قراءة في ديوان أنسام الليلك للشّاعر رابح بلطرش

بـين منطق البـوح وأوجــاع الـــذّات

قراءة: أ - بولعرابي فتيحة

ذات مساء غائم والسماء تعلن أسرارها للأرض، كان بين يدي  ديوان الشاعر رابح بلطرش “الموسوم بأنسام الليلك”. كانت لي معه وعلى عجل هذه القراءة غير المتأنية، لأنني سأعود اليه ربما ثانية في زحمة من الانشغالات واستهلالا استشهد بما قـالــــه فوزي عيسى: “نحاول قراءة هذه النصوص واستنطاقها انطلاقا من قناعتنا بأهمية الدخول إلى النص من بوابة اللغة، واستئناسا بإنجازات العلوم اللسانية الحديثة....غير غافلين عن الأبعاد التصويرية والتخييلية والجمالية المكونة للنص (1).
وكالعادة أول ما استوقفني العنوان، الذي تكمن أهميته فيما يثيره من تساؤلات لا نلقى لها إجابة إلا مع نهاية العمل (2).
وربما يجهد الكاتب نفسه  في اختيار عنوان يلائم مضمون كتابه لاعتبارات فنية وجمالية ونفسية وحتى تجارية (3).
ويبحث كثيرا عن المفردات الملائمة ليكوّن منها عنوانا جذابا، ومثيرا لفضول القارئ مستفزا له ليطلع على ما يخفيه، وينبش في محتوى المؤلف. ويذكر بسام قطوس في كتابه سيمياء العنوان أنه (يعد ُّعتبةً في حد ذاتها كما هو مفتاح لولوج النص الأدبي وكشف أغواره ومجاهله ودلالاته العميقة، فهو نص مختصر) (4).
وإذا رجعنا إلى العنوان، لوجدناه مركبا من اسمين ربطت بينهما علاقة الاضافة المعنوية، فالأنسام هي جمع نسَم، والتي تعني الروح بما تحمله من دلالة الشفافية والفيض لأنها غير النفس التي تنزع الى المادية بانسجامها مع الجسد كأحد مقابلاتها، والليلك من أقدم وأقوى الشجيرات المزهرة، اتصفت أزهارها بأنها حساسة ورقيقة، تحصل على أكبر قدر من الاعجاب والاهتمام، وجودها يرمز الى دفء الربيع وتجدد الحياة.
هذا الربط بين الروح وزهرة الليلك، يجعلنا نبحث عن السر الذي دفع الشاعر الى اختيار هذا العنوان بالذات، وعن الرمزية التي يختفي وراءها المعنى الحقيقي.
تراه يريد أن يقول مثلا أننا عندما نهدي وردة أو زهرة بحب، فإننا نكون قد حملناها جزءا من ذواتنا وأرواحنا؟
أم تراه يقول إن الحب بعيد عن عتمة المادة، وهو يشف بنا كشفاف الروح، وكنسائم الليلك؟
أم أن العنوان يعكس بوحــا في ثنايا الديوان، الذي حمل به الخطاب الشعري عنده؟
وما السر في رمزية صورة المرأة باللباس التقليدي النايلي على الغلاف؟ فمن خلال نظرتها، تكاد الصورة تنطق بلسان روحها لتقول للشاعر أنا وجعك الأبدي...أنا قضيتك...أنا قصتك الوحيدة...وما يؤكد هذا نسبة القصائد في الديوان التي انبنت وارتكزت على ثنائية الرجل والمرأة، وهو بعد ظاهر لأدنى تأمل وما تفرزه الدلالات بعد التلقي، فهو يبث حواء أوجاعه ويقاسمها أحزانه ويشاركها حيرته وآماله.
يستهل ديوانه بتقديم يقول فيه:
كيف لي أن أقول أحبك ولنا
...كل هذا الدمار (5).
فاسحا المجال للقارئ لاستنباط قراءاته بحرية تامة، من خلال ملء الفراغ والبياض، فالمعنى السطحي هنا ينم عن حيرة الشاعر؛ حيرة المسلوب من حريته ازاء تفكك المعنى القومي، بانهيار النظم العربية بمسميات شتى، وزوال العامل الأمني تحت وطأة انهيار الانسان واستحالته الى آلة للقتل والدمار والخراب، إن كان قد بقي مكان للحب في زمن اغتيلت فيه كل القيم الانسانية واستبيحت كل المحرمات وتبلدت المشاعر.
أما المعنى العميق فيكشف عن مقابلة وجمع بين الأنا والاخر (لي، لنا) مفارقة بين الحب والدمار، وهو المتسائل هل يكون الحب متاحا في زمن غلب فيه الأسى على الذات الانسانية، وقد وظف هذه المفارقة لتغذية معاني الحيرة في ذاته وترجمتها وايصالها للمتلقي و أظنه تمكن من ايصالها.
وقد وقع الإختيار على ثلاث قصائد لتمايزها وشحنتها الدلالية والمعنوية والأسلوبية.
1 - لا اللّفظ يسعف:
لا اللفظ يسعف، ان أردت كلاما
عبثا أحاول والهوى يتنامى
إن قلت يوما أستجير بوحدتي
يأتي خيالك هاهنا حواما (6)
 في صيغة النفي الذي يبتغى من خلاله التوكيد يعترف الشاعر بأن لا الألفاظ ولا المفردات عادت تسعفه، ليعبّر عن مكنوناته تجاه المحبوبة، في ظل سيطرة خيالها على نفسه، فهي تتملكه وتتلبس روحه وخياله كجنية تسيطر عليه كحورية، ما عاد الكلام يجدي نفعا فنبرة الاستسلام في الخطاب واضحة، تستشف من الصياغة والمفردات المختارة في حوار الذات والاعتراف الصريح.
اللغة المستعملة بسيطة جاءت في أسلوب مباشر افتقد للتصوير الفني، وربما عاد هذا الى عفوية البوح وصدق المشاعر أو الى ذلك الاحساس الذي تملك الشاعر في آخر المطاف بأنه لا مناص من هذه السيطرة الممارسة في حقه ووجدانه فخبا عنده، فهو يحاول عبثا وهذا ما يحد من أفق انتظار القارئ، ولا يثير فيه تلك الرغبة في الوصول الى الدلالات والمعاني التي يرمي اليها الشاعر ، فهي واضحة منذ البدء والأمر محسوم لا يترك متسعا للسؤال ولا للحيرة ولا للفضول لديه.
2 - لأجلك لا تهم خسائري:
ها قد همست  بما يجول في خاطري
وفضحت كل مواجعي وسرائري
ماذا هنالك، فابتسم لي مرة  
ماذا جرى، لا تبتئس، يا شاعري
هوّن عليك فما تكشف صدفة
والله لم أسمع، رأيت بناظري
مثل النساء فضولهن طبيعة
ولمحت أشياء بحدس مشاعري
هون عليك فما يهمك إن أنا
كنت الرضية دائما بالآخر
فأنا أريحك، لا يهمك ما مضى
وأحب دوما أن تكون بحاضري
وأنا أحبك، ماضيا أو حاضرا
فارسم بحبرك في بياض دفاتري
لا تبتئس من غيرتي يا عاشقي
فأنا لأجلك لا تهم خسائري (7)
يواصل الشاعر نظمه في ثنائية (الرجل والمرأة)، لكن هذه المرة من منظور وموقع مغاير، بعد أن تحدث عما يختلج بفكره في القصيدة الأولى - ها هو - الآن يتوحّد مع ذات الحبيبة ليعبّر بلسانها مخاطبا ذاته، وفي هذا الأسلوب تنويع واثراء، فهي تصرح: لأجله لا تهم كل معاناتها وخسائرها مهما كانت، وهي تدعوه إلى أن يكون عاشقا لها، ساكنا بماضيها وحاضرها دائما، ولعلها كانت منذ البدء رغبته وآماله، فكأنه يصور لنا مشهدا لحوار شخصين،هي تهمس وتطرح أسئلة وتريد ابتسامة منه
ها قد همست بما يجول بخاطري
وفضحت كل مواجعي وسرائري
فاضحة أسرارها كاشفة عن مواجعها في حضرته تريد رضاه، لكنها لا تتخلى عن فضول النساء فهو طبع متأصل فيها، لتلمح أشياء بحدس مشاعرها وهو تركيب ظريف لطيف زاد في رونق العبارة وقوة الفكرة والمعنى؛ فقد استخدم الاستعارة في عبارة لتلمح أشياء بحدس مشاعرها، فهو يشبه المشاعر بالعين التي ترى وقد خلق هذا صورة فنية جميلة جعلت القارئ يقف عندها ليعمل ذهنه ويصل الى المعنى المقصود.
وما تلبث ان تهون عليه الأمر في ظل ذهوله بأنها ترضى به دائما وهو مبلغ حلمه ومنتهاه، هي تعشقه ماضيا وحاضرا، تفسح له المجال ليرسم بحبره في بياض دفاترها، ليختم القصيدة بدعوتها له إلى عدم التضايق من غيرتها فهي لأجله لا تهمها الخسائر، وقد وفق الشاعر في تصوير هذه اللحظة الحوارية المسروقة من الزمن بين الذات ومعشوقتها باستعمال تقنية الحوار الداخلي تكثر فيها الاسئلة لتحيل على نهاية مفتوحة، لا تحاول الذات أن تميل فيها لرغباتها وما تتمناه وتحلم به، فالشاعر يصور المحبوبة وهي تقول أنها لأجله مستعدة لتحمل كل الخسائر كما سلف أن قلنا، وربما كان هذا منتهى شغفه وأمله وطموحه ورغبته، أما من ناحية البناء فقد اتكأ على الكثير من المتضادات والمفردات المتناقضة لغاية في نفسه.
يقول همست بما يجول في خاطري ثم يردف ببيت آخر بعده وفضحت كل مواجعي وسرائري، فالمعروف أن الهمس يكون عندما يكون المتحدث في حالة نفسية ثابتة مرتاحة، فهو يتكلم بهدوء، أما استعمال عبارة فضحت كل مواجعي وسرائري فهي تصعد من الانفعال، وكأننا أمام مشهد درامي تبكي فيه الحبيبة وتقص مواجعها وأحزانها التي ألمّت بها جراء هذا الحب الجارف.
الصياغة لهذا البيت فيها نوع من التناقض بين الهمس والانفعال الحاد، لكنه تناقض لم يخل بالمعنى العام للقصيدة التي كانت ماتعة بأسلوب مغاير وجميل.
3 - أوراق:
أهرب أوراقي، وأخفي حقائبي
فنحن انحنينا، كي تمر العواصف
فكم من سهام يا صديقي كتمتها
أمثل دور - الصبر - والقلب نازف
وكم من حروف يا صديقي كتبتها
أوافقها حينا وحينا أخالف
وكم من قصيد بالسديم، وضعته
به بعض روحي، والبقايا عواطف
وكم من بريد لا الحمام أراده
كأن به عطر الرسائل، خائف
فشكرا صديقي بالوفاء ذكرتني
وشكرا جزيلا فالحياة مواقف
وإن أتعبتني بالقوافي وهجرها
فإني - برغم الهجر - يا عمرو - واقف (8)
ربما احتوت هذه الأوراق على أسرار الشاعر وهواجسه وأحلامه
وآماله، فهو يهربها ويخفي حقائبه وينحني كي تمر العواصف بسلام.
المعنى هنا بعيد المنال هو في ذات الشاعر والسبب الحقيقي لسلوكه هذا يعتبر سرا لا يعرفه الا هو، هو لا يفصح عن نفسه...ربما كانت مرارة الأوجاع، أو ما تبقى من أمل، أو محاولة للتشبث والعيش للفكر والشعر؟
حيث يواصل بوحه ويدلي ببعض ما خفي، هو يعدد سهاما اخترقت روحه رأى أن الحكمة  في كتمانها...يحاول الصبر أو لنقل يمثل دور الصبر بحسب تعبيره، قلبه نازف من الأسى والألم، لا مهرب له إلا الكتابة حتى إن اختلف مع حروفه حينا أو وافقها أحيانا.
وكم من حروف يا صديقي كتبتها
أوافقها حينا وحينا أخالف.
هو يرسم للوفاء قصة في سمائه، ممتن لهذا الصديق الذي بالوفاء ذكره، فما كان منه الا أن شكره.
لينهي قصيدته برؤيته للحياة التي ربما كان لها معنى بمواقف معينة، يبث شكواه من هجر القوافي له وهو الطالب لها، يتجدد صموده يرفض الانكسار والتهاوي.
القصيدة ذاتية جاءت على نمط وصفي للمواجع والآهات التي يبوح بها الشاعر في ثناياها، طغى عليها استخدام الأفعال مقارنة بالأسماء والفعل دليل الحركية، وربما كان هذا مقصودا من طرفه لإضفاء طابع الديناميكية في القصيدة لإيصال فكرتها.
نظرة عامة
  يرسم الشاعر رابح بلطرش قصيدته رسما، خصوصا تلك التي كانت موجهة لحواء، تطغى عليها الشاعرية والوجدانية، يكتبها بإحساس فائق يتكشف للمتلقي من خلال قراءة أولية، يعاتبها مرة  ويدعوها مرة أخرى إلى احتمال خبله والصبر عليه، يرنو الى حنانها كطفل صغير، يتساءل عن علاقته بأنثاه وهل يتفق معها في قصيدة عنوانها تساؤل مباشر وصريح هل نتفق؟....منبهر بذوقها ورقتها فيكتب قصيدته فنانة.
يكتب بوعي عن الوطن وجراحاته عن قضايا الحرية والانعتاق، عن الشهيد الطفل في قصيدة بعنوان (قالها وصعد) الذي لم يعش في هذه الحياة سعيدا، لم يقطف الأزهار...لم يركض لم يلعب...كانت له قضية أكبر من هذا كله...طفل فاق سنه الحقيقي وعن قضية وطنه فاختزلها في شهادة عند ربه..إنّه الرمز بكل بساطة.
يتخلل الديوان قصائد تبحث في قضايا الحياة ومظاهرها، فيتساءل في حيرة الفراشة، يتدبر ويتفكر في خلق الله وابداعه لهذا الكون الفسيح (قصيدة جل الاله علا)، يسبحه بعدد صنائعه وبدائعه، يحضر في هذه القصيدة تناص مع النص القرآني بوضوح تام مع عديد من السور القرآنية.
يكتب عن الحزن وعمن أجل فرحته الكبرى، عن الصدف، عن همس النايات في أسلوب تطغى عليه الوجدانية، يدور في فلك السياسة في تلميحات عابرة لقضايا.
تضمن الديوان قصائد متنوعة المواضيع، طغت عليه القصيدة العاطفية الموجهة للمرأة بالدرجة الأولى، وربما كان هذا بوحا مسترسلا لحواء وفق أسلوب سلس حمله الشاعر اعترافاته المتجدّدة وبوحه.
هوامـــــــــــــش
فوزي عيسى، النصوص الشعرية وآليات القراءة، دار المعرفة، الاسكندرية، د ط، 2006، ص 3.
جميل حمداوي، السيميوطيقا والعنونة، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد 25، العدد 3، 1997، ص 97.
بسام قطوس، سيمياء العنوان، وزارة اليقافة، عمان، الأردن، ط 1، 2001، ص 31.
فطيمة الزهرة بايزيد، التشكيل الجمالي في صورة الغلاف والعنوان(مقال)، مجلة حوليات الاداب واللغات، جامعة محمد بوضياف، المسيلة، عدد 4، 2014، ص 182.
• رابح بلطرش، أنسام الليلك، وزارة الثقافة، موفم للنشر، الجزائر، 2014، د ط، ص 5.
 المصدر نفسه، ص 7.
المصدر نفسه، ص 9.
المصدر نفسه، ص 43.



 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19631

العدد 19631

الأحد 24 نوفمبر 2024
العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024