عالم الشّغـل بأعين الخـبراء

عـدم تجـانس المنظومـة القانونيـة

رفيق عبود

 دور مفتشيـة العمـل اقتصـر علـى النصـح وليس الرّقابـة

بالرّغم من التّرسانة القانونية التي وضعها المشرّع الجزائري واللّوائح التّنظيميّة التي صادقت عليها الجزائر في سوق الشّغل، لا يزال عالم الشغل يواجه صعوبات بسبب خروقات من قبل بعض المؤسّسات، فمواضيع النّزاعات الشّخصية في ميدان العمل، في العلاقة المهنية بين العامل وصاحب العمل، وموضوع الأجور وما يرافقها، من النّظافة والأمن في مكان العمل، عادة ما تتطلّب تدخّل مفتشية العمل من أجل تسوية النّزاعات وإيجاد الحلول.
تسوية هذه النّزاعات هو الدّور المنوط بمفتّشية العمل، وهي هيئة تحت وصاية وزارة العمل والتّشغيل والضمان الاجتماعي مكلّفة حسب المرسوم التنفيذي 05-05 المؤرّخ في 6 جانفي 2005 بمراقبة واحترام تطبيق الأحكام التّشريعية والتّنظيمية، لاسيما المتعلّقة بالصّحة والأمن داخل المؤسّسة. من صلاحيات مفتّشية العمل إمكانية القيام بالزّيارات والدّخول إلى أماكن العمل في أي وقت، من أجل مراقبة تطبيق الأحكام المتعلّقة بالصّحة والسّلامة المهنيتين من الأخطار المهنية التي قد تصيب العمال في أماكن العمل، كما يمكن لها القيام بالفحص والتّحرّي من خلال الاطّلاع على السّجلات المتعلّقة بالوقاية الصحية والأمن وطب العمل، وسجل حوادث العمل، وفي حالة ملاحظة مفتّش العمل لأي تقصير أو خرق للقانون، يوجّه إعذارا للمستخدم أو يحرّر محضر مخالفة.
نزاعات العمل... أرقام كبيرة
حول تسويةً النّزاعات بين العامل وصاحب العمل، استقبلت المفتّشية العامّة للعمل 54793 شريك اجتماعي خلال سنة 2020، موزّعين ما بين مستخدمين وممثّلين للعمّال لحلّ نزعات العمل عن طريق الحوار أو عبر الآليات التي أقرّها القانون.
أرقام كبيرة سجّلتها المفتّشية العامّة للعمل العام الماضي، رافقت من خلالها الأطراف الاجتماعية في العمل، سواء تعلّق الأمر بالمستخدم أو ممثّلي العمال الذين استقبلتهم مصالحها، موزّعين على النحو التالي ما بين 33337 عامل، 7162 ممثّل للعمال، و14294 مُوظّف (مؤسّسة أو ربّ عمل).
زيادة على هذا، استقبلت المفتّشية العامّة للعمل خلال الثلاثي الأول من سنة 2021، 57446 عامل اجتماعي موزّعين ما بين 34986 عامل، 5142 ممثّل للعمال و17318 موظّف.
أمّا بخصوص النّزاعات، فقد تمّ تمعالجة 133006 نزاع شخصي في العمل سنة 2020 على مستوى مكاتب المصالحة، حيث تمّ تحرير 977 محضر مصالحة، و129292 محضر عدم تصالح، وكذا 2737 نزاع تمّ شطبه لغياب المدعي في جلسات المصالحة.
رصيد في الصّـحة والسّلامة
تعتبر الوقاية والسّلامة في العمل، مصدر انشغال كبير للسّلطات العمومية والشّركاء الاقتصاديّين والاجتماعيّين، فهي تسعى إلى توفير أفضل ظروف العمل، منذ أن صادقت الجزائر بصفتها ممثّلة في منظمة العمل الدولية بعد الاستقلال في عام 1962، على العديد من الاتّفاقيات، منها مثلا:
- الاتّفاقية رقم 18 حول الأمراض المهنية 1925.
- الاتّفاقية رقم 42 مراجعة حول الأمراض المهنية 1934.
- الاتّفاقية رقم 155 حول السّلامة والصّحة المهنيتين 1981.
- الاتّفاقية رقم 167 حول السّلامة والصّحة في البناء 1988.
وقد أبانت السّلطات العمومية عن حرصها على ترقية السياسة الوطنية للوقاية من الأخطار المهنية، باعتمادها آليات قانونية ومعيارية من خلال إصدار العديد من النصوص ذات الطّابع التشريعي والتنظيمي، والمتعلقة بالوقاية من الأخطار المهنية، ومنها القانون رقم 88-07 المؤرّخ في 26 جانفي 1988، والمتعلق بالوقاية الصحية والأمن وطب العمل، والذي يعدُّ القاعدة الأساسية التي تحكُمُ هذا المجال.
وتنص هذه المنظومة التّشريعية والتّنظيمية أيضا على التغطية الإجتماعية لجميع المخاطر المعترف بها على الصّعيد العالمي، ولاسيما حوادث العمل والأمراض المهنية.
وعليه، يشكّل القانون رقم 83-13 المؤرّخ في 02 جويلية 1983، المعدّل والمتمّم، والمتعلّق بحوادث العمل والأمراض المهنية أرضية ترتكز عليها الحماية الاجتماعية لفائدة ضحايا حوادث العمل والأمراض المهنية، حيث تحكُمُ التكفُّل بالمؤمّنين اجتماعيا وذوي حقوقهم.
ولتجسيد السياسة الوطنية للوقاية على أرض الواقع، تحوز الجزائر على تنظيم مؤسساتي انتهجت سياسته مختلف الهيئات التابعة لوصاية وزارة العمل والتشغيل والضمان الاجتماعي، ونخص بالذكر: المعهد الوطني للوقاية من الأخطار المهنية، الذي يُبرهن إنشاؤه على عزم السّلطات العمومية على تعزيز جانب الوقاية عن طريق الخبرات في مجال تكوين الموارد البشرية المتخصّصة وتحسيسها، وإنجاز تحقيقات ودراسات.
وهناك أيضا، هيئة الوقاية من الأخطار المهنية في نشاطات البناء والأشغال العمومية والري المُنشأة بموجب المرسوم التنفيذي رقم 06-223 المؤرّخ في 21 جوان 2006، وهي هيئة متخصّصة في الوقاية الصحية والأمن في مجالات البناء والأشغال العمومية والري، والتي تساهم من خلال ملاحظاتها وآرائها وتوصياتها في تحسين ظروف العمل والوقاية من حوادث العمل في هذا القطاع الهام.
وعلاوة على ذلك، يُساهم الصّندوق الوطني للتّأمينات الاجتماعية للعمال الأجراء من خلال مديرية الوقاية من الأخطار المهنية، في ترقية الوقاية من حوادث العمل والأمراض المهنية عن طريق نشاطات تُنجز مباشرة من قبل هياكلها.
ومن جهة أخرى، تسهر مفتّشية العمل على مراقبة تطبيق التشريع في مجال الوقاية الصحية والأمن وطب العمل، طبقا لصلاحياتها.
على صعيد آخر، فإنّ قطاع الصحة العمومية يساهم في تطبيق السياسة الصحية للمؤسسة من خلال نشاط طب العمل، الذي يسهر في إطار مهامه على الحفاظ على صحة العمال.
غياب تقارير دقيقة
يرى الخبير الاقتصادي محفوظ كاوبي في تصريح لـ «الشعب الاقتصادي»، أنّ الاقتصاد الجزائري مرتبط بتاريخه، لأنّ القطاع العمومي يشكّل الأصل والقطاع الخاص يشكّل الاستثناء، وأنّ تشريع العمل في الجزائر مرتبط بمنظومة اقتصادية اشتراكية، تعطي الأولوية الكبيرة للعمال باعتبار أنّ العامل هو الحلقة الضّعيفة في علاقة العمل ويجب حمايته، حيث كرّست المنظومة القانونية في الجزائر هذا المنطق، حسب كوبي.
وبعد تحرير الاقتصاد سنة 1988، وأصبح القطاع الخاص يحوز على أكبر قسط من سوق الشغل، تغيّرت طبيعة العلاقة بين العامل وصاحب العمل، وظهرت معها تقاليد جديدة، بعيدة عن» احترام» المنظومة القانونية في الكثير من الأحيان، من خلال عدم التصريح بالعامل لدى مصالح الضمان الاجتماعي. ‘’معظم مؤسّسات القطاع الخاص لا تحترم القوانين، فأكثر من 65 بالمائة منها لا يمتثل للمنظومة القانونية لأنّ أرباب المال يرون أنّها غير متكافئة’’، يقول الخبير كاوبي، وهي تؤدّي - حسبه - إلى اشتراكات كبيرة يدفعها أصحاب العمل في حالة تمّ تصريح كل العمال لدى مصالح الضمان الاجتماعي والتقيد بالمنظومة القانونية، فإنّ العديد من المؤسّسات والشّركات ستغلق أبوابها. وهنا يطرح محدّثنا التّساؤل التالي: «هل الخطأ في المنظومة القانونية وعدم توازنها مع الواقع العملي، أم سنذهب إلى حكم قيمي يقول بأنّ القطاع الخاص بعيد كل البعد عن احترام القانون؟».
واستدلّ الخبير الاقتصادي بالنّموذج الصّيني في الوقت الذي كانت أوروبا تعطي دروسا في التصريح ودفع الاشتراكات وحماية حقوق العمال في منتصف الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي، حيث كان رئيس الوزراء الصيني في ذلك الوقت يقول: «إذا خُيِّر العامل بين أن يعمل أو يكون بطّالا، فإنّ الصين تفضّل أن يكون العامل مستغلاًّ عوض أن يكون بطّالا»، مضيفا في ذات السياق أنّ الصين عملت بهذا المنطق لزيادة إنتاجها وتقوية اقتصادها، لتذهب بعد ذلك إلى منظومة اجتماعية أكثر عدالة.
من جهته، قال الخبير الاقتصادي محمد حميدوش، لمجلة «الشعب الاقتصادي»، إنّه في ظل غياب دراسات حقيقية وتقارير مفتشية العمل لا يمكن تعميم بعض الخروقات على أصحاب المؤسّسات الخاصة في تعاملها مع العمال من خلال هضم حقوقهم، داعيا في نفس الوقت إلى عدم المبالغة في الحكم على القطاع الخاص بسبب نفور طالبي الشّغل من الولوج إليه.
كما أكّد حميدوش أنّ من يؤمن باقتصاد السّوق فإنّه يعي قيمة اليد العاملة المؤهّلة، وهنا تدخل معادلة القوة العاملة وتوفّرها في سوق طلبات الشّغل، فإذا كانت القوى العاملة نادرة، فالكفّة تميل لصالحها في اشتراط ظروف العمل والرّاتب المحترم، ولكن إذا كان سوق الشّغل مشبّعا بالقوى العاملة المؤهّلة، فإنّ ميزان القوّة سيميل لصاحب العمل في فرض رواتب يمكن وصفها بالزهيدة بحكم وجود البديل في حال رفض طالبي الشغل الوظيفة.
فيما أعاب حميدوش غياب المرونة في سوق العمل، وهو ما يهدر الكثير من مناصب شغل، إذ يساهم التكوين بمستوييه العالي والمهني بصفة كبيرة في توفير يد العاملة المؤهّلة في العديد من الاختصاصات، والتي قد تتكيّف مع طلبات المؤسّسات الخاصة رغم افتقادها للتّجربة في الاختصاص المراد شغل منصب عمل فيه.
أولوية المنطق التّعاقدي
يؤكّد الخبير الاقتصادي محمد حميدوش، أنّه لا بد من تحديد المفاهيم قبل الحديث عن العمل في القطاع الخاص، الذي من المفروض أن يشكّل النّواة الكليّة للاقتصاد الحر في أي بلد، باعتبار أنّ القطاع العام يوجد في حالات استثنائية عند غياب القطاع الخاص بفعل حجم السّوق أو بفعل متطلّبات قطاع استراتيجي يستلزم استثمارات كبيرة كصناعة السّفن والطّائرات، وهي من بين الحالات التي نجد فيها مؤسّسات عمومية في اقتصاد حرّ ببعض الدول، لذا قد لا نجد مصطلح القطاع العام في دواليب الاقتصاد الحر.
وأضاف أنّ وجود القطاع العام في بعض الدول عادة ما يكون لدواعٍ سياسية، لكنه قد يضيّع فرصا كثيرة في تطوير القطاع الخاص بفعل ولوج السّوق بمعايير غير متكافئة، مثل سوق التّأمين الذي يضم ترسانة من الإجراءات المحفّزة للقطاع العام، الذي يسيطر على سوق التأمينات ويصعب ولوج القطاع الخاص إليه.
من جانبه، تأسّف الخبير الاقتصادي محفوظ كاويي لحال القطاع العمومي، الذي وصفه بأنّه قطاع غير مبني على الإنتاجية التنافسية، على عكس القطاع الخاص، لعدم احترام المنظومة القانونية الخاصة بسوق الشغل، يقول «كاوبي». وهنا تطرح مشكلة التنافسية والفعالية في العمل، لأنّ الاقتصاد العمومي بمؤسّساته يسير بمنطق الإدارات التي تضخ رواتبها من الخزينة العمومية، وتحترم فيها القانون تقريبا 100 بالمائة، على عكس القطاع الخاص، تكون مداخيل المؤسّسة من السّوق والتنافسية وبيع السلع والخدمات على أكبر قدر ممكن يكون فيها الراتب مقابل العمل.
ويؤكّد كاوبي أنّ حماية العامل أمر مهم جدا مع إعطاء حرية أكثر لصاحب العمل، وتمكينه من عقود أكثر مرونة مرتبطة بالسوق والتنافسية، أي بمنطق الاقتصاد الليبرالي وأضاف قائلا ‘’مشكلتنا في الجزائر تكمن في عدم تجانس المنظومة القانونية التي هي موروث لمنطق اقتصادي عمومي موجّه مع الواقع الجديد، الذي يضم قطاعا خاصا معروفا عليه القرصنة، حُتّمت عليه التّنافسية والعيش من مردودية عمله ليس كالقطاع العام’’.
وعلى هذا الأساس، يرى محفوظ كاوبي أنّه يجب على السّلطات العمومية أن تنظر إلى ضرورة تحرير الاقتصاد، وإعطاء الأولوية للمنطق التّعاقدي.
العقود في عالم الشّغل
أشار محمد حميدوش إلى أنّ الجزائر وبعد الاستقلال انتهجت النّظام الاشتراكي، وشرعت في إنشاء مؤسّسات عمومية، في حين ظهر القطاع الاقتصادي في حالات خاصة في السبعينات من القرن الماضي، ومن ثم ظهر بشكل واسع في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، لكن السياق التاريخي لعالم الشغل بالجزائر ساهم في تكوين ثقافة العمل لدى القطاع العام على حساب الخاص، نظرا لسياسة المؤسّسات العمومية التي ترتكز على نظرة إدارية أكثر ممّا هي نظرة فاعلية أو تبحث عن اقتصاد السوق، إضافة إلى العقود ذات الآجال غير المحدّدة، والتي يوفّرها القطاع العام بصفة أكبر من القطاع الخاص، إضافة إلى كون الأجور في كثير من الأحيان غير مرتبطة بالأداء أو الفعالية،حسبه، وكل هذه الأمور تشجّع على تفضيل القطاع العام على حساب الخاص.
ويرى الخبير الاقتصادي محفوظ كاوبي، أنّ دور مفتشية العمل اقتصر على النصح وليس الرّقابة، وإن تمّت فهي تكون عن طريق تغريم صاحب العمل، ولهذا فإنّ طبيعة العلاقة بين العامل وصاحب العمل في الجزائر هي علاقة في إطار التكوين، ولهذا يجب تبسيط الإجراءات والتقليل من نسبة الاشتراكات لأنّ نسبتها كبيرة إذا قارناها بما يتحصّل عليه العامل أو صاحب العمل، لأنّ منظومة الحماية الاجتماعية غير فعّالة إذا تمّت مقارنتها بنسبة الاشتراكات.
ويقول كاوبي إنّ الجزائر ستدخل مرحلة جديدة ستنقص فيها فرص العمل بسبب الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد مند سنوات، ولهذا ينبغي أن تكون الأفضلية لخلق فرص العمل وتبسيط أكثر للإجراءات، والعمل على المديين المتوسط والبعيد من أجل إحداث ثقافة اجتماعية لدى صاحب العمل أو العامل من أجل ترقية العلاقة بينهما.
(عن مجلة الشعب الاقتصادي)

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024