قبل بداية حوارنا معه كانت هناك فكرة تجول بخاطرنا عن كتاباته وحضوره الأدبي خاصة وأن القاص السعيد سلوم يعتبر من بين الاصوات المهمة في المشهد الادبي الجزائري وقد عرفناه مبدعا في نهاية ثمانينيات القرن الماضي وظل الرجل وفيا لسيرته الابداعية، لم تمنعه الظروف من مواصلة مشواره الادبي، ولا شقاوة الحياة ايضا، فقد ذكر ضيف «الشعب» الكثير من الأشياء التي ظلت مختفية في سجله الادبي في هذا الحوار.
- الشعب: كيف وقع العشق بينك وبين القصة القصيرة؟
السعيد سلوم: أنا لا أعشقها بالمفهوم الوارد في سؤالكم. أنا أحمل القصة وأثقل كاهلها بما أريد، ومن ثمة أدفعها بدغدغات عميقة اللذة قد تولد لديها إرادة السير حتى لا تتوقف مثل حمار الشيخ في عقبة الزمن. وكان ذلك في زمن الطفولة البعيد. بين أحضان الطبيعة الحانية وعنفوان ربيعها الذي اندثر، ولم يعد موجودا. لم أشاهد بعدها زهورا وسواقي وأنساما تهز شغاف القلب كما في ذلك الزمن.
وكنت أسكن بكوخ في عمق الريف. وأسهر الليالي أطالع بشراهة ونهم. وحين يشتد عصف البرد أو يتهاطل الصقيع، وأعجز عن جلب الحطب من خارج الكوخ لأوقد النار من جديد، أسارع إلى جذب الكرسي الخشبي الصغير نحو الموقد فيصبح تحتي تماما لتصلني حرارة الجمر المنبعثة من بقايا الموقد.
كان الناس في ذلك الزمن السعيد البعيد.. زمن الانطلاق الوطني يخرجون مع تباشير الفجر الأولى. ويمكن أن تسمع سعال أحدهم بعيدا وسط الظلام أو نباح أو صياح الديكة، أو أصوات طيور تركت مخابئها لكون أحدهم شوش عليها في تلك اللحظات، يشق الغابة آخذا طريقه إلى السوق الأسبوعي والذي يذهبون إليه مرة كل أسبوع.
- هل معناه انكم خضتم رسم اللوحة والشعر ايضا ؟
اندلعت الحرارة برأسي وتصاعدت فكنت أرسم وأنجزت الكثير من اللوحات في الفن التشكيلي. وتكونت لدي رؤية نقدية في هذا الفن، مع شعوري المتزايد بأن الفن التشكيلي لابد له من صبر ودقة غير متناهية. فاتجهت إلى الشعر وأنجزت ديوانا عنوانه يذكرني اليوم وادي الهوى.إلا أني سرعان ما تخليت حتى عن ألشعر لشعوري بوطأة المنطق وطابع الجدل العقلي. واستقر بي التيه في كتابة المسرح. فساهمت في تأطير فرقة لمسرح الهواة إسمها الهلال المسرحي.وكنت أقوم بالإخراج لها رفقة رئيسها المناضل الثقافي الكبير عبد الكريم ربيع شفاه ألله واستطعنا الحصول على الجائزة الوطنية الثالثة سنة 1987 بالمهرجان الوطني لمسرح الهواة المنعقد بولاية مستغانم، وبالموازاة مع ذلك كنت أكتب القصة والتي أحاول أبدا أن أختزل فيها كل العالم على ضيق رحمها.
كان هاجسي الأول هو النص .. النص كمنطلق ومنتهى. حيث وفي رحابة صدره أضمنه عقلي وأفكاري وأحلامي. وفي نهايته وإثر ختمه أحاول رمي مفاتيحه في أي فضاء أو أي بحر، بحيث لا يمكن العثور عليهم بالسهولة الممكنة. وكان ذلك محاولة مني لإغراء الناقد الذي يمكنه أن يلاحظ أو يسمع الأصوات الصادرة عن أعماق النص.
- يعرفك الجميع القاص ويجهل الكثير من القراء من هو السعيد سلوم الإنسان؟
لا أظن أن الجميع يعرفني، فقد تغيبت لسنوات، كما أن هناك من تناساني. وحياتي امتدت بين المهنة وبين مختلف النضالات. فقد عملت كأستاذ بالمتوسط والثانوي، كما عملت كصحفي متعاون. وحاليا أنا أقوم بمهام ممثل قانوني. وعلى مستوى النضال فقد تقلدت منصب الكاتب العام بمكتب عنابة للمنظمة الوطنية للمعوقين حركيا، ثم نفس المهام بنفس المنظمة على المستوى الوطني. طبعا إلى جانب تأطير وبعث جمعيات قاعدية اجتماعية وبيئية. في المجال الثقافي فأنا من مؤسسي نادي الإبداع الأدبي بقصر الثقافة والفنون بعنابة. واستطاع هذا النادي بعث وصقل نخبة نادرة من مواهب عنابة وما جاورها. هي اليوم تمتلك بصمة إبداعية متميزة، ولازالت في مقتبل العمر، وأرجو لها كل التوفيق بالمناسبة. ثم وإثر تقهقر المشروع الثقافي بعنابة، وبسنوات بعد ذلك اتجهت إلى ولاية الطارف، وأسست بها فرع اتحاد الكتاب الجزائريين وترأسته لمدة عشر سنوات. طبع خلالها الزملاء ماتيسر من المخطوطات الإبداعية، وتوصل منهم إلى عضوية المجلس الوطني للإتحاد. كما تمّ جمع بعض نصوص كتاب وشعراء الطارف بالتنسيق مع مديرية الثقافة في كتاب إسمه أدباء البحيرات.
- ماهي أول محاولة لك مع عالم الكتابة، وهل تذكرها؟
حدث ذلك في السنة الخامسة من التعليم الابتدائي. أين فتحت عيني على عالم التعبير الإبداعي بلغاته المختلفة. ومن يومها شرعت في جمع مكتبتي. والنص الذي «خربشته» وقتها لا أذكر منه الآن إلا كلمة الماء الزلال. وهو نصّ يحاكي ما قرأته وشدني في تلك الأيام للأديبة مي زيادة. وكل هذا كان بفضل معلم ذكره الله بخير إذا كان على قيد الحياة، ورحمه الله وأسكنه فسيح جنانه إذا كان من المتوفين. اسمه «نافع» من فلسطين. هذا المعلم نفعنا بما لازلنا نقتات عليه وننفق منه إلى يومنا هذا. وهنا يجدر التنويه بالجهود التي بذلت من طرف الأشقاء العرب من فلسطين وسوريا والعراق في تأسيس وبعث منظومة تربوية أنجبت خيرة أجيال الجزائر بعد الإستقلال و شخصيا، أستثني هنا البعثة القادمة من مصر والتي كانت في معظمها غير مهتمة بالمهام المنوطة بها في الجزائر، بالإضافة إلى أنها ضمت بعض من المسيحيين.
- لمن يقرأ السعيد سلوم من الكتاب الجزائريين والأجانب ؟
قرأت لكل أعلام الإبداع والفكر في الجزائر كما في العالم، وإن كنت لا أستطيع اللحظة تذكر الأسماء من أمثال محمد العيد آل خليفة وصالح خرفي ومفدي ومحمد ديب ومولود فرعون وكاتب يسين وبن هدوقة ووطار وواسيني والزاوي وأحلام وبوجدرة وآسيا ومالك بن نبي ووو الأسماء كثيرة.
ومن الوطن العربي والعالم همنغواي وتولستوي ودوستويفسكي وكولون ويلسون وناتالي ساروت ونجيب محفوظ والغيطاني ويوسف إدريس والطيب صالح وكنفاني وبسيسو وجبران وعصفور وزكي حيدر حيدر والمسعدي وحتى هنا كذلك الأسماء كثيرة من القديم والحديث. وقد تغيب هذه الأسماء عن سطح ذاكرتي لأبقى إلا أنا وحدي، ولكن بعمقها تبقى عجينة من طبخ كل هؤلاء.
- لديك أعمال منشورة، ماهي؟
بل لدي مخطوطات غير منشورة. وأما المطبوع فلدي مجموعة قصصية واحدة و وحيدة بعنوان العالم لو حاولت من خلالها رصد التساقط وانفلات التراجع وضياع مانصبوا إليه. والمتناقضات الساحقة في كل حدب وصوب وقد صعب ضبطها والتحكم فيها. في هذه المجموعة أحاول كذلك استشراف واكتشاف المسالك نحو الآفاق الواعدة من خلال بحثي عن شغف يشبه كفري بما آل إليه حالنا و وجودنا المجاني. وكأن الإنسان مات فينا وقد احتشد في رأسي بحدة الوعي بقضية النهضة الوطنية.
- كيف تقيم الساحة الأدبية في الجزائر والعودة إلى كتابة القصة القصيرة جدا ؟
الساحة الأدبية أو الثقافية بشكل عام هي كبقية قطاعات التربية والسياحة والصناعة والفلاحة والاقتصاد والحياة الاجتماعية. هذه جميعها ساحات يشوبها التقهقر والانحدار، والساحة الأدبية الآن محكومة بالتعبير عن التذمر والضياع. وعن الهوة الساحقة والسحيقة الفاصلة بقسوة بين الطموح والواقع القاحل المرير. ليس كما في مراحل السبعينات والثمانينات أين انخرطت الحركة الأدبية الوطنية في معانقة تحولات وطنية واجتماعية كبرى عميقة في الفكر والتنمية، في ظلّ مناخ وطني آمن. فالأمن الثقافي ضرورة ملحة وحتمية. وهذا يعني أن أحمال الحركة الأدبية الراهنة خفيفة ولا تهد الكاهل. وهو ما يوحي بأن الوضع جيد، غير أن العكس هو الصحيح. فنحن إلى الآن لا نملك الجدل الأدبي أو الفكري والثقافي بشكل عام. فهذا التفاعل هو الذي من شأنه وضع انشغالات الساحة الأدبية على المحك وقضايا كالتنمية والهوية وعلاقتنا بالآخر ... الخ.
بمعنى أنه قد توجد لدينا أصوات أدبية حضارية ومتصدرة إبداعيا، وباستطاعتها قيادة شعور وطني بأكمله. غير أن تهميش هذه الأصوات الواقع حاليا في بلدنا، وترتيب الساحة الأدبية في ذيل الإهتمامات هو الذي جعلها عديمة القيمة، لا جدوى من تقييمها. إننا نتخلى عن ذاتنا وهويتنا بالتدريج في ضوء تحول حياة الفرد منا إلى العالمية.
- فكيف في قلب هذه الضبابية التي ولد عنها وضع مأساوي، يمكن تقييم الساحة الأدبية؟
بالعودة إلى شقّ سؤالكم المتعلق بالعودة إلى كتابة القصة القصيرة جدا، فأعتقد أنه ليس هناك عودة لها أو ابتعاد عنها، وإنما في الواقع يوجد كتاب القصة كما يوجد الشعراء وكتاب الرواية.
- هل لك مشاركات عربية أو وطنية؟
للأسف لا سواء على المستوى العربي أو غيره. لم أشارك أبدا في أي تظاهرة ثقافية. ربما لم تتح لي فرصة المشاركة حتى محليا مرة واحدة عندما نلت الجائزة الوطنية الأولى في كتابة القصة القصيرة بالملتقى الوطني الثاني عبد الحميد بن هدوقة ببرج بوعريريج.
- اختار العديد من الشعراء الشباب الخوض في كتابة القصة القصيرة والرواية. هل أنت مع هذا الإختيار مثلا؟
المشكلة ليست في الاختيار، كما أنه ليس من حقي أن أكون مع أو ضد هذا الاختيار. فكل صاحب قلم يختار ما يشفي غليله. وأعتقد أن المشكلة في ضعف القريحة الشعرية لدى هؤلاء الشعراء. وتكمن أيضا في صعوبة دغدغة الوجدان ومخاطبته. كما أن إشكالات كثيرة مستجدة تكون قد تجاوزت القصيدة. وعليه فلم يعد بمقدور الشعر تحمل هذه المستعصيات لأن قريحة الشعر لدى أصحابها لا تشبه نفسها عند شعراء ذاع صيتهم ورسخو بصماتهم في وجدان الناس.
- هل أنت راض عما كتبت في غياب مؤسسات نقدية ترافق العمل الإبداعي؟
ربما لا تصدق عندما أصرح لك بأني لا أملك ذرة رضى واحدة عن ماكتبت حتى الآن، بل وأعتبر نفسي لازلت لم أكتب أصلا مايخامرني ويدور في خلدي رغم توقفي عن الكتابة سنوات كالسبات. لم أبلغ يوما ذروة نشوى الكتابة وإنهاء ما أريد سرده. وأما النزر القليل الذي طبعته فلا التفت إليه نقديا. والنقد بعض حياة المبدع. لكن للأسف نحن نكتب في النافخات زمرا ولا نملك حتى الإعلام الثقافي فما بالك بمؤسسات نقدية؟
فأنا لا أرى لهذه المؤسسات وجودا، لأنها في الأصل لابد أن تنبثق قبل المدارس والنظريات عن سياسة ثقافية وطنية متكاملة وواضحة. وهذه المؤسسات إن وجدت يجب عليها العمل على تعزيز التعبير الثقافي ضمن ظروف مواكبة للإبداع والإنتاج. وأما ما نحن عليه الآن من احتكار الثقافة من طرف النخبة فهو وضع غير محمود، بل ويهدد المجتمع وينخره من الداخل. وعليه فالدور الذي على المؤسسات النقدية النهوض به ليس مرافقة العمل الإبداعي فحسب، وإنما جعل الثقافة كالرياضة من أولى الاهتمامات المجتمعية.
- هل من كلمة أخيرة؟
إن المثقف الجزائري تعترضه تحديات مصيرية خطيرة، وعليه أن يمتشق نفسه وينهض للإمساك بمقود الوطن حتى لا ينقلب أثناء سيره. وذلك من خلال توطيد كرامتنا وثوابتنا و إنجاز خروجنا من نفق الصدمات واكتشاف التحول الإيجابي المطلوب، فمن العار البقاء على هامش العالم والحياة.
القاص السعيد سلوم يفتح قلبه لـ«الشعب»:
يوجد كتاب القصة كما يوجد الشعراء وكتاب الرواية
حوار: نورالدين لعراجي
شوهد:993 مرة