق للجزائر آنذاك في ترتيب البيت اللبناني سياسيا.
تبقى فقط مسألة «البيان الوزاري» الذي يستدعي الأمر المصادقة عليه بالإجماع، نظرا لقبول كل الأطراف دخول حكومة سلام.. لأن المعطيات تغيّرت تغيّرا جذريا بالمنطقة وهذا بإعادة النظر في الأولويات المطروحة.. هل يعاد الحديث القوي عن سلاح حزب الله، أم هناك تفاهم حول هذه القضية؟
على اللبنانيين ألا يعودوا إلى المربع الأول الذي عطلهم أيّما تعطيل عن الانطلاقة نحو غد أفضل.. ونقصد بذلك التجرّد من كل الأحكام المسبقة والخلفيات المضرة.. والقبول بالآخر.. واحترام آرائه مهما كانت.. وهذه القيم هي التي توارثها اللبنانيون فيما يسمّى بالتعايش بين كل المراجع الدينية والسياسية التي تترجم تركيبة المجتمع في حد ذاته.
و«البيان الوزاري» ستكون نقاطه محلّ تفاهم بين كل الأطياف في كيفية تعزيز المؤسسات وتدعيم أدائها في المستقبل.. خاصة مسايرة الأحداث الجارية على الحدود.. وتزايد عدد اللاجئين السوريين بشكل لا يطاق.. أقلق القيادة الحالية.. كل هذه التحديات أمام الحكومة الجديدة داخليا وخارجيا.. وليس هناك خيار سوى العمل لمصلحة الوطن.. واستلهام العبر من كلّ ما حدث فيما سبق حتى لا يتجذر النزاع على أنه لبناني - لبناني.