مدّ يده للسلام دون أن يتخلىّ عن السلاح
حوّل الصحافي الصحراوي والمدافع عن حقوق الإنسان السيد ماء العينين لكحل حواره لـ «الشعب»، إلى شهادة حيّة عن الرئيس الراحل محمد عبد العزيز، فتحدث عنه كقائد وكإنسان، عدّد إنجازاته وأحصى انتصاراته، وعرّج على مستقبل القضية بعده وعن المهمة الصعبة التي تنتظر خليفته.
«الشعب»: بداية كيف استقبل الشعب الصحراوي رحيل المغفور له القائد الفذ محمد عبد العزيز، وما وقع هذا الرحيل على القضية الصحراوية؟
ماء العينين لكحل: الشعب الصحراوي شعب مؤمن بقضاء الله، ولكن أستطيع القول، دون أن أبالغ، أن النبأ قد وقع علينا جميعا وقع الصاعقة. ففقدان الفقيد المجاهد، الشهيد بإذن الله، لحظة تاريخية فاصلة في القضية الصحراوية، لأن الرجل لم يكن رئيسا للجمهورية الصحراوية فقط، بل أبا ورفيقا في النضال للجميع، احتك به أبناء شعبه في الحياة اليومية كواحد من عامتهم، وعرفوه عن قرب كجار، وكمواطن عادي يعيش بينهم في خيمته مثلهم جميعا، يناقشهم، ويتبادل معهم وجهات النظر بكل أريحية وتواضع، يستمع للكبير وللصغير، وبيته مفتوح للجميع في أي وقت. رحل هذا المجاهد الذي لم يلن، ولم يستسلم للإحتلال ولا للضغوطات الهائلة الممارسة عليه من كل اتجاه، ليس فقط ضغوطات مهمته الكبيرة كرئيس دولة وأعلى سلطة سياسية فيها، بل والضغوطات الدولية عليه، وضغوطات أعداء القضية الوطنية، وحملات التشهير التي نعرفها جميعا ضد شخصه رحمة الله عليه. أما عن وقع هذه الخسارة الجسيمة، فشخصيا أعتقد أن وفاة الرئيس محمد عبد العزيز في هذه المرحلة خسارة كبيرة للمجتمع الدولي، وللسلام، وللضمير الإنساني، وعلينا أن ننتظر ونأمل أن يتولى رئاسة الجمهورية من بعده من سيحسن مواصلة مسيرتنا النضالية التي تهدف لأمر واحد، هو التحرر والحرية والاستقلال والكرامة والسيادة للشعب.
- قلتم أن الرئيس الراحل كان يعيش وسطكم، فكيف تقدّمونه كرئيس للجمهورية الصحراوية وكإنسان؟
كان رحمة الله عليه إنسانا باختصار، كان إنسانا في كل شيء. في حياته اليومية، وفي اعتباره لنفسه كمناضل بسيط، وكمقاتل بسيط بدون رتبة، وكخادم لشعبه. شارك أبناء شعبه في كل شيء، شارك في المعارك وفتح صدره لرصاص العدو دون تردد لأزيد من 16 سنة، وبشهادة كل رفاقه من المقاتلين كان من أشجعهم، ومن أبرز القادة العسكريين الصحراويين الذين ركعوا جيش الإحتلال في نهاية السبعينات والثمانينات. وحين بسط ملك المغرب، الراحل الحسن الثاني يديه للسلام، وهو في موقف ضعف، لم يستغل محمد عبد العزيز الفرصة، بل كانت لديه من الشجاعة أن يقنع رفاقه بالجنوح للسلام، ووقف الاقتتال بين الأشقاء، وسمح للمنطقة أن تتنفس الصعداء وتبحث عن حل سياسي. لكن النظام المغربي، كعادته خان العهد، وانقلب على الجميع، وناور مستعملا أساليبه الغادرة المعهودة.
كان رحمة الله عليه حليما، وسعى بكل قوته لإقناع العالم بضرورة حل النزاع الصحراوي بالطرق السلمية لتفادي الحرب والقتل والدمار في المنطقة. وكان رحمة الله عليه يرفض أن ينعت أحد الشعب المغربي بالعدو، بل كان يصر على أنه شعب شقيق، وأن مشكلتنا كصحراويين هي مع نظام المخزن المحتل، ومع النظام الطاغية وليس مع أبناء الشعب المغربي البسطاء. وكان يصر على أننا كصحراويين لسنا من يقطع صلات الرحم ولا جسور الأخوة والصداقة أبدا، بل نبنيها.
كان فارسا في الحرب وشجاعا في السلم
إذن استطيع أن اقول أنه كان شجاعا في الحرب، شجاعا في السلم، وكان همه الأول والأخير هو الحفاظ على مكتسبات شعبه، وعدم التراجع أو التخلي بتاتا عن حقه في الحرية والاستقلال. وكرئيس للدولة وقائد للشعب، كان رحمة الله عليه قريبا من الجميع، يستمع للجميع، ويسأل عن أحوالهم . كانت ذاكرته الاجتماعية عجيبة، وكأنه يعرف كل بيت، ويعرف بالتأكيد كل رجالات الشعب الصحراوي المناضلين ونسائه المناضلات، ويتابع أخبارهم، وأحوالهم، ويوصي بهم، ويهاتفهم إن أمكنه ذلك في المناسبات السعيدة أو الأليمة. يعني، أحيانا أستغرب من القدرة التي كانت لديه لمتابعة شؤون الناس كأفراد، وفي نفس الوقت متابعة المعركة العسكرية، والمعركة السياسية، والدبلوماسية، مع الجميع. وكان قليل النوم، وكأنه يجد ساعات النهار قليلة على العمل. وكنا نعرف جميعا، أنه رحمة الله عليه يتنفس في كل لحظة القضية الوطنية، يتابعها بتفاصيلها دون كلل، ليلا كما في النهار ويتقدم الصفوف في أي عمل وطني ليعطي المثال، سواء أكان عملا سياسيا أو عضليا حتى في فترة مرضه الأخيرة لم يتوان عن المشاركة في حملات اجتماعية رغم محاولة رفاقه ثنيه واقناعه بضرورة الاستماع لنصائح الأطباء بالراحة. كان إنسانا متفائلا، يؤمن بالناس، ويرى في كل واحد أجمل ما فيه، ويحاول جهده التغاضي عن مساوئه، وكان صدره مفتوحا للنقد، وللمعارضة، وللنقاش، يستمع لك وقد لا يكون متفقا معك، ولكنه يناقشك ويحاول إقناعك برؤيته. وأهم من كل ذلك، أنه رحمه الله كان إنسانا متواضعا، عطوفا، وجياش المشاعر، وقد رأينا كيف كان ينهار من الحزن عند فقدان مناضلين أو مواطنين رغم قوته، وجلده، ماذا سأقول، لا أظن أنني سأفيه حقه مهما قلت.
إنتزع اعتراف 84 دولة بالجمهورية الصحراوية
- أزيد من أربعة عقود قضاها الرئيس الصحراوي الراحل مناهضا ومدافعا عن حق تقرير المصير واستعادة الأرض المسلوبة، فما أهم الإنجازات التي حققها في مسيرته النضالية هذه ؟
أهم إنجاز للرئيس الراحل أنه لم ينسب لنفسه قط أي إنجاز، بل نسبه دائما للشعب، رغم أننا نعرف بحكم معرفتنا بالأمور أنه باعتراف رفاقه المقربين كان صانع الاستراتيجيات الحربية الصحراوية، طبعا لم يكن وحده، ولكنه كان من أبرز القادة العسكريين الذين ركعوا جيش الاحتلال إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق. ولم يدع يوما بطولة أو قدرة، رغم أن رفاقه اعترفوا له بذلك وأقروا به، حتى أولئك الذين عارضوه لسبب أو لآخر.
إنجازاته، هي إنجازات المرحلة التي قادها، فلقد نجح عسكريا في تركيع جيش الرباط وأرغم الحسن الثاني على اللجوء لفرنسا وأمريكا والأمم المتحدة منذ أواسط الثمانينات لإقناع الصحراويين بوقف إطلاق النار والقبول بالسلام. وعلى الجبهة الدبلوماسية، نجح هو ورفاقه في كسب اعترافات أزيد من 84 دولة عبر العالم بالجمهورية الصحراوية، والحصول على العضوية للجمهورية في الاتحاد الأفريقي، وأسمع صوت الشعب الصحراوي في كل المنابر الدولية في الأمم المتحدة، وفي الاتحاد الأوروبي، وفي منظمة عدم الانحياز، وفي المنظمات المختلفة في أمريكا اللاتينية، ناهيك عن المنابر الأخرى الحزبية، والاقليمية وفي كل دول العالم تقريبا. وعلى المستوى السياسي، أرغم هو ورفاقه المغرب على الاعتراف بأن لا سيادة له على الصحراء الغربية، فقبول المغرب بمخطط السلام، يعني قبوله بقرارات وبرؤية الأمم المتحدة، وبالتالي القبول بأن هناك نزاع، وهناك قضية تصفية استعمار، وبالتالي استعمار واحتلال بالقوة العسكرية. هذا في حد ذاته من أهم المكاسب في نظري حتى الساعة، لأن الشعب الصحراوي بدأ ثورته غريبا وغير معترف به حتى من قبل الجيران، وفي 1991 أقرت الأمم المتحدة كلها، والمنتظم الدولي بأن هناك ثورة صحراوية، وهناك حركة تحرير اسمها جبهة البوليساريو، وهناك محتل للصحراء الغربية إسمه المغرب. أما على المستويات الاجتماعية، فقد نجحت الدولة الصحراوية بقيادته في تحقيق إنجازات ضخمة في التعليم، وفي الصحة، وفي مشاركة المرأة في كل المجالات، وفي حماية المخيمات من عديد الآفات التي تصيب عددا كبيرا من الدول الأفريقية. ثم، رحل والقضية الوطنية في أوج انتصاراتها الدبلوماسية، والسياسية وفي أوج قدراتها العسكرية. حتى في رحيله رحمة الله عليه، قدم للقضية الوطنية خدمة أخرى إذ تداعى الجميع لنبأ فقدانه. كل وسائل إعلام العالم تناولت الخبر الآن، وكل الدول والهيئات التفت الآن لهذه البقعة من الأرض تسأل وتتساءل من سيأتي بعده رحمة الله عليه؟ وكيف ستتطور الأمور؟ وهل سيكون من سيأتي بعده حكيما كيسا مثله، أم سيكون قائدا جديدا يغير مجريات النزاع بشكل أو آخر؟ وكأن مصيره رحمة الله عليه أن يخدم قضية شعبه حيا وميتا.
- محمد عبد العزيز كان قائدا محنكا استطاع أن يحفظ القضية ويصون وحدة الشعب من مختلف المناورات، فهل بعده سيحظى الصحراويون بقائد بنفس المميزات ليواصل مسيرة النضال إلى غاية الحرية؟
محمد عبد العزيز لم يكن نبيا، هو مناضل صحراوي مثل الكثير من المناضلين، لكن صحيح أنه كان مناضلا من معدن نادر عرف كيف يتحمل المسؤولية حين ألقيت على كاهله، فيجب أن نتذكر أنه لم يبحث عنها، ولم يسعى لها، بل أرغمه رفاقه على تحملها بعد سقوط الشهيد الولي في ساحة الشرف، ثم أرغم مرات عديدة على تجديد تحملها رغم سعيه خلال العشر سنوات الأخيرة للتنحي لترك الآخرين لتجربة القيادة. ولكن علينا أن لا ننسى أن الشعب الصحراوي فقد قبله أيضا الشهيد الولي مصطفى السيد، وهو الذي كان باعتراف الرئيس الراحل نفسه، رجلا لن تشهد الصحراء الغربية مثيلا له لقرون. لكن استشهاد الشهيد الولي لم يترك الصحراويين عاجزين ودون قيادة، بل ولدت قيادة الرئيس الراحل الذي نتحدث عنه الآن.
القضية الصحراوية ليست قضية زعيم واحد تنتهي بنهايته
أنا لا أشك بتاتا في أن الصحراويات اللاتي أنجبن الشهيد الولي مصطفى السيد، والشهيد محمد عبد العزيز، ولائحة الشهداء الأفذاذ كثيرة لا مجال لذكرها هنا، لا أشك في قدرتهن على إنجاب قيادات ومناضلين أفذاذ كثر ينتظرون فقط أن تدق ساعة تألقهم، وتحملهم المسؤولية، فالقضية الصحراوية لم تكن يوما قضية أفراد، ولا قضية زعيم واحد تنتهي بنهايته، بل كانت منذ الوهلة الأولى قضية الشعب، احتضنها، تحملها، قادها، ولم يأتمن عليها أحد ولا حتى القيادات الذين اختارهم، بل كان يدفعهم للمزيد من التضحيات حتى تساقطوا واحدا واحدا ولم يبدلوا ولم يتراجعوا أو يخنعوا. لهذا أقول بأن خسارتنا لرئيسنا رحمة الله عليه، مصاب جلل، ولكننا قوم مؤمنون، وقوم سنحفظ له جميله، ونحفظ ذكراه في قلوبنا، ولكننا كما وعدناه «سنمضي إلى ما نريد، وطن حر ونصر أكيد»، إن شاء الله.
- رحل الفقيد وبقيت القضية الصحراوية، فما توقعاتكم لما تحمله لها الأيام خاصة مع التعنت المغربي الذي يصر على «شرعنة « احتلاله؟
تعنت المغرب مثله مثل تعنت كل القوى الاستعمارية في كل العصور. وكأنها تستلهم من نفس الغباء والكبر والعزة بالإثم. تعنت المغرب سبقه تعنت فرنسا في الجزائر حين كان ديغول يصر أن الجزائر فرنسية، ومثله تعنت الأبارتايد حين كان يرى أن الشعب الجنوب أفريقي مجرد قطيع من العبيد، ومثله تعنت فرعون حين استصغر نبي الله موسى وطغى وتكبر، ولكن الله أكبر.
إذن تعنت المغرب لا يخيفني، وما دام الشعب الصحراوي متحد، ومدرك للتحديات التي أمامه، فكلي ثقة أننا سنشهد يوما اندحار هذا السرطان الذي ينخر جسم الشعوب المغاربية والقارة الأفريقية، ويعطل كل شيء.
أما عن إصرار المغرب على شرعنة الإحتلال، فقد حاول كل جهده ولم يدخر شيئا، ولمن يتمكن من ذلك اللهم إلا إذا قضى على كل أبناء وبنات الشعب الصحراوي وابادهم عن آخرهم، فما دام هناك صحراوي واحد، ستظل هناك مطالبة وكفاح من أجل الاستقلال.
باختصار، سيكون نجاح المغرب في فرض احتلاله، النهاية المحتومة للأمم المتحدة، وللقانون الدولي، وللمنطق والعقل، وللسلام والإستقرار، وللعدالة ولحرية الشعوب، وسنعود جميعا في هذه الكرة الأرضية، وليس فقط في شمال أفريقيا، لقانون الغاب، وللعصور الوسطى. ساعتها، لن يتحدث أحد عن شرعية أو مشروعية، وستكون النار والحديد اللغة العالمية الجديدة الوحيدة التي يحتكم إليها.