مقاربة اقتصادية جديدة قائمة على التنوع والاستقلالية ^ علاقة موثوقة مع المتعاملين..وبناء نموذج اقتصادي أكثر توازنا وتنوعا
أعلن الاتحاد الأوروبي مؤخرًا موافقته على طلب الجزائر مراجعة اتفاقية الشراكة بين الطرفين، بعد عشرين سنة من دخولها حيز التنفيذ. واليوم، تشهد الجزائر نهضة اقتصادية غير مسبوقة، تستند إلى رؤية استراتيجية قائمة على مبدأ الندية والتعاون “رابح-رابح”، وتدعمها منظومة قانونية حديثة وفرص استثمارية واعدة. وقد عزّز هذا التحوّل من مكانة الجزائر كشريك اقتصادي موثوق، ما يمنحها أوراق قوّة جديدة في مسار التفاوض مع الاتحاد الأوروبي، في سبيل تحقيق شراكة أكثر توازنًا وإنصافًا.
ويؤكد رئيس المركز الجزائري للدراسات الاقتصادية والبحث في قضايا التنمية المحلية، ياسين عبيدات في اتصال مع “الشعب”، أن تعديل اتفاقية الشراكة مع الإتحاد الأوروبي بات ضرورة إستراتيجية للجزائر لمواجهة التحدّيات الاقتصادية الراهنة.
يشير عبيدات إلى عزم الدولة الجزائرية، على بناء نموذج اقتصادي أكثر توازنا وتنوعا، وهذا ما عبّر عنه رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون صراحة في كل مناسبة وفرصة تضمنت الحديث عن المقاربة الاقتصادية للجزائر المنتصرة، ومبدأ الندية الذي تترجمه كل مواقفها الدبلوماسية واتفاقياتها التجارية مع شركائها من جميع دول العالم دون تمييز بينها أو انحياز لدولة دون الأخرى، فالمعيار الوحيد المتفق عليه، يقول المتحدث، هو الندية المتبادلة والربحية المتوازنة والمصالح المشتركة بين جميع الأطراف.
وأضاف عبيدات، أن هذه الخطوة ليست ناتجة عن نزاع بين الجزائر ودول الإتحاد الأوربي، بل تهدف إلى تأسيس شراكة قائمة على منافع متبادلة تحفظ وتحترم المصالح المشتركة لكلا الطرفين، وهو المبدأ الذي لقي قبولا وتجاوبا من طرف الإتحاد الأوروبي، حيث أبدى هذا الأخير استعداده للدخول في مفاوضات تقنية مع الجزائر في إطار إعادة تقييم الاتفاق.
وبخصوص محاور اتفاقية الشراكة هذه، المطروحة على طاولة النقاش وإعادة التقييم، أوضح ذات المتحدث، أن محتوى اتفاق الشراكة الشامل الذي دخل حيز الاستغلال منذ شهر سبتمبر 2005، شمل عدة مجالات وهي التجارة، الحوار السياسي، التعاون الاقتصادي والمالي، إضافة إلى ملف حقوق الإنسان والهجرة.
اختلال الميزان التجاري
وفصّل ياسين عبيدات في الأسباب الحقيقية التي تقف وراء مطالبة الجزائر بإعادة النظر في بنود اتفاقية الشراكة بين الجزائر والإتحاد الأوروبي، مشيرا إلى أنه وبعدما يقارب 20 سنة من دخول الاتفاق حيز التنفيذ، سجلت الجزائر اختلالا في الميزان التجاري بعجز كبير في مبادلاتها التجارية مع الإتحاد الأوروبي، سببه ارتفاع قيمة وارداتها من هذا الأخير، بشكل كبير مقارنة مع حجم وقيمة صادراتها إليه.
علما أن المحروقات تشكل 95%، من قيمة صادرات الجزائر إلى مجموعة الاتحاد الأوروبي.
من جهة أخرى، وبالإضافة إلى ضعف المردود الاقتصادي حيث لم تستفد الجزائر من الاستثمارات الأوروبية المنتظرة والمتوقعة مقابل فتح أسواقها، وسط غياب دعم حقيقي في مجال المشاريع الإنتاجية أو نقل التكنولوجيا، دون إغفال التأثير السلبي على بعض القطاعات، بحسب ذات المتحدث، حيث أدى تحرير الواردات إلى تدهور قطاعات صناعية محلية كانت في طور النشأة بسبب المنافسة غير المتوازنة مع السلع الأوروبية.
وترغب الجزائر، وفق مقاربتها الاقتصادية الجيدة القائمة على التنوّع والاستقلالية، إلى تخفيف الضغط على ميزان المدفوعات وإعادة التوازن التجاري وحماية النسيج الصناعي الوطني وتنشيط فرص الشراكة والاستثمار الحقيقي المنتج وتعزيز السيادة الاقتصادية الوطنية وزيادة الدعم المالي والتقني.
منفعة اقتصادية أحادية القطب
وفي تحليله لمختلف محاور اتفاق الشراكة من حيث الالتزامات والواقع العملي، قال عبيدات، أن ملف التجارة، الذي يعتبر البوصلة التفاوضية لاتفاق الشراكة وهو المجال الذي سجل فيه أكبر اختلال لصالح الإتحاد الأوروبي، وقد نص الاتفاق في هذا الصدد على إقامة منطقة تبادل حر على مدى 12 سنة، وتسهيل الدخول المتبادل للأسواق، إلا أن الواقع سجل عجز مزمن ومتفاقم لصالح الطرف الأوروبي، حيث أصبحت الجزائر سوقا مفتوحة للسلع الأوروبية مقابل صادرات جزائرية تقتصر تقريبا على البترول، تقابلها تعقيدات أوروبية حقيقية لاستيراد السلع الجزائرية باشتراط معايير تقنية وصحية وبيئية وإدارية معقدة تقلص من سهولة دخول السلع الجزائرية.
واستدل ذات المتحدث، بالحرب التجارية التي تعرضت لها منتجات “المرجان” الجزائرية مؤخرا، بعد أن نافست جودتها أعرق الماركات العالمية التي احتكرت الأسواق العالمية لعقود طويلة مؤخرا.
وبالتالي فقد تم تسجيل تدفق غير متوازن أضرّ بالصناعة الوطنية وأضعف تنوّع الصادرات، مما يفرض وبقوّة، إعادة التفاوض وفق رؤية تجارية تنموية تربط فتح السوق بتحقيق الأثر الإنتاجي والتصديري، ولابد على المفاوض الجزائري أن يطلب التفاوض على تعديل فوري في بنود فتح السوق وفق مراجعة نسبية أو مرحلية لبعض المنتجات مع اعتماد نظام الحصص وتسهيل دخول المنتجات الجزائرية للسوق الأوروبية مثل التمور وزيت الزيتون ومواد البناء والسلع الغذائية وتسهيل مطابقتها مع المعايير الأوروبية ودعم منظومة التصدير الجزائرية.
توازن المصالح
أما بالنسبة للمحور الثاني، في بنود اتفاقية الشراكة، والذي لا يقل أهمية عن محور التجارة الخارجية وهو ملف الاستثمار، فرغم أن الاستثمار-يقول المتحدث- كان أحد الوعود الكبرى لاتفاق الشراكة، إلا أن النتائج ظلت بعيدة عن التطلعات الجزائرية ولم تحقق النتائج المنتظرة، حيث نص ذات الاتفاق، على تشجيع الاستثمار الثنائي ودعم نقل المعرفة والخبرة وتسهيل قدوم المستثمرين نحو الوجهة الجزائرية، إلا أن الواقع العملي، بعد عقدين من الزمن، ظل بعيدا عن مستواه المأمول، حيث بقيت الاستثمارات ضعيفة نسبيا مقارنة بالإمكانيات والفرص المتاحة، خصوصا القطاعات الإنتاجية ذات القيمة المضافة العالية كالصناعات التحويلية والطاقات المتجدّدة، ولم تحدث أي طفرة في النمو أو التشغيل أو نقل التكنولوجيا، وبالتالي فإن استفادة الجزائر بقيت محدودة وظلت سوقا استهلاكية، لا قاعدة إنتاج.
وفي سياق تحليله لمختلف الملفات الإستراتيجية الواجب طرحها على طاولة التفاوض مع الطرف الأوربي، تطرق ياسين عبيدات، إلى التعاون الاقتصادي والمالي، حيث نص الاتفاق على دعم التنمية في الجزائر عبر تمويل برامج هيكلية وبرامج لدعم الميزانية ونقل الخبرة ودعم اندماج الجزائر في الاقتصاد العالمي، لكن الملاحظ أن ما تحقق فعليا، فيما يتعلق بالشق المتعلق بالإصلاحات المالية أو الرقمنة بقي محدودا نسبيا، واختزال بعض أشكال الدعم في برامج المناخ والهجرة، وعليه يرى المتحدث، أنه لابد من تقديم تمويلات تؤثر على نسب النمو الحقيقي أو خلق قيمة مضافة واضحة مع تركيز أكثر على القطاعات الإنتاجية.
من اتفاق تجاري إلى شراكة متكافئة
ملف آخر، منحته المتغيرات الجيو-إستراتيجية الحالية بدول الجوار، حساسية خاصة وأولوية النقاش، وهو ملف الهجرة الذي أصبح ملفا مهما بعد أن أصبحت الجزائر منطقة عبور من الدول الإفريقية المجاورة إلى الضفة الشمالية لحوض البحر الأبيض المتوسط.
في هذا الصدد أوضح عبيدات، أن الاتفاق كان قد نص على إدارة متوازنة لهذا الملف الحساس الذي يشمل الهجرة غير الشرعية وترحيل المهاجرين غير الشرعيين وتشجيع الهجرة القانونية، ودعم الإتحاد الأوروبي لبرامج مراقبة الحدود، لكن ما تحقق فعلا هو تحمل الجزائر لعبء أمني كبير في مكافحة الهجرة غير الشرعية، خصوصا دول الساحل وهذا دون دعم ملموس يعكس الجهد فهذا الاتفاق، طالما خدم مصالح الطرف الأوروبي عبر آليات الترحيل ولم تسجل برامج هجرة قانونية فعلية، مع غياب مشاريع ملموسة لتثمين دور الجالية الجزائرية في أوروبا كشريك تنموي، مما سبب اختلالا واضحا في التوازن فالجزائر شريك أمني دون مقابل اقتصادي أو إنساني، وهو ما يتطلب إعادة تفاوض باقتراحات تشمل برامج تنقل حقيقية ومشاريع إدماج الجالية.
وركز عبيدات، في سياق طرحه على ملف الحوار السياسي وحقوق الإنسان، مشددا على ضرورة إعادة تفعيل آليات الحوار على أساس الاحترام المتبادل والندية والمصالح الأمنية المشتركة وإحترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. بالإضافة إلى متابعة بناءة مرتبطة بالتنمية لا بالعقوبات، وإعادة التفاوض حول دعم المشاريع المتعلقة بتطوير السجون وحقوق المرأة واستقلالية القضاء وتمويل برامج لتأهيل الصحافة والقضاة والمجتمع المدني مع احترام الخصوصية الجزائرية والمبادئ الاجتماعية والثقافية عند إجراء أي تقييم لحقوق الإنسان.
كما أكد عبيدات، أن الجزائر لابد أن تتجه نحو إعادة التفاوض بمنطق قوة لإعادة صياغة العلاقة بما يخدم مصالحها الاقتصادية والتنموية والسيادية. فالاتفاق المعدل يجب أن يتحول من مجرد اتفاق تبادل تجاري إلى شراكة إنتاجية متكافئة، تفرض الجزائر من خلاله شروطا ذكية واقعية ومرتبطة ومستندة على أوراق قوتها وفي مقدمتها ديبلوماسيتها الطاقوية والموقع الجغرافي والفرص الاستثمارية الهائلة.
أوراق تفاوض قوّية
وقدم ذات المتحدث مجموعة اقتراحات أخرى داعمة للمحاور الأساسية لاتفاق الشراكة، تتمثل في إدراج ملحق صناعي يشترط استثمارات أوروبية نحو قطاعات إنتاجية ذات أولوية مثل الصناعات التحويلية، الطاقات المتجددة، الفلاحة وإقامة مناطق صناعية أو خلق تكتلات تصديرية نحو إفريقيا.
واعتماد مبدأ المعاملة بالمثل، خاصة وأن الجزائر تقدم امتيازات تجارية دون تلقي امتياز مقابل وعليه لابد من ربط أي إعفاء جمركي إضافي بفتح السوق الأوروبية أمام السلع الجزائرية.
وكذا اشتراط نقل حقيقي للتكنولوجيا ودعم مراكز البحث وتعزيز التعاون الجامعي مع إبرام اتفاقيات توظيف وتدريب، وتأمين أدوات الحماية التجارية كالرسوم الوقائية وفرض قواعد منشأ صارمة لتفادي التحايل على الاتفاق من دول وسيطة.
وكذا تفعيل البعد الثقافي واللغوي في الشراكة من خلال الترويج للثقافة الجزائرية في أوروبا. كما شدّد عبيدات على ضرورة إدماج ملف الغاز في اتفاق الشراكة بملحق خاص يربط الإمدادات الطاقوية بمشاريع صناعية واستثمارات ملموسة، فقد حان الوقت، يقول عبيدات، لتحويل الغاز من مجرد سلعة إلى أداة تفاوض يعيد التوازن للاختلالات المسجلة ويخدم التنمية الوطنية فالجزائر ثاني مورد للغاز إلى أوروبا حاليا بعد النرويج وهي شريك موثوق وذو مصداقية، ولم تلجأ يوما لورقة الغاز للضغط السياسي أو الابتزاز وتحترم دوما التزاماتها التعاقدية، مما يمنحها حق الحصول على معاملة شريك إستراتيجيي.
وفي الأخير، أكد عبيدات بأن الجزائر اليوم ليست مطالبة فقط بتعديل اتفاق الشراكة بل بتأسيس نموذج شراكة قائم على الإنتاج بدل الاستهلاك والتكامل بدل التبعية لضمان السيادة والتفاوض من منطلق قوة.