للنّقاش

إذا أردت تعطيل فكر متوثب جديد فاشغله بالجدل

بقلم / د - حبيب مونسي

ينقل العقاد في كتابه “التفكير فريضة إسلامية” فقرة ذات شأن، عن جلال الدين السيوطي من كتابه “الحجة في تارك الحجة” رواية عن الشيخ نصر المقدسي في حديثه عن دولة بني العباس، وما أحدثوه من ثلم وتعوير في الفكر الإسلامي، ننقلها بنصها.
«فأول الحوادث التي أحدثوا، إخراج “كتب اليونانية” (يقصد كتب الفلسفة) إلى أرض الإسلام فترجمت بالعربية وشاعت في أيدي المسلمين. وسبب خروجها من أرض الروم إلى بلاد الإسلام يحيى بن خالد بن برمك، وذلك أن كتب اليونانية كانت ببلد الروم وكان ملك الروم خاف على الروم إن نظروا في كتب اليونانية أن يتركوا دين النصرانية ويرجعوا إلى دين اليونانية، وتتشتت كلمتهم وتتفرّق جماعتهم، فجمع الكتب في موضع، وبنى عليها بناء مطمئناً بالحجر والجصّ حتى لا يوصل إليها. فلما أفضت رياسة بني عباس إلى يحيى بن خالد وكان زنديقاً بلغه خبر الكتب التي في البناء ببلد الروم، فصانع ملك الروم الذي كان في وقته بالهدايا ولا يلتمس منه حاجة. فلما أكثر عليه جمع الملك بطارقته وقال لهم، إن هذا الرّجل - خادم عربي - أكثر عليّ من هداياه ولا يطلب مني حاجة، وما أراه إلاّ يلتمس حاجة وأخاف أن تكون حاجته تشقّ عليّ. فلما جاءه رسول يحيى قال له: قل لصاحبك إن كانت له حاجة فليذكرها، فلما أخبر الرّسول يحيى ردّه إليه وقال له: حاجتي الكتب التي تحت البناء، يرسلها إليّ أخرج منها بعض ما أحتاج إليه وأردّها إليه. فلما قرأ الرومي كتابه استطار فرحاً، وجمع البطارقة والأساقفة والرّهبان، وقال لهم: قد كنت ذكرت لكم عن خادم العربي أنه لا يخلو من حاجة، وقد أفصح عن حاجته وهي أخفّ الحوائج عليّ. وقد رأيت رأياً فاسمعوه فإن رضيتموه أمضيته، وإن رأيتم خلافه تشاورنا في ذلك حتى تتّفق كلمتنا، فقالوا ما هو؟ قال: حاجته الكتب اليونانية يستخرج منها ويردها. فقالوا: ما رأيك؟ قال: قد علمت أنّه ما بنى عليها من كان قبلنا إلاّ أنه خاف إن وقعت في أيدي النصارى وقرأوها كان سبباً لهلاك دينهم وتبديد جماعتهم، وأنا أرى أن أبعث بها إليه وأسأله ألاّ يردُّها، يُبتلون بها ونسلم نحن من شرها: فإنّي لا آمن أن يكون بعدي من يجترئ على إخراجها إلى الناس فيقعوا فيما خيف عليهم. فقالوا: نعم الرأي رأيك أيها الملك فامضه...”.
يعلّق العقاد على الفقرة قائلاً: “وهذه قصّة تصح في التاريخ أو لا تصح، فلا شبهة على الحالين في سوء الأثر الذي أصيبت به الأمة الإسلامية من آفة الجهل باسم المنطق المزيّف، فإنّها أشبه شيء بالنقمة يصبّها العدو على عدوه، أو المكيدة التي يدسّها عليه ليشغله بالشّقاق والشتات عن مهام دنياه ومطالب دينه”، وهي من وجه آخر حادث اعترض طريق الفكرالعربي الإسلامي، بأن وضع بين يديه (تراثا) أجنبياً لا يمتُّ إليه بصلة، فانشغل به وانحرف عن السبيل المسطور، وارتد إلى ماضوية جدلية، شأن الفكر الغربي - في عهوده الأولى - يمضغ الماء، وهو لا يعبأ بالخطر المحدق به، فنشأ الجدل والتعصب وتسرّبت المفاهيم المادية والوثنية والغنوصية إلى حقول المعرفة الفكرية، خاصة وأن الكتب المنقولة لم تترجم بكلّيتها، بل وقعت الترجمة على عينّات منها مختارة لتؤدي الغاية المبيتّة، والشاهد على ذلك أن أوربا لم تنطلق من عقالها إلاّ بعد تخلّصها من القيد الميتافيزيقي والنير الأرسطي مع فرنسيس بيكون وإرساء دعائم المنهج التجريبي الذي قام عليه الفكر العربي الإسلامي انطلاقاً من النظر، والتّعقل، والتدّبر، والعمل.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19526

العدد 19526

الأربعاء 24 جويلية 2024
العدد 19525

العدد 19525

الثلاثاء 23 جويلية 2024
العدد 19524

العدد 19524

الإثنين 22 جويلية 2024
العدد 19523

العدد 19523

الأحد 21 جويلية 2024