الإيمـان بالجزائر الجديدة ينبثق مـن الإيمـان بانتصـار ثورة التحرير المباركـة

20 أوت.. تتجدّد الذكرى وتتواصل الرسالة

محمد لعرابي

الجزائر الجديدة ثمرة التضحيات الجسام.. عهد محفوظ ووديعة مصونة

مبادئ ثورة التحرير الوطني.. خارطة طريق إلى الريادة وعنوان السيادة

في كل عام، ومع حلول العشرين من أوت، يقف الجزائريون أمام واحدة من أهم المحطات التاريخية في مسار كفاحهم الطويل ضد الاستعمار الفرنسي. يومان خالدان في سجل الذاكرة الوطنية: هجومات الشمال القسنطيني في 20 أوت 1955، ومؤتمر الصومام في 20 أوت 1956. يومان لم يكونا مجرد وقائع عسكرية أو سياسية، بل لحظتين فاصلتين صنعتا معنى الثورة الجزائرية ومكانتها، وأثبتتا أن إرادة الحرية لا تقهر، وأن الشعوب التي تكتب تاريخها بالدماء لا تعرف الهزيمة.

إن الحديث عن هذه ذكرى 20 أوت المزدوجة، لا ينفصل عن حاضر الجزائر اليوم، حيث يحرص رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، في خطبه ورسائله، على استحضار هذه القيم وربطها بمسار بناء الجزائر الجديدة. ولقد أكد غير مرة، أننا «نعيش ونحيا في الجزائر السيدة بالوفاء للدماء السخية التي تدعونا للحفاظ على الجزائر الغالية، دولة وطنية مصانة، مهابة، قوية بمؤسساتها الدستورية وبوحدة شعبها ووعي وطموح شبابها»... كلمات الرئيس تبون تختصر العلاقة العميقة بين الأمس واليوم.. بين الشهداء الذين منحوا الوطن استقلاله والأجيال الجديدة التي تتحمل أمانة حماية الوطن وتنميته

.
20 أوت.. ميلاد ثان للثورة

في الأشهر الأولى من اندلاع ثورة أول نوفمبر 1954، كان الاستعمار الفرنسي يتباهى بأنه سيخمد ما وصفه بـ(التمرد) في مهده.. ركّز قواته على الأوراس، وحاصر الثورة في نطاق ضيق حتى اعتقد بعض القادة الفرنسيين أن أيامها باتت معدودة، غير أن يوم 20 أوت 1955 قلب الحسابات رأساً على عقب، فقد أشرف الشهيد زيغود يوسف على تنظيم هجومات واسعة بالشمال القسنطيني، كانت رسالتها واضحة: الثورة ليست مجرد مغامرة نخبة مسلحة، بل هي انتفاضة شعب بأكمله.. لقد هزت العملية وجدان الجزائريين، ورفعت المعنويات، وأكدت أن الثورة حققت ذاتها على المستوى الوطني، وفرضت خطابها على المستوى الدولي، بعدما جذبت أنظار العالم وأثارت نقاشات حتى في الأمم المتحدة. ولعل مقولة الرئيس تبون أقوم تعبيرا عن الفكرة، فهو القائل، إن «الإيمان بالنصر الذي ملأ جوانح الشهيد الرمز زيغود يوسف ورفاقه، هو نفس الإيمان الذي نستمد منه العزيمة في بناء الجزائر الجديدة».. وهنا يرتبط تاريخ الجزائريين المجيد، بحاضرهم المشرق، إذ يوضح أن البطولات التي سطّرها أبناء الجزائر عام 1955، ليست مجرد ذكرى، بل معين متجدد يلهم الحاضر ويمدّه بالقوة والإصرار.

من الفعل الثوري إلى التنظيم الوطني

بعد عام واحد، انعقد مؤتمر الصومام ليؤسس هياكل الثورة، ويمنحها رؤية سياسية وعسكرية متكاملة، وهذا مؤتمر جاء ليكون إعلانا جهوريا على أن الثورة الجزائرية دخلت مرحلة النضج، وأنها لم تعد مجرد عمليات عسكرية متفرقة، بل مشروعاً تحررياً ذا أبعاد سياسية، قادر على حشد الداخل وكسب تعاطف الخارج.
لقد كان القادة الذين اجتمعوا في الصومام واعين بأن معركة الاستقلال ليست فقط بالسلاح، بل بالشرعية السياسية والتنظيم الصارم، وهذا ما جعل الثورة الجزائرية نموذجاً يُحتذى به بين حركات التحرر في العالم. واليوم، حين يتحدث الرئيس تبون عن «كسب معركة التجديد» و»رص الصفوف وتوحيد الجبهة الداخلية»، فإن كلماته تعكس صدى تلك اللحظة التاريخية، فكما وحّد مؤتمر الصومام الصفوف من أجل دحر الاستعمار، عملت الجزائر الجديدة على توحيد أبنائها من أجل مواجهة تحديات التنمية والبناء الاقتصادي وترسيخ السيادة في عالم بلغ به التعقيد درجة لا تطاق من «السقوط الديبلوماسي» و»السذاجة» التي تهيمن على بعض الذين يعتقدون أنهم بلغوا مرتبة «الغرماء»، فصدّقوا أنهم يمكن أن ينالوا من الجزائر بمجرد تجييش مهربي المخدرات لاختراق حدودنا، وإطلاق العنان لوزير داخلية معتوه، كي يشتغل بملفات الخارجية، في مشهد كاريكاتوري لم يسبق أن رأى العالم له مثيلا.

الجزائر الجديدة.. استمرارية الأمجاد

ما يميز خطابات الرئيس تبون، أنه لا يتعامل مع المناسبات التاريخية كمجرد طقوس للذكرى، بل كمنطلق لاستلهام الدروس. ففي رسالته عام 2023، قال: «من ذلك الإيمان، نستلهم، في هذه المرحلة التي نتوجه فيها جميعا إلى بناء الجزائر الجديدة، الثقة في مقدرات الأمة لنحقق بتضافر الجهود وإخلاص العمل خطوات تتحقق بها الإنجازات». إنه تأكيد صريح أن روح نوفمبر، وملحمة 20 أوت، ليستا ماضياً جميلاً فحسب، بل هما مصدر قوة للجزائريين اليوم. فالمعركة التي خاضها الآباء ضد الاستعمار، تتواصل اليوم ضد التخلف والتبعية والفساد. المعركة واحدة، وإن اختلفت ساحاتها.
وإذا كان شهداء 20 أوت قد سقطوا في مواجهة المستعمر، فإن أبطال اليوم يسهرون على حماية الجزائر من كل محاولات التدخل الخارجي، ويجاهدون لبناء اقتصاد قوي ودولة اجتماعية عادلة، وكما قال الرئيس تبون: «إن الجزائريات والجزائريين الذين تسري في عروقهم دماء الوفاء لرسالة نوفمبر الخالدة، يحملون الجزائر الغالية على أكتافهم، وعيونهم ساهرة على أمنها واستقرارها ورخائها».

جسور الماضي والحاضر

من يقرأ مسار الجزائر منذ الثورة التحريرية المباركة، يدرك أن ثمة خيطاً ناظماً يربط بين الأجيال: الإيمان بالحرية، والاستعداد للتضحية، والتمسك بالوحدة الوطنية. هذه القيم لم تذبل رغم كل التحديات. بل يمكن القول إن كل جيل يجد نفسه مضطراً لإعادة إنتاجها في سياق جديد. في خمسينيات القرن الماضي، كان التحدي هو الاستعمار الفرنسي بكل جبروته. أما اليوم، فالتحدي هو بناء دولة قوية، مهابة، قادرة على مواجهة تقلبات الاقتصاد العالمي وحروب النفوذ، لكن القاسم المشترك واحد: الجزائر لا تُكسر، لأنها متشبعة بروح ثورية لا تموت.وهنا تكمن قيمة 20 أوت في الذاكرة الوطنية.. إنه ليس مجرد يوم في التاريخ، بل رمز لعبقرية شعب يعرف كيف يحول المحنة إلى منحة، والمصاعب إلى انتصارات مؤزرة.

الوفاء للشهداء.. سلوك في الواقع المعيش

كثيرون يعتقدون أن الوفاء للشهداء يتمثل في وضع أكاليل الزهور على النصب التذكارية، أو في ترديد الشعارات في المناسبات الرسمية، غير أن المعنى الأعمق للوفاء -كما يوضحه الرئيس تبون- هو في صون وحدة الشعب، وفي بناء مؤسسات قوية، وفي حماية سيادة الجزائر، ولقد قالها بوضوح: «إننا نستشرف بيقين المؤمنين برسالة الشهداء مزيداً من الارتقاء ببلادنا، وإسماع صوتها، وتثبيت مكانتها، لتواصل الاضطلاع الكامل بدورها المحوري في المنطقة والعالم»، فالجزائر اليوم ترفع راية الاستقلال والسيادة كما رفعتها بالأمس، وإذا كان العالم قد عرفها رمزا للتحرر في القرن العشرين، فإنه يعرفها اليوم دولة مركزية في محيطها الإقليمي، تسعى إلى لعب دور فاعل في القضايا الدولية، مستندة إلى رصيد تاريخي لا يضاهيه رصيد.

يوم المجاهد.. يوم الجزائر المنتصرة

الذكرى المزدوجة لـ20 أوت ليست مجرد استرجاع لماضٍ مجيد، بل هي تجديد للعهد مع الشهداء بأن الجزائر ستبقى وفية لرسالتهم. لقد كانت هجومات الشمال القسنطيني ومؤتمر الصومام محطتين صنعتا قدر الجزائر، وأثبتتا أن هذا الشعب لا يرضى إلا بالحرية والسيادة. واليوم، تحت راية الجزائر الجديدة، تتواصل المسيرة بنفس الإصرار والعزيمة، حيث تتحول البطولات من مواجهة الاستعمار إلى معارك التنمية والوحدة الوطنية.
وإذا كان زيغود يوسف ورفاقه قد كتبوا بالدماء ملحمة 20 أوت، فإن الجزائريين اليوم يواصلون الكتابة بعرقهم وعملهم وإصرارهم على جعل الجزائر دولة قوية، مهابة وسيدة بقرارها. والجزائريون جميعا يرددون مع الرئيس تبون: «تحيا الجزائر، المجد والخلود لشهدائنا الأبرار».

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19853

العدد 19853

الثلاثاء 19 أوث 2025
العدد 19852

العدد 19852

الإثنين 18 أوث 2025
العدد 19851

العدد 19851

الأحد 17 أوث 2025
العدد 19850

العدد 19850

السبت 16 أوث 2025