عجز شامل وغياب المخلّص المنتظر

قراءة في قصيدة “غودو... وبائع النّبي” للشّاعر سلطان القيسي

مادونا عسكر/ لبنان

القراءة الفاحصة لنصّ الشّاعر سلطان القيسي تظهر تناصاً مع  مسرحيّة “في انتظار غودو” للكاتب الإيرلندي صموئيل بكيت، الّتي تدور حول شخصيّات معدمة ومهمّشة تنتظر شخصاً يُدعى غودو ليغيّر حياتها للأفضل. كما أنّ هذه القراءة تبيّن امتصاص الشّاعر وتشرّبه لنص بيكيت وأوّل ما يواجهنا التّركيبة الدّراميّة من ناحية البنية الشّكليّة: افتتاح المشهد المسرحي بالإشارة إلى المكان (كلّ هنا ما زال ينتظر) مشيراً إلى امتداد الانتظار منذ زمن، المشهد المسرحي (خمسة مشاهد)، الحوار الدّاخلي (ثلاثة شخوص في الكافيتيريا). إقحام الصّور لتكوين منظر ناضج يرنو إليه القارئ ببصيرته لا ببصره، ناهيك عن التّأثيرات الضّوئيّة والصّوتيّة المعتمدة في القصيدة (لغتي/ دموع أمي/ حشرجات أبي/ ضحايا الحرب/ أغنية/ يضيؤنا بشتائه...).
من ناحية أخرى تتماهى القصيدة مع المسرحيّة؛ فتظهر أمامنا المكوّنات الدّراميّة الأساسيّة: عبثيّة المشهد الحاضر عند بكيت، وعبثيّة المشهد داخل القصيدة. ويحيلنا ذلك إلى ترجمة الواقع الإنسانيّ العبثي بحسب الشّاعر سلطان القيسي والّذي بات واقعاً معقّداً، فوضويّاً، لا منطقيّاً.
 تحمل المسرحيّة في داخلها الكثير من التّرقّب والانفعال والانتظار لغودو الّذي لم يأتِ. بالمقابل تخبّئ القصيدة في حناياها التّرقّب ورصد الأحداث وانتظار غودو. إلّا أنّ غودو في القصيدة تتبلور شخصيّته أكثر، وتأخذ مساحة أكبر، وتنكشف للقارئ أكثر من الشّخصيّة الحاضرة في مسرحية بكيت فيرسم لنا الشّاعر معالم دوره من خلال التّعابير الدّلاليّة (سيجيء يرفع ليلنا/ يضيؤنا بشتائه/ يسلَ ماضينا/ يقتل موتنا/يُصلح الدينَ الحديثَ/ يرفعُ الكلمات/ يرمّم الماضي/ يبيعَ الأنبياءَ جميعَهم/ يجرُّ وراءهُ أحلامَنا/ ينفثُ الدُخَّانَ في وجه الحقيقةِ). كلّ هذه التّعابير الدّلاليّة تشير إلى فعاليّة دور غودو المرجوة عند الشاعر، وإلى وعيه بالواقع العبثي، والخلل الحاصل، واللّا منطق العالمي. ولكنّ اعتذاره المكرّر على لسان الكاتب ينمّ عن تراجع هذه الفعالية ليفضح العجز المتمدّد في كلّ القصيدة، كما في الواقع. فتكرار كلمة (يعتذر) ثلاث مرّات، يؤكّد عجز غودو المنتَظَر من منتظِرين عاجزين في واقع عاجز.
يلفّ القصيدة عجز يعبّر عن منتهى الاستسلام للواقع، ويحكم الشّاعر عرض المشاهد الدّراميّة؛ مظهراً في كلّ مشهد المزيد من العجز، والوهن، والانتظار المفتوح على اللّا شيء. وإذ يفتتح المشهد الأوّل بالحركة الانتظاريّة المتلاشية والحزينة (لغتي المريضةُ بالمجاز/ دموعُ أمي/ حشرجاتُ أبي/ لفيفٌ من ضحايا الحرب/  أغنيةٌ تخاف رصاصَ حارسِ خوفِها)، يعرض لنا التّعطيل الانفعالي الحركي الإنساني. ما يشير إليه الخوف المعطّل الأساس للقدرة الإنسانيّة (أغنيةٌ تخاف رصاصَ حارسِ خوفِها). يبيّن لنا الشّاعر في القسم الأوّل من هذا المشهد واقعاً منغمساً في العجز المتجذّر في الواقع الإنساني حدّ التّلاشي.
تتكرّر في المشهد الأوّل عبارة (كلٌّ هنا ما زال ينتظرُ) قبل البدء بكشف دور غودو، لتأكيد اللّا حركة، واللّا إرادة. وإذ تتبع هذه العبارة قدوم غودو الّذي سيعتذر، يغلق باب الأمل أو ما تبقى من أمل. (سيجيء “غودو” ثمّ يعتذرُ.) وما يلبث الشّاعر أن يعزّز دور غودو تصاعديّاً (سيجيءُ يرفعُ ليلَنا عن ليلِنا
ويضيؤنا بشتائه/ سيسلُّ ماضينا المؤرِّقَ من قصائدنا/سيقتل موتَنا الممتدَ من أقصى النشيد) حتّى تواجهنا عبارة (يَربِتُ فوق رأس الحلم أيضًا/ ثم يعتذرُ.). وكأنّي بالشّاعر يظهر أقصى العجز الإنساني المتمثّل بالحلم، ولا يقوى غودو إلّا على أن يربِّت أو يعزّي، ثمّ يعتذر لأنّه عاجز.
يطلّ القسم الثّاني من المشهد الأوّل ويبدو لنا وكأنّه بمعزل عن المشهد، أي وكأنّ الحركة الأولى والثّانية مفكّكتان. إلّا أنّ الشّاعر ربط بينهما برابط خفيّ، اعتمد فيه تناصاً مع النّصّ القرآني الّذي يشير إلى بيع النّبي يوسف (قد باع “مالكٌ بنُ زعرَ” نبيَّ كنعان الجميل..)/ (سورة يوسف: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴿٢٠﴾). لقد ذكر الشّاعر سلطان القيسي عودة غودو ودوره، ثمّ ذكر بيع النّبي يوسف. فما الرّابط بين الصّورتين؟ وقبل الإجابة ينبغي التّدقيق بالمصطلحات الواردة في النّصّ:
(قد باع “مالكٌ بنُ زعرَ” نبيَّ كنعان الجميل..
ودارت الدنيا.
إذن دولٌ هي الأيام:
عاد كما تعود عقارب الساعات
قبّل رأس يوسفَ نادمًا
وحنى له رأسَ القصيدة تائبًا
فأجاره القمرُ...)
عاد بائع النّبيّ كما عقارب السّاعة، والعقارب وإن تقصّدنا إرجاعها إلى الوراء فلا شيء يتبدّل ويتغيّر. يؤكّد القول تعبير الكاتب (قبّل رأس يوسفَ نادمًا). نلمس العلاقة بين القسم الأوّل من المشهد الأوّل والقسم الثّاني الّتي تشير إلى الحالة الّتي يخضع لها الشّاعر فأسقط وعيه بالواقع، وهمّه الإنساني الذّاتي من خلال قصّة يوسف، ومعاناته جراء بيع إخوته له. لعل ذلك يذكّر بما ورد عند شعراء كثيرين، ومنهم الشّاعر الفلسطيني محمود درويش في قصيدة “أنا يوسف يا أبي”، إذ يتحدّث فيها عن معاناة الفلسطيني. ولا ريب في أنّ الشّاعر سلطان القيسي يحكي معاناة  الشّعب الفلسطيني إلّا أنّه يوسّع الفكرة أكثر ويذهب بها عميقاً لتطال الواقع الإنساني الأشمل، لأنّه استخدم مصطلح (نبي) الّذي له دلالة رؤيويّة، تطال الإنسانيّة كلّها.
 يظهر الحديث عن المعاناة الفلسطينيّة في الحوار القائم بين ثلاثة أشخاص في المشهد الثّالث، فيفتتح الشّاعر المشهد بدلالة مكانيّة يحدّد إطارها في الكافيتيريا أي المكان الّذي تجتمع فيه مختلف الفئات، ليشير إلى العجز الّذي طال الجميع. فيعرض الشّخص الأوّل فكره السّياسيّ وكيفيّة معالجته من خلال الإشارة إلى الاحتلال الخارجيّ، ليأخذ دور المعالج للمعضلة القائمة. (على باب المدينةِ تدفع الدبابةُ الأخرى..). وهي نظرة شاملة للاحتلال الّذي يخضع له الإنسان والّذي يعاني منه أشدّ معاناة. ثمّ يظهر الشّخص الثّاني لنتبيّن دوراً آخر، ألا وهو دور المفكّر الواعي للواقع المعيش، من حيث التّكاسل  والتّراخي في مواجهة هذا الاحتلال، أو من خلال الانجرار للتّفرقة والنّزاعات السّياسيّة. (أجاب صديقُه: هو الاحتلال الداخليُّ، سقوطُنا..). ثمّة وعي بأنّ المشكلة الأساس تكمن في الّذات، وإن كان الاحتلال الظّالم أمعن في ظلمه. لكنّ الخيانات الدّاخليّة، واللّصوصيّة أدّت إلى تفاقم هذا الظّلم وأحكمت سيطرة الاحتلال.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19526

العدد 19526

الأربعاء 24 جويلية 2024
العدد 19525

العدد 19525

الثلاثاء 23 جويلية 2024
العدد 19524

العدد 19524

الإثنين 22 جويلية 2024
العدد 19523

العدد 19523

الأحد 21 جويلية 2024