في كتابه الجديد “الجزائر العاصمة، أساطير حضرية 1542-1962”، يفتح الكاتب مهدي بوخالفة نافذة على صفحات تاريخ العاصمة الجزائرية، مستعرضا لحظات منسية من تاريخها التي ظلت بعيدا عن الأضواء، ومسلطا الضوء على شخصيات وأحداث شكلت جزءا لا يتجزأ من الهوية الوطنية، لكنها بقيت في طي النسيان أو غُيبت عن المناهج الدراسية. وفي هذا السياق، يدمج بوخالفة بين الحقيقة والخيال، مما يجعل من الكتاب مساحة تتداخل فيها الأسطورة مع الواقع لتشكل صورة غنية عن الجزائر عبر العصور.
أبرز ما يتناوله الكاتب في هذا العمل هو قصص من النضال الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، حيث يعيد بوخالفة إحياء ذكريات أولئك الذين شاركوا في الثورة التحريرية من خلال حكايات ربما لم يسمع بها الكثيرون. على سبيل المثال، يروي الكاتب قصة علي لابوانت، الذي كان قد سُجن في بداية الأمر، ثم التقى بالقائد الثوري ياسف سعدي الذي قرر اختباره بطريقة غير تقليدية. فقد منح سعدي لابوانت مسدسا فارغا وطلب منه قتل شرطي فرنسي. وبالرغم من غضب لابوانت عندما اكتشف الخدعة، إلا أن هذا الاختبار الصعب كان بمثابة دافع له للانضمام إلى صفوف الثورة بشكل حقيقي. هذه القصة تكشف عن إصرار لابوانت وعن الصعوبات التي واجهها الثوار في سبيل حرية وطنهم، كما تُبرز المنهجية التي كان يتبعها القادة في اختبار ولاء المجندين.
الكتاب لا يقتصر على الوقائع السياسية فقط، بل يمتد ليغطي حكايات وأساطير دخلت في نسيج الذاكرة الشعبية الجزائرية. حيث يستعرض الكاتب قصة سيدي بن دادة، الذي يُقال إنه تصدى لحملة الإمبراطور الإسباني شارلكان عام 1541 وفقا للروايات الشعبية، فقد دخل بن دادة البحر، وبدأ يضربه بعصاه، وكلما فعل ذلك غرقت إحدى سفن العدو. هذه الحكاية، على الرغم من طابعها الأسطوري، تُظهر كيف تمسك الجزائريون بمعتقداتهم الشعبية التي تربط بين القوى الروحية والدفاع عن الوطن.
وفي السياق ذاته، يستحضر بوخالفة حكاية سيدي بوقدور، الذي غضب من هجوم الإسبان على القصبة، فبدأ في تحطيم سفينة محملة بالأواني الفخارية، وكلما حطم إناء، غرقت إحدى السفن الإسبانية. مثل هذه القصص لا تعد مجرد خرافات، بل هي رموز لصمود الشعب الجزائري في مواجهة الغزاة.
من جانب آخر، يتناول بوخالفة أيضا شخصيات غير معروفة في التاريخ الجزائري، مثل “بوتان” الجاسوس الفرنسي الذي أُرسل إلى الجزائر في عام 1808 كان هدف بوتان جمع معلومات دقيقة عن المناطق الاستراتيجية في الجزائر، مثل بحر سيدي فرج، فقام برسم خرائط دقيقة لهذه المناطق. لكن بعد تعرضه لهجوم من الأسطول البريطاني أثناء عودته إلى فرنسا، قرر أكل الخرائط التي كان يحملها خوفا من أن تقع في أيدي البريطانيين. وبعد العودة إلى فرنسا، استعاد الخرائط من ذاكرته وأعاد رسمها، مما يوضح حجم التنافس بين القوى الاستعمارية لتأمين السيطرة على الجزائر. تلك الحكاية تمثل مثالا آخر على كيفية تنقل المعلومات وأثرها الكبير في الصراعات الكبرى.
وبالانتقال إلى الأحداث الأكثر حداثة، يعرض الكاتب مأساة فيضانات باب الواد التي اجتاحت المنطقة في 10 نوفمبر 2001، وهي كارثة بيئية تركت آثارا عميقة في الذاكرة الجزائرية. يروي بوخالفة تفاصيل هذه الفاجعة، مشيرا إلى الألم الذي عاشه أبناء باب الواد وجميع الجزائريين، خاصة مع الخسائر البشرية والمادية الفادحة. ورغم مرور السنوات على تلك الكارثة، فإن ذكرى الفيضانات لا تزال حية في القلوب، حيث باتت تمثل نقطة تحول في الوعي الشعبي بشأن إدارة الكوارث والقدرة على الصمود في وجه الأزمات الطبيعية.
الكاتب في كتابه يسلط الضوء أيضا، على كيفية تكامل الوقائع التاريخية مع الأساطير الشعبية، حيث يعرض لنا جوانب من تاريخ الجزائر لم تحظَ بكثير من الاهتمام في السرديات التقليدية. فالكتاب لا يقتصر على نقل الأحداث كما هي، بل يطرح أيضًا الأساطير التي تم تداولها عبر الأجيال، ويكشف عن الطريقة التي تم بها بناء الهوية الوطنية الجزائرية من خلال هذه الحكايات الشعبية.
الكاتب من خلال إصداره، يقدم رؤية جديدة لتاريخ العاصمة الجزائرية، حيث يدمج بين الأحداث التاريخية والذاكرة الشعبية، فالكتاب لا يقتصر على سرد الوقائع فقط، بل هو محاولة لفهم كيف أن الأساطير والحكايات الشعبية، التي توارثها الأجيال، شكلت هوية الشعب الجزائري وأثرت في مقاومته للاحتلال. من خلال قصص شخصيات مثل علي لابوانت وسيدي بن دادة إلى أسطورة سيدي بوقدور وحكايات الجاسوس بوتان، يعيد الكتاب الحياة لهذه الشخصيات والأحداث، ويقدم للقراء فرصة لاستكشاف تاريخ الجزائر من زاوية جديدة. هذه القصص، رغم كونها مشحونة بالعناصر الخيالية، تحمل في طياتها الحقيقة التاريخية التي تجسد الصمود والتحدي. في النهاية، يظهر الكتاب أن التاريخ ليس مجرد سرد جاف للأحداث، بل هو رواية حية تجسد قوة الذاكرة الجماعية وتأثيرها في الحفاظ على الهوية الوطنية عبر العصور.