شكّلت قضايا التشغيل والبطالة أحد أبرز انشغالات الدولة في السنوات الماضية لارتباطها المباشر بالنمو الاقتصادي، ولكن أيضا لعلاقتها الوثيقة مع السلم الاجتماعي وتماسك المجتمع . وكان الملف ولا يزال حاضرا في صميم الاهتمامات وآخرها ضمن لقاء الثلاثية الذي خصّص لطرح مسألة النمو الاقتصادي في القطاعات التي توفر المزيد من مناصب شغل.
في هذا السياق، ومن منطلق اهتمامها بهذا القطاع وخبرتها الجامعية كباحثة في الاقتصاد، حاولت الدكتورة سعدية كساب طرح إشكالية التشغيل بكل أبعادها ومقاربتها الاقتصادية والاجتماعية، مثمّنة ما تمّ إنجازه وداعية إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار للنقائص المسجلة وتداركها مستقبلا.
تحرير الاقتصاد كانت له تبعات سلبية مباشرة على سوق العمل، حيث أفرز واقعا صعبا، تميّز حسب الباحثة كساب بعجز في اليد العاملة وضعف في التكوين المهني وغياب التنسيق بين التكوين والتشغيل، وضعف الوساطة في سوق العمل وصعوبة الإجراءات المالية والإدارية المعيقة للاستثمار، ومشاكل تمويل مشاريع المقاولين الصغار وانتشار ثقافة التوجه نحو نظام الأجور والتركيز على العلاج الاجتماعي للبطالة.
تسجّل الباحثة وجود تطور بارز في معدل البطالة خلال العشرتين الماضيين، بما أنه تراجع من 19.7 في المائة في بداية التسعينات بعد أن سجل أعلى نسبة له في بداية الألفية الحالية بـ 29.5 في المائة في 2000 إلى 10 في المائة في سنة 2011 وأقل من ذلك أي 9.8 في المائة في 2012 . هذا التراجع الكبير يعود بحسب نفس الباحثة إلى التدخل القوي للدولة من أجل مواجهة معضلة البطالة عن طريق الإنفاق العمومي، وكان لها ذلك بفضل تحسن الإيرادات على نحو لافت سمح لها باستحداث ما بات يعرف بآليات دعم تشغيل الشباب من أجل توفير أكبر عدد ممكن من مناصب شغل لهم.
في تحليلها لواقع سوق العمل، تشير الباحثة إلى أنّه واستنادا إلى معطيات السنوات القليلة الماضية فإنّ البطالين مستعدون التنازل عن الكثير من أجل الظفر بمنصب عمل، حيث أنّ 79.5 في المائة يقبلون العمل بأقل من المؤهل العلمي و 76.5 في المائة عبارة عن شغل بمقابل ضعيف و59 في المائة يضطرون إلى التنقل إلى ولاية أخرى للعمل، بينما يقبل البطالون بنسبة 43.7 في المائة العمل الشاق غير الصحي و 86 في المائة من طالبي العمل يشتغلون في أي قطاع اقتصادي، لتستخلص أنه في كثير من الأحيان يضطر البطال إلى تقديم المزيد من التنازلات للحصول على منصب شغل، غير أنّ الأمر يبقى غير ممكن، مثلما ترى الأستاذة سعدية التي تلفت الانتباه إلى إن الخطر الأكبر يكمن في انتشار البطالة في صفوف الجامعيين على الرغم من التراجع المسجل العام الماضي.
مؤشر البطالة لدى الجامعيين عرف بحسب الأرقام الرسمية أعلى معدل له في سنة 2010 بتجاوزه مستوى 21 في المائة ليتراجع نسبيا إلى 16.7 في المائة في سنة 2012. ومن حيث معدل البطالة حسب التخصص فإنّ جميعها تقريبا معنية بهذا المشكل إذ تشير أرقام الديوان الوطني للإحصائيات إلى أن تخصص العلوم الاجتماعية و الحقوق هو الأكثر تضررا من ظاهرة البطالة بنسبة تعادل 28.7 في المائة، تليه الآداب والفنون بـ 27.5 في المائة ثم فرع العلوم بـ 18.5 في المائة و هكذا، أي أنّ معدل بطالة الجامعيين بلغت 21.4 في المائة بينما المعلن عنه بصفة عامة بلغ 10.5 في المائة كمعدل عام لسنة 2010.
تراجع معدل البطالة إلى مستويات قياسية حجب في طياته ظاهرة يفترض أنها بحاجة إلى الوقوف عندها، وبحث أبعادها التي قد تكون خطيرة، ويتعلق الأمر بالعمل المؤقت الذي تطوّر بحدة من خلال محاولات مواجهة البطالة وتقليص معدلها. الظاهرة استوقفت الباحثة كساب عندما أشارت إلى أن أكثر من 65 في المائة من المناصب التي تم استحداثها عبارة عن مناصب عمل مؤقت، وأن أغلب العقود محددة لمدة زمنية لا تتجاوز السنة، فضلا على وصفها بأنها مناصب لعمل غير لائق.
الأرقام المتوفرة تشير إلى أنّ مناصب الشغل المؤقتة تطغى على الدائمة، بحيث بلغت النسبة أوجها في سنة 2006 بـ 67.3 في المائة لتتراجع بشكل طفيف للغاية إلى 66.6 في المائة في سنة 2010، مقابل 33.4 في المائة من مناصب العمل الدائمة، و ترجع الأستاذة كساب هذه الظاهرة إلى علاقات العمل والقوانين التي اتخذت في هذا الإطار ضمن سياسة التشغيل.
الظاهرة الأخرى التي لا تقل أهمية عن الأولى والتي رصدتها الباحثة كساب وتتمثل في التشغيل غير الرسمي الذي تطور بشكل ملحوظ نظرا لضيق سوق العمل، ويعود مصدره الأساسي إلى المؤسسات الصغيرة و المتوسطة وخاصة العائلية أي المصغرة، ممّا يعني حرمان أعداد كبيرة منها من الحماية الاجتماعية. وتشير الأرقام في هذا الصدد إلى ارتفاع نسبة التشغيل غير الرسمي بصفة مستمرة من 15 في المائة في سنة 1999 إلى 41.3 في المائة في سنة 2005، لتصل إلى 45.6 في المائة في سنة 2010 ممّا يؤكّد من وجهة نظر الباحثة إلى أنّ أغلب مناصب الشغل في سوق العمل يندرج في إطار التشغيل غير الرسمي، ممّا يعني أن أكثر من 50 في المائة من السكان العاملين غير مؤمنين اجتماعيا، وفق التحقيق الذي أجراه الديوان الوطني للإحصائيات.
أمّا التحقيق الآخر الذي أجري في سنة 2012 حول العائلات ومن طرف نفس الهيئة الرسمية، فقد بين أن 295 ألف عامل يمارسون شغلا ثانويا بسبب ضعف الأجور، منهم 42.6 في المائة مؤمن اجتماعيا و الباقي أي 57.4 في المائة غير مؤمن.
لا يمكن تجاهل الجهود التي بذلت من أجل محاصرة ظاهرة البطالة وتوفير أعداد متزايدة من مناصب العمل، والتي أدرجت ضمن إستراتيجية التشغيل الهادفة إلى إصلاح سوق العمل، تعبيرا وتجسيدا للإرادة السياسية لمعالجة المشكل في ظروف خاصة تميزت باستقرار اقتصادي وسياسي وتسجيل معدلات هامة، وارتفاع هام في الاستثمار العمومي، وذلك من خلال مختلف الآليات المستحدثة لمعالجة الظاهرة وفق المقاربة الاقتصادية، أي ترقية ثقافة المقاولة لدى الشباب وإدراجها ضمن المقررات التكوينية، فضلا على عصرنة آليات المتابعة و المراقبة و التقييم.
والغرض من ذلك حسب تحليل الأستاذة كساب خلق القيمة المضافة وإعطاء القطاع الخاص إمكانية المساهمة في توفير مناصب العمل، وعدم المبالغة في الاعتماد على ميزانية الدولة من أجل إيجاد حلول لمشاكل أغلبها ذات طابع اجتماعي.
البرنامج الخاص بترقية المقاولة تمّ دعمه بآليات خاصة من أجل إنشاء مؤسسات صغيرة ومتوسطة، بمرافقة ومساعدة مالية وتسييرية للاستمرار في النشاط لأن العديد من التجارب بيّنت أنّ الكثير من المؤسسات المستحدثة عجزت عن المواصلة في النشاط للمشاكل العديدة التي واجهتها، وأهمها نقص الخبرة في التسيير وغياب المرافقة الحقيقية، إلى جانب مشاكل أخرى وخاصة المالية. ولهذا الغرض سعت الجهات المعنية إلى التدخل ضمن ما عبّرت عنه نفس الباحثة بإجراءات الإصلاح الهادفة إلى تكوين المقاولين في إدارة وتسيير مشاريعهم وتحضير برامج لتكوين الإطارات بهدف مرافقة
وتوجيه ومتابعة المقاولين، والمواصلة في تذليل عقبات التمويل بهدف خلق الأنشطة المنتجة وتشجيع المشاريع التي يحتاجها الاقتصاد الوطني، عوض التركيز على النشاط التجاري، حيث يسجل وجود تجار أكثر منهم مقاولين مفضّلين القطاع التجاري.
ماذا يمكن استخلاص كعناصر للتقييم؟ تقول الباحثة الاقتصادية أنّ إصلاح سوق العمل أصبح مرتبط بالإنفاق العمومي، وأنّ معالجة ظاهرة البطالة تستند أكثر على المقاربة الاجتماعية وتوجّه التشغيل نحو العمل الهش، المؤقت منه وغير الرسمي، فضلا على أن المشاريع الاستثمارية غير مدروسة بالكيفية التي تسمح بإنتاج الثروة، وارتفاع تكاليف سياسة التشغيل سواء في المقاربة الاجتماعية أو الاقتصادية، وعموما فإنّ الاقتصاد الجزائري لم يصل بعد إلى المرحلة التي تسمح له بالاعتماد على نسيج المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في توفير المزيد من مناصب الشغل.