يا صاحِبِي، أَطالَ اللّٰهُ بقاءَك، وحَفِظَكَ من سُوءِ المَسالكِ ومَزالِقِ المَهالِكِ، اِعلَم أَنَّ الحَديثَ عن الجَوائزِ الأدبيَّةِ فِي العالَمِ العَربِيِّ لَهُوَ مِمَّا يُؤرِّقُ الفُؤادَ ويُحَرِّكُ الدَّمعَ من مُقلَتَيه؛ فإنَّهُ قد صارَ لا سَبِيلَ إلى أن تُقرَأَ أعمالُ الكُتَّابِ، أو تُعرَفَ أسماؤُهُم، أو يُذكَرُوا فِي النَّوادِي والمَجالِس، إلّا إذَا فازُوا بِجائزةٍ ما..! وإنَّما الجائزةُ - يا رَعاكَ اللّٰهُ- قَد غَدَت خاتَمَ السُّلطانِ الذي لا تُزَوَّجُ البِكرُ الأدَبِيَّةُ بِغَيرِهِ، ولا يُؤبَهُ لِمَولُودِ الإبداعِ ما لَم يُلَقَّط بِـه..!
فإذَا نَظَرتَ في صَفائِحِ الجَوائزِ ومُفَكَّكاتِها (Award Criteria)، ألْفَيتَها تَركَبُ مَراكِبَ الأيديولوجيا، وتَسِيرُ فِي خَطِّ مَن يُخَطِّطُ ويَرسُم، لا فِي خَطِّ مَن يُبدِع وَيُنتِج..! أمَّا النُّصُوصُ الَّتي تَرفَعُ لِواءَ قَضايا التَّحَرُّرِ العادِلَةِ (Just Liberation Causes)، وتَدعُو إلى نُصرةِ المُستَضعَفِين فتُستَبعَدُ وتُهمَّشُ وتُرمَى فِي جُبِّ النِّسيان. وأمَّا النُّصُوصُ الَّتي تَفضَحُ العُملاءَ أو تُعَرِّي الحَقَائق فإنَّهَا تُقصَى مِن طَرَفٍ خَفِيٍّ، ويُقالُ لِصاحِبِها: “لَكَ اللَّيلُ ولَنا النَّهار!”. وأمَّا النُّصُوصُ الَّتي تَحطِمُ الأخلاقَ وتُسَوِّغُ ما لا تُجِيزُهُ الأعرافُ فإنَّهَا تُزَفُّ إلى المَحافِلِ الأدَبِيَّةِ زَفًّا، ويُفرَشُ لها السّجَّادُ القُرمُزِيّ.
ويا للعَجَبِ! لقد آلَ الأمرُ إلى أن صارَ هَدمُ التاريخِ العربيِّ وتَشويهُ المَرجِعِيَّاتِ الإسلاميَّةِ صَكَّ الرِّضا وتَأشِيرَةَ العُبورِ إلى نَيلِ الجَوائِزِ “المَرمُوقَةِ” (Prestigious Prizes). أمَّا مَن كَتَبَ فِي الدَّعوَةِ إلى العِلمانِيَّة (Secularism)، وإلى إسلامٍ مُسالِـمٍ “كْيُوت “ (Cute Islam)، يَرضَى بِمَسالِخِ إخوانِهِ في فلسطين ولا يَرِفُّ لهُ جَفنٌ، فقد ضَمِنَ مَكانَهُ وصارَ يَتَقَلَّبُ على الأرائِكِ ويَتَلَوَّى تحت الأضواءِ ويَمسَحُ عَرَقَ الذُّلِّ بِمِندِيلِ الشُّهرَة..! وقد تَرَى مَن يُقَدِّمُ نَصًّا خائِرًا ضامِرًا، خَالِيًا من البَيانِ السَّاطِعِ أو الخَيَالِ الرَّاقي، فإذَا به يَقتَنِصُ الجَائزةَ كَأنَّهُ أَلبرتو مانغويل (Alberto Manguel) أو نَجيب مَحفوظ..!
ولك أن تَعلَمَ - يا صاحِبَ القَلَم والمِداد - أنَّ تاجَ الأدَبِ اليَومَ لا يُوضَعُ - في أحايِينَ كَثيرَةٍ - إلا على رُؤوسِ مَن دَفَع أو رَكَع، ولا يُعطَى لِمَن خَطَّ القَولَ بِمِدادِ الصِّدقِ والإباء. فَمَن ساحَ في بُقعَةِ الجَوائزِ الأدَبِيّةِ، ولَطَّخَ مِدادَهُ بِما تُريدُهُ السُّلَطَةُ الثقافيةُ (Cultural Hegemony)، حُمِلَ على الأكتافِ، وأُضِيئَت لَهُ السُّرُجُ، وقُرِئَت كُتُبُهُ في كُلِّ نادٍ ومَجمَع. أمَّا مَن صَدَعَ بِالحَقِّ، وجَهَرَ بِالكلمةِ الخالِدةِ، وعَرَّى زَيفَ المُستَبِدِّين وخَوَنةِ الأقلامِ والشُّعوب، فَقَد أُلبِسَ عارَ النِّسيان، وَوُسِمَ في مَحافِلِهِم بِوَسمِ “المُتَطرِّف” أو “المُشَوِّش”، وشُهِرَ في وَجهِهِ سَيفُ الإقصاءِ والتَّهميش.
فَتَاللهِ، ما تَغَيَّرتِ الأحوالُ مُنذُ سُوقِ عُكاظ، إلا أنَّ بَعضَ القَصائِدَ اليومَ تُباعُ لأصحابِ الرِّشاءِ الأعظم، والشُّعَراءُ إنَّما هُم إمَّا مأجُورونَ أو مُهدِرُون. أمَا رَأيتَ كيف يُكَرَّمُ مَن دَعَا إلى التَّفريطِ بِالتُّراثِ، ومَن رَوَّجَ للمُساوَمةِ على قضايا الأُمَّـة؟ وكيف يُلَقَّبُ بـ«الحَدَاثِـيّ العَظيمِ” مَن لَعَنَ تاريخَهُ ودِينَهُ، وَطأطأَ للمُحتَلِّ طَوعًا ورِضًى؟
فإن كُنتَ تَطلُبُ الأوْسِمةَ في هذا الزَّمان فَسِرْ بِالسُّكوت، واتـبَـع القَطيع، وألْـقِ القَلَمَ إلا على ما يُرضي سادةَ الجَائزةِ. وإن كُنتَ تَبتَغي الخُلُودَ الحَقَّ فَاصبِر على الجَلْد، واحمِل الكلمةَ الحَقَّ ولَو كانت شَوكةً في حَلقِ الكارِهِين.
يَا صاحِبَ الكَلِمةِ الصَّادقةِ، إنّ الطريقَ إلى الجَوائزِ مَرصوفٌ بِالمُداهَنةِ، وإنّ الطريقَ إلى الخُلودِ مَحفُوفٌ بالمِحَنِ والابتلاء. فَاختَر لنفسك: أتَصنَعُ مَجدًا من وَرق وتاجًا من غُبار، أَم تَصنَعُ مَجدًا يُصقَلُ في نارِ البَلاءِ حتى يَصيرَ نُورًا في الدَّهرِ لا تُطفِئُهُ رِيحُ المُساوَمات؟
إنَّ مَعارِكَ اليَومِ لَيسَت مَعارِكَ أقلامٍ ومَدارسِ أدَبٍ فَحَسب، بل هي مَعاركُ هُـوِيَّـةٍ (Identity)، وقِـيَـمٍ (Moral Values)، ومُستَقبَلِ أُمَّـةٍ تَتَقاذَفُها مَوجاتُ التَّغريبِ والتَّطبيعِ والتَّدجِينِ الفِكريّ..!
وفي ما قَلَّ وَدَلَّ أقُولُ إنَّ الأدَبَ الصَّادِقَ شَجَرةٌ ضاربةٌ بِجُذورِها في قَرارِ الأرض، سامِقةٌ بِأغصانِها نَحوَ أنوارِ السَّماء، لا تَهُزُّها رِيحُ السِّياسة، ولا تَقتَلِعُها مَطامِعُ الجَوائز. وأمَّا أدَبُ المُداجَاةِ والمُراءَاةِ فهو زَهرٌ لا عِرقَ له - وإن سَرَّ النَّاظِرينَ حِينًا - وَمَصِيرُه إلى الذُّبولِ والنِّسيان. فَالْـزَم الصِّدقَ - وإن أحرَقَتكَ لَظاهُ - وتَمَسَّك بِالحَقِّ وإن خَذَلَكَ أنصارُه، واذكُر أنَّ مَجدَ الأدَبِ لا يُبنَى بزُخرُفِ الأوْسمةِ ولا بزِينةِ الحَفلاتِ، بَل إنَّهُ يُشَيَّدُ بِالصَّبرِ على المَشاقّ، والمُضِيِّ على طريقِ الصِّدقِ وإن قلَّ سالِكُوه. “مَن يَكتُبُ للجَوائز مات أدَبُه، ومَن يَكتُبُ للحَقّ خُلِّد ذِكرُه.” واللهُ أعلَمُ، وإلَيه المَرجعُ والمَآب.
^ مترجم – مدقق لغوي – مهتم بالشأن الثقافي