يعترف محمد بلعربي المتخصّص في تاريخ التراث الشعبي، وأحد الوجوه التي أصبحت مرجعا في جوانب من التاريخ، أن قاعات السينما التي كانت تنتشر بين زوايا البليدة، تكاد تزيد عن عدد المتاجر والحوانيت والأسواق الشعبية، لواقعها المهم في سنوات الثمانينات إلى مطلع التسعينات والألفية الثانية، ولصقلها بعض المواهب التي نشأت وبرزت، ثم للمعالجة الاجتماعية والفنية والثقافية عموما، لبعض المواضيع والاهتمامات اليومية والواقعية، لكن هيهات هيهات كما يقال، ليس كل ما يتمناه المرء يستمر في العيش والزمن.
«الشعب» تحدّثت مع الباحث محمد بلعربي وعادت بحقائق عن وقائع هذه الهياكل، التي كانت تنبض بالحياة، وكيف كانت تعيش شبه «حراك»، وكيف للمثقفين وطلاب الاغتراف من المعارف ينزلون ويتوافدون إليها وعليها، حتى أصبحت «قاعات السينما والعروض» من اليوميات، مثلها مثل الملح في الطعام.
الزّمن الجميل...
يسرد في عناية ودقة التفصيل الأستاذ محمد بلعربي متحدثا لـ «الشعب»، أن قاعات السينما التي تزهر بها عاصمة المتيجيين ومدن أخرى مثل بوفاريك، كانت كمن يطلب حاجة لا يستغنى عنها، مثلها مثل الهواء والطعام والماء الزلال، يرتوون من عناوين الافلام التي تعرض بها، ومثل ما كان الآباء يحفظون أسماء أطفالهم، كان الكل تقريبا يحفظ اسماء لقاعات، تم اختيارها بعناية، حتى أنه عند ذكرها، تشعر بأنك في عالم النجوم بهوليود وغيرها من المدن والمسارح العالمية، فكان الجميع يحفظ اسم الكوليزي والكابتول (قاعة التوري حاليا)، والمنار والالولومبيا، وسينما لو باري أي سينما باريس، وميامي وقاعة سينما الملك «راكس»، وكما هو الحال اليوم بين جيل الالكترونيات والعالم الافتراضي، كانت تلك القاعات تشكل جزءا من حياة الناس على اختلاف مشاربهم، وميولاتهم وتوجهاتهم وثقافاتهم، ويضيف في تدقيق أن تلك القاعات كانت تعرض أفلاما مختصة، فتجد كل قاعة من التي تم ذكرها تخصص في لون سينمائي، مثل افلام كاوبوي أو رعاة البقر الامريكان، وأخرى في افلام الرعب، وهكذا، ويقول أنه بالنسبة لاترابه وقتها، كانت عطلة نهاية الأسبوع بمثابة العيد، فلا مجال لتفويت الذهاب الى واحدة من تلك القاعات والاستمتاع والإمتاع، وإشباع رغبة شخص لهفان، ومتعطش ان يغترف ويزيد في معارفه.
أفلام تتحوّل لمحاور للنّقاش والتّعليم...
هو عن نفسه يرى أنه في العادة والغالب أن يحضر فيلما أو عرضا، مخرج سينمائي، أو كاتب سيناريو، وما إن يفرغ العرض حتى تتحول قاعة العرض السينمائي، إلى ما يشبه الطاولة المستدير للبحث والنقاش، وفي العادة كان النقاش يدور حول موضوع الفيلم، والاختيارات التي جاءت من وراء إنتاج الفيلم، والغرض منه، وكان النقاش يحتدم ويتحول الى أخذ وعطاء، وهنا تشعر وأنت وسط تلك الأفكار التي تقذف من متفرج ويردها عليه المخرج أو السيناريست، وكأنك وسط بحر من الأفكار التي تزيد في إشباع الفضول، بل وأحيانا تزيد في المعرفة، فكثيرا ما تعلمت عبارات لغوية، من مشاهدة فيلم أو خلال تبادل الحوار والنقاش، ولم يكن يغيب عني وعن البعض
«كراسة وقلم»، أُدون ونُدون كل جديد، واستلهموا نستلهم حتى الخيال والأفكار، فعلا كانت تلك القاعات محجا وموطنا بامتياز للتواصل المعرفي، ولا ينفي في السياق، إنها كانت أيضا تقدم المتعة والفرجة، بعد نهاية أسبوع متعب دراسة أو عملا.
دوام الحال من المحال...
وبنفس الحسرة والأسف الشديدين، يقول الباحث في التراث الشعبي، في أسف وحسرة، أن تلك القاعات التي كانت تزين الشوارع، ويحج إليها المئات، على مدار أيام السنة، لم تبق ولم يعد لها ذكر، وبدايتها مع الاختفاء كانت مع ظهور قاعات الفيديو، والتي باتت ثقافة بين الشباب، انتشرت كالفطريات، وباتت في كل ركن وزاوية، ثم جاء عهد وحقبة «البرابول»، أو ما يعرف بأجهزة الإرسال عبر الأقمار الصناعية، والتي أنتجت جمهورا جديدا، فانتقلت من الفردانية إلى العائلات ككل، وأضحت كل دار أو «دويرة»، كما يحلو لأهل البليدة تسميتها، تكسب «برابولا»، وبدأ عشق وسحر قاعات السينما «يأفل» ويختفي، وكل يوم أصبحنا نسمع عن غلق قاعة تلو الأخرى، ولما انتشر العالم الافتراضي أو الشبكة العنكوتية «الأنترنيت» وقبله بسنوات، باتت الجزائر تعيش ظلاما داميا، في سنين الجمر لعشرية كاملة، لم يبق ذكر لتلك الدور والقاعات، وحلت «الانترنيت» بقوة وفرضت على الجميع تقريبا، منطقها وحضورها، وأصبح الكل حبيس وأسير تلك التكنولوجيا المتطورة بسرعة، وأصبح فعل «الغلق» شبه يومي، بل بعض القاعات تحولت إلى ما يشبه المحلات التجارية والمخازن والمقاهي، وما نجا منها فهو مغلق تحت ذريعة «الترميم»، مثل ما هو الحال مع قاعة المسرح والعروض «الكابتول»، والمعروفة حاليا بـ «محمد التوري»، وقبل الغلق بزمن، باتت تلك العناوين مكانا لتجمعات السياسيين، وإحياء السهرات الفنية، والاحتفال فيها بعيد المرأة، واضعة بذلك ختم عهد لم يعد إلا قصصا عن زمن جميل فقط، يبدأ بـ «يحكى أنه كان في يوم من الأيام قاعات للسينما والأفلام...» لا يتبع، يقول الأستاذ محمد العربي.