إقتناص روح الشعر الحقيقية

قراءة في ديوان «الحياة في غلطتها» للشاعر زعيم نصار

الناقد ناصر القريشي

قصيدة النشر التصوير اللغوي والرؤى الباهرة

 استهل الشاعر زعيم نصار ديوانه بحكمة نبي الله سليمان (ع) التوراتية (إن النَسْخَة الشَبيهة لا تُخفي الحقيقي أبداً، بل إن الحقيقي هو الذي يُخفي واقع عدم وجود شيء حقيقي. إن النَسْخَة الشَبيهة هي حقيقية ونفس الحكمة استهل بها المُفكر الفرنسي جان بودريار، كتابه الذائع النُسَخ الشبيهة والمُحاكاة (والذي صدر في العام 1981).
وجَعَل من تلك العبارة، مدخلاً لشرح مفهومه عن الواقع الفائق والذي يدل على مغامرة بودريار في تيار ما بعد الحداثة وهذا ما سعى إليه الشاعر وهنيئاً له بهذه العتبة، واعتقد أنه المفتاح الرئيسي لمغاليق الديوان فكل ما موجود في الديوان هي صورة شبيهة لواقع عاشه الشاعر وتناسخ في ذهنه من خلال الرؤى والأفكار التي يؤمن بها، وربما في قادم الأيام سينسى العالم هذا الواقع، ويتذكر كلمات الشاعر التي تحدثت عنه والتي هي بدورها ستتناسخ من خلال التأويل إلى معاني وإيحاءات أخرى.

رحلة كلكامش وراء الغلطة

 التوزيع الملحمي للديوان يذكرنا برواية يوليسيس للكاتب جيمس جويس بفكره الحر واستخدامه لتيار الوعي واستنباطه للأحداث من خلال رحلة العودة ليوليسيس وجعلها واقعا افتراضيا مشابه لأحداث تجري في مدينة دبلن، لكن الشاعر هنا هو كلكامش الذي بنى حضارته وبحث عن الخلود وهو في رحلته عبر الحياة رغم غلطتها يحاول العودة إلى حضارة تجاوزت الزمن المحدود إلى الزمن المطلق ليعزف على قيثارته السومرية نشيد الحياة.
حينما نقرأ ديوان «الحياة في غلطتها» نجد أن الشاعر اعتمد على مغامرته في اللغة وعلى تقنيات قصيدة النثر فاستخدم المعنى الكامن في الكلمات لتجد القصيدة تصويراً لغوياً لما رصده حدسه الممزوج بطاقات تخيلية تعبر عن قلقه أمام الحياة ومعاناته هو والآخرين فيها.

الحياة وسيمفونية القدر

التوزيع الأوركسترالي للديون يطابق تماماً سمفونية القدر لبيتهوفن حيث تبدأ الإيقاعات لديه من موسيقى الدهشة التي تعزف الومضة أو لمحة البصر حيث الكلمات أسراب حمائم تدور حوله، فاللحظة تورق لديه رغم أنه يشعر بحصار الأسئلة والألم والوقت الذي خدعنا جميعا والحزن الذي لا يشعر به الآخرون تسرب إلى قلب الشاعر هو وحده يعرف كيف يخبئ النهار ورماده وغباره الثقيل تحت جناحيه وكيف يخبئ النهر دموعه بين ضفتيه فاتجه إلى القصيدة ليستل الحلم من أهداب المستحيل، قرأ الواقع وتنبأ بالمستقبل ورسم لنا هذا المشهد الملحمي مع إيقاع هائل يتناسب مع المشهد.
هذا الكتاب الشعري سيمفونية هائلة من الكلمات تعبر عن الحياة حيث يقودها الشاعر بهذا الكورال العظيم من المعاني والإيحاءات والتوافق الضمني بين جمال الشكل والمعنى وبين الخيال والواقع بين السرد التعبيري والصورة السريالية بخيال إبداعي خصب وفكر خلاق.
(على الأرجحِ السنوات التي مرّتْ في، كانت محشوّة بالأخطاء، لقد زهوتُ بها، ربـّما لأنها اختارتني شاهداً عن حروبٍ لن تنتهي، عن رحلةٍ لعابرين ذهبوا لمدينةٍ ضائعة، عن معارك دينية يمقتــُها الله، عن ثورات آمنت بالخرافة، عن حكايةٍ يختلطُ فيها الواقع والخيال، العقل والجنون، الصورة والحدث)
 
إحراق الكتب
 
بهذا المشهد الواسع لسنوات مرت في الطريقِ المعلّقة فوق الهاوية جعلته شاهداً عن حروبٍ لن تنتهي،ليمنحنا هذا التفاعل الشعوري بيننا وبينه والإحساس بأننا جزء من هذه الملحمة أو السيمفونية التي دونها فهو في ممراتٌ تدورُ به  ليرى مالا يرون وأشباه الرجال الذين حوله وضعوه تحت هذيان المسدس الحر الجاهز للقتل في أي لحظة لذا جعلوا من حياة المدينة أشبه بلافتةِ حربٍ غامضة.
الشاعر يترك أفكاره تتداعى، يسكنه هاجس التجريب وروح المغامرة فالنص لديه متحرك وديناميكي، حيث تتعدد مفاجآت الصور المتنوعة فيسألنا الشاعر الذي احرقت مكتبته......
أية حياة، أي فقدان هذا؟ متى ينزل المجانين من على ظهر السماء؟
يعثر على نفسه ويكتشف ذاته في القصيدة ومن خلالها نجد التناغم بين الشاعر وكلماته رغم الألم الذي سببته الحياة بغلطتها بما اكتشفته خطواته في تلك الأعماق، ليعيد اكتشاف الهم اليومي بلغته التي تغرقك في تفاصيل هذه الأخطاء والهموم.
(قف في الطريق أمام مدينة الشك فوق غيومها يرى نجوماً صارخة، بلا أمل يقف طويلاً أمام لهيبها، يملي أحلامه على نافذة في شوارع اللغة، يصاحبه أحد الحائرين، يشك في تأملاته، يشكُّ في الفرق بين حشائش المستنقع وحشائش الفضاء، يشكُّ في ضوء الزيتونة، يشكُّ في وعوده ليمام الظهيرة، يشكُّ في كلماتٍ عن غربان تتمشى في منازل القمر، يشكُّ في عربات تحمل تفاح الحرية. في مجرّةٍ ما يرى جثثاً مدفونة في الغيوم، قبورها عالية، وغابتها مقفلة، فمن أين يدخلها؟ ربما هناك طريق ثالثة. أين؟)
ولأن الشعر محور حياة الشاعر أصبحت اللغة ملكوته ومغامرته الكبرى والحبل السري الذي يربط ذاته الشاعرة بالقصيدة والتي هي سر كينونته من خلال الكلمات، لذا ترى القصيدة دومًا معه حتى وهو في القصيدة يبحر في نهر الإبداع أو يحلق في فضاء الخيال الشاسع لنتأمل هذا المقطع (في الطريق إلى حانة الضباب، إلى حانة الصحو، إلى فتيان القلعة، محو هناك، لا طريق في الميدان، لا طريق له، لا طريق لقيثارة ضائعة، سوى العناكب التي تمتص ضياء الكلام، لا طريق للشاطئ الذي يمسك نجمته، لا طريق لقمر في دمه، سيبقى في طريقه حتى يسقط التمثال الخفي).
تطيرُ بهِ أجنحةُ الندم، عين عليه أشباه الرجال. هم يعلمون ذلك. لذلك سيبني قرية في كأس الجنون ويرى أوتار قيثارته تعزف لفتيان يخرجون من نهر الغرّاف إلى الصحراء.

روح الشعر الحقيقية

 نجد أن المفردات تخرج من ضباب اللغة كأشياء منسية مهجورة إلى روح القصيدة لتولد مرة أخرى في المعنى الذي يبتغيه الشاعر كالفتية الذين يخرجون من النهر متجهين إلى الصحراء.
نرى حس الشاعر وحدسه وهواجس وجدانه وإنسانيته، وهي تتعاضد لإبداع  هذا النص الخلاق على شكل سمفونية من الكلمات تتآزر فيها عناصر الحياة بحلوها ومرها، بأغلاطها وخطواتها.
 نحن نبقى بحاجة إلى الحياة في أعقاب غلطتها رغم أنها جعلت الوقت منزوع الأحشاء ومنتهك الطريق.
يمكننا رصد الشكل والبناء والمضمون والرؤى لدى الشاعر من خلال العنوان والذي هو عتبة الديوان والنصوص وعناوينها بأجزائها الثلاثة والذي رتبها الشاعر متعمداً، العد العكسي لقد أثبتت نسخه الثلاث تنوّع الرؤى والأفكار لديه، هذا يدلل على ثقافته الموسوعية سواء كانت معرفية أو فلسفية أو لغوية مما كان له التأثير الواضح على تجربته الشعرية والوعي بقيمة ما يدونه من الشعر باشتغاله على بيئته وواقعه وجعل هذا الوعي يؤثر على الإنسانية، باعتبار أن الشاعر وواقعه جزء منها.
زعيم نصار بكتابه الشعري (الحياة في غلطتها) يخلّد نفسه ماسكاً العشبة، ومقتنصاً روح الشعر الحقيقية.

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد19527

العدد19527

الخميس 25 جويلية 2024
العدد 19526

العدد 19526

الأربعاء 24 جويلية 2024
العدد 19525

العدد 19525

الثلاثاء 23 جويلية 2024
العدد 19524

العدد 19524

الإثنين 22 جويلية 2024