التحريض اللفظـي يتحول يومًا بعـد يــوم إلى عنــف مادي دمـوي
يبدو أن سياسة القبضة الحديدية التي ظل يلوح بها وزير الداخلية الفرنسي، برينو روتايو، ضد الجزائر بدأت تحصد نتائج الكارثية، فالخطاب العنصري الذي اعتمده ضد الجزائريين في فرنسا والذين يعتبرون أكبر جالية، يتحول شيئا فشيئا إلى قنبلة ستقود البلاد إلى الهاوية. وأمام أولى الانعكاسات بدأ يستشعر الفرنسيون الخطر الذي يمثله هذا الوزير الذي فضل عقد تجمع شعبي لرئاسة الحزب الجمهوري على أن يتنقل إلى مسرح جريمة قتل بشعة راح ضحيتها مسلم.
تعيش فرنسا هذه الأيام على وقع أحداث كارثية تكشف الانزلاقات الخطيرة للخطاب السياسي اليميني المتطرف، الذي بدأ بمهاجمة الجزائر ثم المهاجرين، ثم كافة المسلمين في البلاد، بشكل بات يغذي مباشرة موجات العنف والكراهية ضد الجالية المسلمة والمهاجرين من أصول إفريقية وعربية وسلسلة من الاعتداءات العنصرية والدموية.
وكان صباح الجمعة، المنقضي، شاهدا على جريمة مروعة بمقتل الشاب المسلم أبو بكر سيسي داخل مسجد بمدينة لا غراند كومب، بعد طعنه حوالي 50 طعنة من قبل شخص آخر صور العملية بهاتفه مع التلفظ بعبارات مسيئة للدين الإسلامي.
وكما كان متوقعا، امتدت يد العنصريين إلى الجزائريين، حيث تعرضت امرأتان من أصول جزائرية، إلى اعتداء وعبارات سب وشتم مهينة في الطريق العام. وترسم هذه الأحداث معالم واقع أصبح فيه التحريض اللفظي يتحول يومًا بعد يوم إلى عنف مادي دموي، في ظل صمت رسمي مريب أو تبريرات مغلفة بمصطلحات أمنية فارغة.
وسبق لفرنسيين معتدلين أن حذروا من تهور واندفاع وزير الداخلية العنصري، معتبرين أن إصراره رفقة اليمين المتطرف على مهاجمة الجزائر والجزائريين صباح مساء، يرسخ بالضرورة صورة ذهنية معادية للمهاجرين، لأن الجالية الجزائرية تعد الأكبر والأكثر تأثيرا في فرنسا.
وبعدما سبق وأن شارك في تجمع مناهض للحجاب، نظمته شبكة ضغط صهيونية، شهر مارس الماضي، وصعد المنصة، ليصرخ «فليسقط الحجاب»، لم يكلف وزير الداخلية الحاقد، نفسه عناء التنقل إلى مسرح جريمة مروعة، بل فضل الاستمرار في عقد تجمعين في إطار التحضير لمؤتمر الحزب الجمهوري.
هذا الوزير الذي اتضح أنه مفلس سياسيا وعاجز عن بلورة فكرة سياسية واضحة عدا تكرار عبارات مهاجمة الجزائر في كل مرة، فضح مستواه الهزيل لدى استضافته ليلة الأحد، في قناة «بي أف أم تي في»، أين عجز عن تقديم إجابات مقنعة، عن سبب تجاهله الجريمة المروعة. بل وأدلى بتصريحات عزز الانحرافات السياسية العميقة، التي تعيشها الجمهورية الخامسة، حيث رفض روتايو الاعتراف بمصطلح «الإسلاموفوبيا»، معتبرا أن استعماله «محمّل بدلالات أيديولوجية»، مفضلا الحديث فقط عن «أعمال معادية للمسلمين». وهذا الإنكار المتعمد لوجود ظاهرة بنيوية مثبتة بالواقع للكراهية ضد المسلمين، يعكس جوهر الخطاب الرسمي الجديد والذي يهدف إلى تقليص خطورة الاعتداءات، وافراغها من بعدها السياسي والعرقي، وتحويلها إلى مجرد أعمال إجرامية فردية، منفصلة عن مناخ الكراهية الذي يُغذى على مدار الساعة.
علاوة على ذلك، تؤكد تصريحات روتايو خلال نقاشاته مع الصحافة الفرنسية، أن وزارة الداخلية تتجنب عمدًا استعمال مصطلح «الإسلاموفوبيا»، بحجة أن له علاقة بما يسمى الاسلام السياسي، وهي ذريعة سياسية تهدف أساسًا إلى تفريغ النقاش من محتواه الحقوقي، وتبرير الفشل في حماية المسلمين من الاعتداءات العنصرية المتزايدة.
وفي نفس السياق، لم يتردد زعيم حركة «فرنسا الأبية» جان لوك ميلينشون في تحميل روتايو وحكومته المسؤولية السياسية والأخلاقية عن المناخ السائد. خلال مظاهرة حاشدة في باريس ضد الإسلاموفوبيا، اتهم ميلينشون الوزير بزرع «مناخ معادٍ للإسلام»، مؤكدا أن هذا الخطاب السياسي هو ما يمهد الأرضية لارتكاب جرائم كراهية، مثل الجريمة البشعة داخل المسجد.
كذلك، يتفق العديد من الخبراء في الأمن المجتمعي أن استمرار سياسة إنكار الإسلاموفوبيا والتهوين من خطرها، من شأنه أن يقود فرنسا نحو صدامات اجتماعية خطيرة. وتحذيرات عميد المسجد الكبير في ليون، كمال قبطان، جاءت صريحة مؤكدا أن «حياة المسلمين في فرنسا باتت في خطر»، وهي شهادة ثقيلة تعكس حجم القلق داخل الجالية المسلمة.
وفي سياق متصل، تُظهِر الأرقام الرسمية تصاعدًا مقلقًا في الاعتداءات ضد المسلمين. ووفقا لتقرير فرنسي رسمي سنة 2024، تم تسجيل زيادة بنسبة 32% في الأعمال المعادية للمسلمين مقارنة بالسنة التي سبقتها، وهذا الارتفاع لا يمكن فصله عن الخطابات السياسية التحريضية التي أصبح يغلب عليها الطابع العنصري الصريح.
بالإضافة إلى ذلك، تُشير وقائع مقتل الشاب المسلم إلى أن الجاني، وهو فرنسي من أصول بوسنية يبلغ من العمر 20 سنة، نفذ عمليته بدم بارد، طاعنًا الضحية عدة مرات داخل قاعة الصلاة وتصوير الجريمة بنفسه، قبل أن يلوذ بالفرار، ويعكس هذا نزعة إجرامية مؤدلجة وليس مجرد «خلاف فردي»، كما تحاول بعض وسائل الإعلام الموالية للتطرف تبريره.
كذلك، حادثة الاعتداء اللفظي والجسدي على امرأتين من أصول جزائرية تُظهر أن الكراهية العنصرية لا تقتصر على الأفراد المنعزلين، بل أصبحت ظاهرة اجتماعية مقلقة، تتم داخل الفضاء العمومي، وعلى مرأى ومسمع الجميع، دون خوف أو رادع قانوني، وهو ما يُبرز فشل سياسات الحكومة الحالية في احتواء خطاب الكراهية.
وفي سياق متصل، يتخوف محللون من أن إصرار الحكومة الفرنسية، وخاصة وزير الداخلية، على تبييض صورة الخطاب اليميني المتطرف، ومحاولة تقديم نفسه كخطاب «أمني مسؤول»، سيسهم أكثر في مفاقمة الأزمة المجتمعية، ودفع فرنسا نحو سيناريوهات صدام مفتوحة قد تكون كارثية على السلم الداخلي.
ويقر الفرنسيون المعتدلون أن ما تعيشه فرنسا اليوم ليس مجرد أحداث معزولة، بل هو نتاج مناخ سياسي متأزم تغذيه سياسات شعبوية متطرفة معروفة المصدر، تروج بأن المسلم يشكل تهديدًا، ولا ترى في المهاجر إلا عبئًا لتحقيق أهداف انتخابية. ومع تزايد موجات الاعتداءات العنصرية، وغياب خطاب رسمي حازم في إدانتها، تصبح فرنسا مهددة أكثر من أي وقت بنزاعات أهلية داخلية واليمين المتطرف، الذي يقوده وزراء كبرونو روتايو، يتحمل القسط الأوفر من هذه المسؤولية الخطيرة.