حرب اللّـقاحات التّـجارية

أرباح طائلة للشركات وشعوب بدون لقاح

محمد فرقاني

  تعيش دول العالم معركة جديدة في التصدي لفيروس كورونا، الذي يواصل التمدّد والانتشار، بأنواع وأساليب جديدة أكثر فتكا وتفشيا، ووسط هذه المعركة الصحية الطّاحنة ترتفع الأصوات عاليا لتوزيع أكبر قدر ممكن من اللقاحات التي من شأنها توفير مناعة عالية أمام تحوّرات كورونا التي أضحت اليوم كابوس الإنسانية الأول، والخطر الداهم الأهم عالميا، في ظلّ تنافس محتدم للمخابر العالمية على البعد العلاجي والتجاري، وتصاعد الجدل حول وفرة اللقاح والتغطية الكافية العادلة للطلب العالمي المتنامي في ظلّ استمرار الجائحة وتطورها وتعقد حلولها.

يرى متابعون ضرورة توفير اللقاح بشكل إنساني عادل، بعيدا عن الحسابات التجارية والسياسية، ووفق رؤية إنسانية تراعي ظروف الدول الفقيرة، وتضع الضّرورات الإنسانية فوق كل اعتبار، كما يذهب آخرون لضرورة تبني المجتمع الدولي لإستراتيجية قائمة على استشراف المخاطر، وتجربة الحلول العلاجية والطبية المختلفة للتصدي لفيروس كوفيد-19، عبر توزيع اللقاحات بشكل كاف، وتوفير الاختبارات بشكل موسّع ودوري.
يرى الصحفي اللبناني، المتخصّص في العلاقات الدولية، عماد الشدياق، في حديث مع «الشعب الاقتصادي»، أنّه من الطبيعي أن تستحوذ الدول الغنية على اللقاحات في العالم لعدّة أسباب، يعود الرئيسي منها لكونها السبّاقة إلى اكتشاف انتشار الوباء، وهو ما منحها الأسبقية في دراسة جينات الفيروس وطرق تطوّره، كما عملت هذه الدول على دعم مراكز البحث الخاصة بها للوصول إلى إنتاج اللقاحات، من خلال الدعم المالي، ورأس المال البشري، وهذا بخلاف الدول النامية التي لعبت دور المتفرّج حيال مراحل اختراع اللقاح.
وأضاف محدّثنا أنّ التلقيح الكثيف في الدول الغنية لشعوبها أمر منتظر، خصوصا وأنّ بعض الدول الفقيرة كانت آخر الدول التي وصلها الوباء، بعد أن فتك بأوروبا والولايات المتحدة، لذا فالطلب على اللقاحات من طرف الدول النامية كان متأخّرا بعض الشيء، وهذا ما عزّز مستوى التلقيح العالي في الدول الغربية.
وفيما يخصّ الأصوات التي تنادي بمنع احتكار هذا اللّقاح، يوضّح «شدياق» أنّ منظمة الصحة العالمية هي الجهة الأكفأ، أو الأكثر قدرة على كسر الاحتكار إن وجد، لأنّها ستكون من خلال مؤسّسات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية قادرة على الموازنة بين الأمرين.

الصين وروسيا في قلب أسواق الدّول النّـامية

  يؤكّد الشدياق، أنّ الامتداد الروسي والصيني في الدول النامية بشكل عام، لا يدعو لأيّة مخاوف بالنسبة للدول الغربية، فالأمر يؤخذ من المنطلق الإنساني وليس التجاري التنافسي على سوق ما، كما أنّ اللقاح الروسي والصيني هما الأقل تكلفة بالنسبة للدول الراغبة في اقتنائه، مقارنة باللقاحات الأمريكية والأوروبية.
يضاف إلى هذا، أنّ أوروبا والولايات المتحدة تستهلك جزءًا كبيراً ممّا تنتجه من لقاحات في حملات تلقيح شعوبها، بينما الأمر مختلف في روسيا والصين، فالمخابر الصينية كانت السبّاقة إلى إطلاق هذا اللقاح بكميات كبيرة، وقد ساعدت أكثر من دولة نامية في الحصول على كميات محدودة منه، وحتى روسيا قدّمت لقاح سبوتنيك «v « للعديد من الدول من بينها لبنان والجزائر، كما ساعدت مختبرات بعض الدول الأوروبية والدول النامية في تصنيع اللقاح الروسي.
وأشار محدّثنا إلى أنّ فئة كبيرة من الشعب الروسي لا تزال رافضة للقاح، وهذا ما ساعد السلطات الروسية في تأمين كميات أكبر من اللقاح الموجّه للتصدير.

كسر الاحتكار

دعّمت الولايات المتحدة الأمريكية مقترحات قدّمتها جنوب إفريقيا والهند في منظمة التجارة العالمية، تهدف إلى تقويض احتكار إنتاج اللقاح مؤقتًا ورفع براءات الاختراع الخاصة بلقاحات كورونا، حيث تحظى هذه الخطوة بدعم أكثر من 100 دولة ورئيس دولة والكثير من الشخصيات الحائزة على جائزة نوبل.
من جهة أخرى، رفضت الدول الغنية، كالمملكة المتحدة وألمانيا الاقتراح، بحجة تغليب مصلحة شركات الأدوية وتشجيعها للإنتاج والبحث مستقبلا، فيما وقفت إيطاليا التي استضافت قمة الصحة العالمية لمجموعة العشرين على الحياد بشأن هذه القضية، وكذلك كندا وفرنسا.
وأوضح عماد الشدياق، أنّ التخلي عن براءة الاختراع سلاح ذو حدّين، فالتخلي عن حقوق الملكية الفكرية سينعكس سلباً على مراكز البحث العلمي ومصانع اللقاح، كما أنّ السّماح للدول النامية بالدخول على خط التصنيع دون حماية الملكية الفكرية أو المصانع الأم، سيكبح جهود المستثمرين ويشجّع على عدم الاستثمار مستقبلاً في البحث العلمي والاستكشافات في عالم الأدوية واللقاحات. فسياسة الأمر الواقع، تشير إلى أنّ الدول الغنية التي تصرف الأموال على مراكز الأبحاث للوصول للقاحات وأدوية الأمراض المستعصية والأمراض الجديدة، فبطبيعة الحال إن لم يكن هناك حافز الربح من أجل الاستمرار في الاستثمار في الدواء، فستفتك الأمراض والفيروسات التاجية بالعديد من الشّعوب، وبالتالي، فمساعدة الدول النامية والفقيرة يكون من خلال مدّها باللقاحات، وليس السّماح لها بكسر الملكية الفكرية بحجة انتشار الوباء.
ويرى في ذات السياق، بأنّ هناك بعض الدول النامية القادرة على الاستثمار في مجال صناعة اللقاح، فوسائل الإعلام الإيرانية روّجت لإمكانية صنع بلدها للقاح، لكن لا أحد يعلم مدى فعاليته أو أي تفاصيل حوله، وأضاف محدّثنا أن بعض الدول العربية تنتج اللقاح بالشراكة مع الدول المصنّعة، كالإمارات العربية المتحدة التي تنتج لقاح «سينوفارم» بالشّراكة مع الصين.
وأكّد الشدياق أنّه حتى في لبنان يوجد مختبر سيشرع في إنتاج اللقاح الروسي، كما هو الحال بالجزائر التي أعلنت في أكثر من مناسبة عن قرب إنتاجها للقاح الروسي سبوتنيك «v» بالتعاون مع روسيا منتصف سبتمبر الداخل، وهذا ما قد يوازن الخلل في كمية اللقاح التي تمتلكها الدول.    

أرباح طائلة وشعوب بدون لقاح

برز خلال جائحة كوفيد-19، تنظيم عالمي يدعى تحالف لقاح الشعب،
«People Vaccine Alliance»، وهو حركة من المنظّمات الصحية والإنسانية وحقوق الإنسان، وخبراء الصحة والزعماء الاقتصاديين، تدعو إلى تصنيع اللقاح بسرعة وعلى نطاق واسع، وأكّد هذا التحالف حسب دراسة أنجزها، أن تسعة أشخاص على الأقل أصبحوا مليارديرات جدد منذ بداية وباء كورونا، وذلك بفضل الأرباح المفرطة التي حقّقتها شركات الأدوية التي تنتج اللقاح.
ويمتلك المليارديرات التسعة الجدد ثروة صافية مجمّعة تبلغ 19.3 مليار دولار، وهو ما يكفي لتطعيم جميع المواطنين في البلدان ضعيفة الدخل بمعدل 1.3 مرة، في حين أنّ هذه البلدان التي هي موطن لـ 10 في المائة من سكان العالم لم تتلق سوى 0.2 في المائة من الإمدادات العالمية من اللقاحات.
وذكرت إحصائيات للمنظمة، أنّ ثمانية من المليارديرات الحاليّين الذين لديهم أسهم واسعة النطاق في شركات الأدوية الصيدلانية للقاحات كورونا، شهدت ثروتهم زيادة مجمّعة بمقدار 32.2 مليار دولار، وهو ما يكفي لتطعيم كل فرد في الهند بشكل كامل.
وقام نشطاء من تحالف لقاحات الشعب، بتحليل بيانات موقع
«Forbes Rich List» لتسليط الضوء على الثروة الهائلة التي يتم جنيها من اللقاحات المموّلة بشكل كبير من القطاع العام.
وأكّد التحالف أنّ ظهور مليارديرات اللقاحات، يتم مع ارتفاع الأسهم في شركات الأدوية بسرعة، متوقعًا تحقيق أرباح ضخمة من لقاح كورونا، وحذّر التّحالف من أن هذا الاحتكار يسمح للشركات الصيدلانية بالسيطرة الكاملة على المعروض من اللقاحات وأسعارها، ممّا يؤدّي إلى ارتفاع أرباحها في المقابل سيصعب على الدول الفقيرة، على وجه الخصوص، تأمين المخزونات التي تحتاجها.
وتشير إحصائيات سابقة إلى أنّ إفريقيا طلبت نحو 900 مليون جرعة، كما تتوقّع مؤسسة الحماية من الأوبئة الإفريقية أن تحتاج القارة إلى 1,5 مليار جرعة على الأقل لتطعيم 60 في المائة من مجموع السكان، وتأمين اللّقاح وإقامة أنظمة توزيع قد يكلّف حتى 10 مليارات دولار.
من هم المليارديرات التّـسعة الجدد بفضل اللّـقاح؟

يتصدّر قائمة المليارديرات الجدد الذين استفادوا من نجاح لقاحات كوفيد-19 الرؤساء التنفيذيون لشركة موديرنا»Moderna»، وبيونتك
«BioNTech»، ولكل منهما ثروة تزيد عن 4 مليارات دولار أو أكثر.
وتضم القائمة أيضًا اثنين من المستثمرين المؤسّسين لموديرنا ورئيس الشركة، بالإضافة إلى الرّئيس التنفيذي لشركة لديها صفقة لتصنيع وتعبئة لقاح موديرنا، كما أنّ آخر ثلاثة مليارديرات اللقاحات الجديدة هم جميعًا مؤسسون مشاركون لشركة اللقاحات الصينية.
ويتصدّر قائمة المليارديرات الجدد «ستيفان بانسل»، الرئيس التنفيذي لشركة موديرنا، 4.3 مليار دولار، يليه «أوجور شاهين» الرئيس التنفيذي والمؤسّس المشارك لشركة «BioNTech» بـ4  مليارات دولار، بالإضافة لـ «تيموثي سبرينغر»، عالم المناعة والمستثمر المؤسّس لشركة موديرنا بـ 2.2 مليار دولار، يليه «نوبار أفيان»، رئيس مجلس إدارة شركة موديرنا بقيمة 1.9 مليار دولار.
ويأتي في قائمة مليارديرات اللقاح، «خوان لوبيز بيلمونتي» رئيس «ROVI»، وهي شركة أبرمت صفقة لتصنيع وتعبئة لقاح موديرنا بقيمة 1.8 مليار دولار، و»روبرت لانجر» عالم ومستثمر مؤسّس في شركة موديرنا بثروة 1.6 مليار دولار،  و»زهو تاو» المؤسّس المشارك وكبير المسؤولين العلميين في«CanSinoBiologics» بثروة 1.3 مليار دولار، يليه «كيو دونقسو» المؤسس المشارك ونائب الرئيس الأول في  «CanSinoBiologics» بثروة1.2  دولار، ويأتي بعده «ماو هوي هوا» مؤسس مشارك ونائب رئيس أول في
«CanSinoBiologics» بـ1  مليار دولار.

بوادر الاحتكار وحرب اللّـقاحات تصدّرت الواجهة

  احتدم الصّراع من أجل الحصول على الرّصاصة السّحرية التي تقضي على وباء كورونا، فكان عامل الزمن أول تحدّي ينتظر المختبرات العلمية، التي لم تستغرق سوى 333 يوم، ما بين نشر التسلسل الجيني وتلقّي المرأة البريطانية، «مارغريت كينان»، في 8 ديسمبر 2020 في مستشفى في «كوفنتري» أوّل لقاح منظّم تمت الموافقة عليه للتوزيع، بمجرّد نشر نتائج التجارب السريرية، «للقاحين فايزر وسبوتنيك - «Vaccin Pfizer and Sputnik» .
ونجح السّباق العلمي غير المسبوق في توفير لقاح في وقت قياسي، بعد أن كان تأمين اللقاح هدف جميع القوى العالمية العظمى كالصين وروسيا والهند والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فتنافست الدول في الحصول على اللقاح أولاً، واكتساب ميزة إستراتيجية فيما يتعلق بالعلاقات الدولية على نطاق عالمي ثانيا.
مع بداية السنة الحالية، كان هناك أكثر من 80 لقاحًا يخضع لتجارب بشرية، 20 منها في مراحلها النهائية، وسبعة منها حتى الآن تمّت الموافقة عليها للاستخدام المحدود، وثلاثة لقاحات تمّت الموافقة عليها للتوزيع والاستخدام غير المحدود.
وتفيد تقارير إعلامية، أنّ السّباق لن ينتهي بالحصول على لقاح فعّال وحسب، إذ يجب إنتاجه على نطاق واسع، وهو الأمر الذي يتطلّب تصنيع حجم غير عادي من اللقاحات، فجميع اللقاحات حتى الآن تتطلّب جرعتين (باستثناء لقاح جونسون أند جونسون الأمريكي الذي يتطلّب جرعة واحدة)، وبعملية حسابية بسيطة ستكون هناك حاجة إلى 15 مليار جرعة لتحصين جميع سكان العالم، وهو الرقم الذي يعتبر مستحيلا توفيره في أقل من أربع سنوات، حسب تصريحات مسؤولي أكبر مصنع في العالم للقاح «المعهد الهندي للأمصال».
واضطرّت الولايات المتحدة إلى استثمار حوالي 18 مليار دولار في عملية
«Warp Speed»، بينما كان على الاتحاد الأوروبي إنشاء صندوق طوارئ أولي بقيمة 2.7 مليار يورو للتعامل مع التزاماته الأولية، وقد تمّ مضاعفة هذا المبلغ بمقدار أربع مرات، بعد أن بدت الجرعات أكثر فاعلية، ضف إلى ذلك ارتفاع أسعار اللقاحات الأولى التي تمّت الموافقة عليها من قبل شركتي
«Pfizer» و «Maderna».
وكشف أحد أعضاء الحكومة البلجيكية، أنّ فاتورة تطعيم 40 مليون نسمة في إسبانيا بلقاح فايزر ستتجاوز مليار يورو، في حين أنّ لقاح أسترازينيكا يمكن أن يحصّن نفس عدد الأشخاص مقابل 140 مليون يورو فقط.
وتعكس هذه الإحصائيات سالفة الذكر حجم التضارب القائم، والمرتقب استمراره بين الدول المصنّعة للقاح، من أجل تحقيق هامش ربح كبير واستغلال الحاجة للقاح غير القابلة للتفاوض.
وطغى طابع السرية على المفاوضات في عملية بيع اللقاح، وهو ما مكّن الشّركات المصنّعة من تحديد أسعار مختلفة حسب الدول الزبائن، وبالتالي الحصول على هامش ربح أكبر للمنتج حسب كل عملية تفاوض.
من جهة أخرى، تمكّنت الصين من احتلال سوق كانت بعيدة المنال في وقت سابق، فكانت الجزائر بوّابة المارد الآسيوي لولوج السوق الإفريقية الطبية، ومن جانبها تمكّنت روسيا من إيصال الملايين من جرعات لقاح سبوتنيك V، لجيرانها ولعدد كبير من دول أمريكا اللاتينية، بدءًا من البرازيل والأرجنتين.
ويتجلّى أمام الجميع أنّ الإلحاح على طلب اللقاح، أدّى إلى بروز سباق تجاري حرّك البلدان النامية لمراجعة سياساتها الدولية، ويرى مختصّون أنّ الفيروس إذا أصبح موسميًا (وهو أمر لم ينفه أو يؤكّده العلماء بعد)، فسنكون في بداية طريق يؤدي إلى علاقات استراتيجية جديدة بين الدول، قائمة على الصحة العالمية كبعد جديد لتحديد الأمن العالمي.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024