لمرافقة المؤسّـسات الصّـغيرة والمتوسّـطة

تسخير الجباية النّـفطية لتمويل الاستثمار المنتج

إيمان الطيب

يجمع الخبراء والعارفون بالإقتصاد على ضرورة تناغم الخطط الاقتصادية المستقبلية للحكومة الجزائرية
مع توجّه استغلال الجباية النّفطية في مشاريع استثمارية من شأنها خلق مناصب شغل وتقليص نسبة البطالة.

يصف المحلّل الاقتصادي، الأستاذ حشمان مولود، الاقتصاد الجزائري بوحيد القرن المبني على صرف عائدات الجباية النّفطية، والإيرادات البترولية فقط، ممّا لا يسمح بخلق مناصب شغل فعّالة، ويقول حشمان إنّه لتفادي بقاء الاقتصاد جامداً وغير منتج ومتهاو، وهو ما قد يقود لأزمة اقتصادية أخرى مركّبة وأكثر تعقيداً، هناك عدّة تحديات وجب مواجهتها على غرار أزمة البطالة النّاجمة عن ضعف الإنتاجية، والتي تمس فئة الشباب المتعلّمين والمرأة بالدرجة الأولى.
وحسب مولود حشمان، فإنّ العالم مهدّد بفقدان 500 مليون منصب شغل بفعل انعكاسات الثّورة الصّناعية الرّابعة، هذا ناهيك عن آثار أزمة كورونا وتوقّف النّشاط الاقتصادي وتزايد عجز المؤسّسات، وانكسار التّجارة الخارجية، كما أنّ كل هذه الظّروف أدّت لجمود سوق العمل وتنامي نسبة البطالة في الجزائر، في وقت ينتظر الجميع فتح أبواب الوظيف العمومي للتشغيل، مؤكّدا: «الحل ليس في الوظائف التي ينتجها الوظيف العمومي، وإنما تشجيع إنشاء مؤسّسات صغيرة ومتوسّطة في مجال الفلاحة، الصّناعة، النّقل والسياحة».
وذهب المتحدّث إلى أبعد من ذلك، مؤكّداً أنّ القطاع العام بعد خمس سنوات لن يصبح قبلة للتوظيف مثلما هو الحال عليه، اليوم، كما اعتبر أنّ المؤسّسات المملوكة للدولة لن تشغّل مستقبلاً المواطن مدى حياته، فقانون السّوق سيفصل في بقاء العامل في منصبه، حسب مردودية شغله وقدرته على الإنتاج، مضيفاً «إذا كنت تنتج ستقبض، وإذا لم تستطع الإنتاج سيتم تسريحك».
وبشأن الجباية البترولية، قال الدكتور حشمان في تصريح لـ «الشعب الاقتصادي»، إنّها لم تكن يوما حلاً للأزمات الاقتصادية، ولا لمشكلة البطالة في الجزائر، بحكم أنّ الأجور التي كانت تمنح للفئات المشغّلة من طرف الدولة دون الحاجة إليها، والتي تقبض من عائدات الجباية النّفطية منخفضة جدا»، داعيا إلى البحث عن طريقة ثانية لتسيير هذه الأموال، والتي تسجّل اليوم صرفا عشوائيا لها، وهو ما تسبّب في انتشار الفساد في الماضي بمؤسّسات الدولة، التي استضعفت وأصبحت مكسورة الأيدي، كما أنّ دخول مبالغ طائلة للخزينة من عائدات أو من ريع الجباية النّفطية دون إحكام تسيير إنفاقها، تسبّب في إضعاف المؤسّسات الرّقابية وخلق اللّوبيات المالية الكبيرة، التي ساهمت في تهديم هياكل الدولة والتدخل في البرلمان وأعجزت الميزانيات، حيث بات الريع يوجّه لقطاعات غير منتجة على غرار صفقات الزفت، وهو ما يصنّف كتضييع للأموال دون مقابل، بدل استحداث مشاريع استثمارية من شأنها خلق مناصب شغل.
الجباية النّـفطية للاستثمار
يحذّر رئيس الجمعية الوطنية للمستشارين الجبائيّين، أبو بكر سلامي، في إفادة لمجلة «الشعب الاقتصادي»، من استنزاف أموال الجباية النّفطية في نفقات لا تدر مداخيل إضافية على غرار «الأكل، الشّرب، العلاج والاستيراد»، وطالب باستحداث صندوق لتسيير هذه الأموال التي يجب أن توجّه للاستثمار، الذي من شأنه أن يُدر العملة الصّعبة ويستحدث مناصب شغل.
ويرى أبو بكر سلامي أنّ فائض الجباية النّفطية، يجب أن يوضع في صندوق احتياطي للأجيال المقبلة، خاصة وأنّ هذه الجباية ريعية، ولذلك وجب التّحكّم فيها جيّدا وعدم إنفاقها على الأكل والشّرب، وإنما تخزينها على شكل مدخّرات وتحويل جزء منها إلى استثمارات من شأنها أن تخلق مناصب شغل، وتقضي على أرقام البطالة المرتفعة في الجزائر، أما الأموال التي تستغل في ميزانيتي التسيير والتجهيز كل سنة، ويتم إقرارها عبر قوانين المالية المختلفة، فيفترض أن يكون مصدرها الإنتاج والخدمات، وهو ما نجده غائبا في الجزائر، التي لا تزال تعتمد على أموال النّفط.
ودعا المتحدّث إلى استغلال أموال الجباية البترولية، واستحداث صندوق لتشجيع التّوظيف والاستثمار، وقال إنّ مثل هذه الخطوة ستكون صعبة على السّلطات الجزائرية، بحكم أنّ الوضع المالي اليوم في الجزائر يجابه حالة عجز في الخزينة بلغ مستواه 4000 مليار دينار، مضيفا «يجب أوّلا امتصاص العجز، ثم نقوم بإعادة إطلاق قاطرة الاقتصاد الجزائري، والشّروع فورها مباشرة في التفكير في التوظيف وخلق مناصب شغل».
وحسب ذات الخبير المالي، فالدولة، وفقا للمقترح الذي قدّمه، لن تكون مسؤولة عن التّوظيف وإنما عن تشجيع الاستثمار ودعمه، في حين أنّ الشّركات المستثمرة المستحدثة في أعقاب هذا الإجراء، هي من ستقوم بالتّوظيف، ودعا في سياق متصل إلى الابتعاد عن التوظيف العشوائي، بل يجب أن تكون المناصب المعلنة مدروسة جيداً، وتحمل مردودية للمؤسّسة ولصاحب الشغل أيضا، سواء اعتمدت الدولة في ذلك على الاستثمار الأجنبي أو المحلي.
ووفقا للأستاذ سلامي، فإنّ استغلال المداخيل البترولية يجب أن يخرج من دائرة «الشّعبوية» واستغلال الموارد لشراء السّلم الإجتماعي، بل يجب تبنّي تفكير اقتصادي لخلق مناصب عمل قارّة، بدل التّفكير الاجتماعي والسياسي اللذين يعتمدان عادة على حلول ترقيعية، لا تحمل أيّة جدوى اقتصادية على المديين المتوسّط والبعيد، عبر خلق مناصب شغل لا تكون المؤسّسة بحاجة إليها، وتعتمد في دفع أجور هذه الفئة على عائدات الجباية النفطية، وبالتالي عند حدوث أوّل هزّة في أسعار النفط، يهتز معها مستقبل الأجور.
وقال سلامي إنّه في الماضي حينما كان سعر البترول مرتفعا، ويفوق المائة دولار في السوق الدولية، كانت لدى الجزائر فرصة للقضاء نهائيا على البطالة عبر توظيف الجباية النّفطية في الاستثمار وخلق مناصب شغل، مصرّحاً «لو استغلّت المائتي مليار دولار المكتنزة خلال سنوات البحبوحة في الاستثمار، والتي كانت مخزّنة في صندوق احتياطي النقد الأجنبي، لتحرّكت قطاعات أخرى على غرار السياحة، الفلاحة والصناعة، ولقضينا بشكل تام على البطالة».
قوانين المالية السّـابقة أهدرت موارد
ينتقد عضو لجنة المالية والميزانية السّابق بالمجلس الشعبي الوطني، عمار موسي، قوانين المالية المتعاقبة طيلة السّنوات الماضية، ويرى أنّها كانت تهدر الموارد المالية مجانا، بدل استغلال عائدات الجباية النّفطية في مشاريع استثمارية من شأنها خلق مناصب شغل، كما أنّ التوظيف في مؤسسات الدولة طيلة السّنوات الماضية كان يتم بالمحسوبية، وهو ما أثّر سلباً على سوق الشغل في الجزائر.
ويقول موسي في تصريح لـ «الشعب الاقتصادي»، إنّ هذه القوانين كان يجب أن تكرّس سياسة الاستثمار وخلق المؤسّسات والتوظيف لمجابهة شبح البطالة، إضافة إلى خلق مؤسّسات مصغّرة على غرار النماذج التي نراها بإيطاليا، اليونان واليابان ولكن ذلك لم يحدث، وهو ما تسبّب في زيادة نسبة البطالة في الجزائر، حيث حافظت الحكومات المتعاقبة على الطّرق الكلاسيكية القديمة في خلق مناصب شغل عبر مسابقات التوظيف دون الحاجة إليها، أو خلق مؤسّسات مصغّرة لا تتجاوز آجال حياتها سنة في ظل غياب المرافقة الناجعة لأصحاب المشاريع.
ويرى موسي أنّ دراسة كيفية استغلال الرّيع النّفطي في الاستثمار وخلق مناصب شغل، موضوع شائك يتم تداوله، منذ الاستقلال ولكن لم يتم الوصول إلى أي نتيجة في هذا المجال.
ففي كل مرّة تخطّط الدولة والجماعات المحلية تنفّذ، حسبه، ولكن وبسبب السياسات العجراء التي لا تتناسب مع الخصوصيات المحلية، الكثير من المشاريع فشلت قبل انطلاقها وخسرت الدولة مبالغ طائلة، أما اليوم فالوضع مختلف، بحكم أنّ الريع أصبح قليلا بفعل انخفاض سعر النفط، وهو ما يفرض ضرورة التفكير في تنمية محلية مستدامة جالبة للثّروة.
حلول مستقبلية
لتكريس استغلال أموال الجباية النّفطية في تشجيع الاستثمار وخلق مناصب شغل، يقترح الأستاذ مولود حشمان منع ذهاب أموال الجباية البترولية للدولة وصبّها في الميزانيات، بل يجب أن تستغل في استحداث مؤسّسات خاصّة، وبهذا الشّكل ستذهب هذه الأموال للمواطن مباشرة، إلاّ أنه يشترط أن تتم مرافقة هذه المؤسّسات الخاصة لمنع تكرار سيناريوهات مؤسّسات «أونساج» سابقا، التي كان مصير معظمها الفشل.
ويرى مولود حشمان أن البنوك ملزمة بمرافقة المشاريع المنتجة، كما أن البنك يجب أن يكون شريكا في العملية الإنتاجية، من خلال دخوله في رأسمال المؤسّسات التي يموّل استحداثها، معتبرا أنّ تشجيع الاستثمار يعني تشجيع الطلب المحلي، وهو ما يؤدّي بالضرورة إلى رفع الإنتاج والقيمة المضافة، وبالتالي خلق مناصب شغل جديدة.
ودعا في نفس السياق إلى خلق مناخ استثماري جديد مشجّع، ومرافقة أصحاب المشاريع علميا، تقنيا وإداريا، حتى لا نفقد هذه المؤسّسات ونضمن استمرارها، إضافة إلى خلق مناصب شغل مباشرة خارج قطاع الوظيف العمومي، قائلا إنّ القطاعات التي تستحق التّشجيع هي الصناعة الالكترونية وصناعة السيارات، كما طالب بالابتعاد عن عقود ما قبل التوظيف وكافة الممارسات التي تقتل الأجور، واستبدالها بالاستثمار واستحداث المؤسّسات الصّغيرة والمتوسّطة.
وبالمقابل، يقول الخبير المالي والجبائي، أبو بكر سلامي، إنّ النّموذج الاقتصادي الجديد الذي أعلنت عنه الحكومة الجزائرية، جاء مع مرحلة كورونا وخلال فترة الأزمة الاقتصادية، التي تفاقمت جرّاء الأزمة الصحية، وهو ما يدفع اليوم إلى ضرورة التفكير في حلول اقتصادية ناجعة على المدى البعيد، والانتقال في أقرب وقت ممكن من الاقتصاد الرّيعي والجباية الريعية إلى اقتصاد متنوّع، مذكّرا بتوصيات الجلسات الجبائية المنعقدة السنة المنصرمة، والتي أكّدت ضرورة الانتقال لاقتصاد حقيقي يعتمد على جباية غير بترولية.
وبالنسبة لكيفية استغلال الأموال النفطية، أو عائدات الجباية البترولية، دعا المتحدّث إلى تحويل جزء منها إلى امتيازات جبائية، تتحمّلها الخزينة، لصالح رجال الأعمال والمستثمرين، ومراقبة كيفية استغلال هذه الامتيازات التي لم تكن مراقبة في الماضي ومتابعتها، وترقّب مردودها عبر خلق مناصب شغل، واستحداث مشاريع استثمارية ضخمة، كما دعا لاستغلال هذه الأموال عبر تحويلها إلى قروض لخلق شركات، وتوفير الجو المناسب للعمل، ومنح تسهيلات للمستثمرين وتوفير كل الظّروف الملائمة لهم، وهنا ستستفيد الخزينة والمستثمر، وكذلك عبر خلق مناصب شغل.
ويمكن استغلال هذه الأموال وفقا للمتحدّث أيضا، عبر استحداث مشاريع البنى التحتية لتشجيع الاستثمار على غرار الطّرقات وشبكة الكهرباء، وأيضا تحقيق الاستقرار الأمني والسياسي، وهي مشاريع يمكن تمويلها جميعا من صندوق الجباية البترولية، الذي اقترح استحداثه، حيث ستحمل على المدى المتوسط حلولا لكافة المشاكل بما فيها القضاء على البطالة، والانتقال من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد متنوّع.
صدر في مجلة الشعب الاقتصادي
 عدد 6- جوان 2021

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024