تحـوّل إلى جـزء من حياة الناس وأفكارهــم وثقافتهــم

الذكـاء الاصطناعـي.. فرصـة للبشريـة أم تهديـد لها؟

أسامة إفراح

يشهد العالم المعاصر تحولا حضاريا عميقا لا يقتصر على تغيير أدوات الإنسان وطرق عمله فحسب، بل يمتد ليعيد تشكيل طبيعة وعيه وإدراكه للذات وللعالم. تجاوز الذكاء الاصطناعي كونه مجرد تقنية مساعدة، وبات قوة فاعلة تتغلغل في أعماق التجربة الإنسانية، مؤثرة على كيفية تفكيرنا ومعالجتنا للمعلومات، وعلى أنماط إبداعنا وتفاعلنا الاجتماعي. ولا يمثل هذا التطور مجرد ثورة تكنولوجية، بل يعيد طرح الأسئلة الجوهرية حول ماهية الإنسان ومكانته في عالم تتزايد فيه قدرات الآلة على محاكاة وتجاوز بعض القدرات البشرية.

أمام الواقع المتسارع الذي نعيشه اليوم، تبرز ضرورة إجراء مراجعة فكرية معمقة لفهم أبعاد هذا التأثير وتجلياته المختلفة. فالذكاء الاصطناعي لا يكتفي بتقديم حلول تقنية، بل يعيد صياغة منظومة القيم والمعاني التي تحكم السلوك الإنساني. ومن “خوارزميات التوصية” التي تشكل خياراتنا الثقافية، إلى أنظمة التعلم العميق التي تؤثر على قراراتنا المهنية والشخصية، نجد أنفسنا أمام واقع جديد يتطلب إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والتقنية، وبين الوعي الفردي والذكاء الجمعي.

تحولات بالجملة

أحدث الذكاء الاصطناعي تحولا جذريا في بنية الإدراك الإنساني، بتغيير طبيعة العلاقة بين الذاكرة والمعرفة. فبدلاً من الاعتماد على الذاكرة الداخلية لتخزين المعلومات واستدعائها، بات الإنسان يعتمد بشكل متزايد على ما يُسمى بـ«الذاكرة الخارجية الرقمية”. يؤثر ذلك على بنية التفكير نفسها، مع ظهور ما يسمى “تأثير غوغل” (ميل الناس إلى نسيان المعلومات التي يعتقدون أنه يمكنهم العثور عليها بسهولة عبر الإنترنت باستخدام محركات البحث).
من جهتها، تواجه الثقافة الإنسانية تحديا جوهريا مع ظهور أنظمة قادرة على إنتاج محتوى إبداعي يحاكي في جودته الإنتاج البشري. ويطرح هذا التطور تساؤلات عميقة حول طبيعة الإبداع وأصالته، وحول الدور الذي تلعبه الخوارزميات في تشكيل الذوق الجمالي والثقافي للمجتمعات.
ولما كانت نسبة كبيرة من المحتوى الرقمي المتداول تحتوي على عناصر مُولّدة أو معالجة بواسطة الذكاء الاصطناعي، فإن ذلك يؤثر على طبيعة الاستهلاك الثقافي. كما تسهم خوارزميات التوصية في منصات المحتوى الرقمي في خلق “فقاعات ثقافية” تعزل الأفراد داخل دوائر محدودة من الاهتمامات، ونتيجة لذلك ينحسر الحوار الثقافي ويتراجع الانفتاح على التنوع الفكري والإبداعي.
ولا يتعلق الأمر بقدرة الآلة على الإبداع فحسب، بل بمن يتحكم في توجيه هذا الإبداع وتشكيل معاييره، فالخوارزميات لا تنتج في فراغ، بل تعكس البيانات والقيم التي تُدرّب عليها، ما يجعل مسألة تنوع هذه البيانات وحياديتها أمرا بالغ الأهمية في تحديد طبيعة الوعي الثقافي الناتج.
ويُحدث الذكاء الاصطناعي تحولات عميقة في البنى الاجتماعية وأنماط السلوك الإنساني، معيدا تشكيل طبيعة العلاقات والتفاعلات البشرية. وعلى المستوى الاقتصادي والمهني، تعيد الأتمتة المدفوعة بالذكاء الاصطناعي تعريف سوق العمل بشكل جذري، حتى أن ملايين الوظائف التقليدية ستختفي في العقد القادم. كما يؤثر الذكاء الاصطناعي على مفهوم الخصوصية والهوية الشخصية، ما قد يؤدي إلى تراجع “المجال العام” أي المساحة الثقافية التي تتشكل فيها الآراء والمواقف الاجتماعية.

ملامح المستقبل القريب

يتجه المستقبل القريب نحو تعميق التكامل بين القدرات الإنسانية والاصطناعية، وهو ما سيؤدي إلى ظهور أشكال جديدة من الوعي والإدراك. فمع تطور تقنيات الواقع المعزز والواجهات العصبية الحاسوبية، كما في تجارب “نيورالينك” (التابعة لإيلون ماسك)، نتجه نحو مرحلة من “الذكاء المهجّن” الذي يجمع بين الحدس الإنساني والقوة الحاسوبية للآلة. هذا التطور قد يفتح آفاقاً جديدة للإبداع والاكتشاف، لكنه في الوقت نفسه يثير تساؤلات جوهرية حول الحدود بين الإنساني والاصطناعي.
وفي هذا الصدد، يتنبأ راي كورزويل، المهندس السابق في “غوغل”، بأن عام 2029 سيكون نقطة التحول الكبرى، مع وصول الذكاء الاصطناعي إلى مستوى “فوق بشري”، وهي مرحلة يتجاوز فيها الذكاء الاصطناعي قدرات البشر في معالجة البيانات واتخاذ القرارات. ويرى كورزويل في كتابه الأخير بأن العقود القادمة ستشهد “نقطة التفرد” التي ستؤدي إلى دمج كامل بين الذكاء البشري والاصطناعي، مما سيخلق شكلا جديدا من الوعي الهجين، متوقعا أن تبدأ أولى خطوات “الخلود البشري” في 2030، عبر اندماج البشر مع الآلات، على أن يصل هذا الاندماج ذروته بحلول 2045، مع تطور واجهات الدماغ-الآلة.
وهنا يبدو أن التحدي الأكبر لا يكمن في التكيف مع التقنيات الجديدة، بل في توجيهها بما يخدم القيم الإنسانية ويثري التجربة البشرية. فالذكاء الاصطناعي، رغم قدراته الهائلة، يبقى انعكاسا لما نغذيه به من بيانات وقيم وتوجهات، مما يضع على عاتقنا مسؤولية كبيرة في تشكيل مسار هذا التطور.

نحو أنماط تفكير متجانسة

قدمت دراسات حديثة دليلاً على أن الاعتماد المتزايد على أدوات مثل “تشات جيبيتي” ووسائل الإبداع الآلي، يغيّر طريقة تفكيرنا وقدرتنا على الإبداع.
من الأمثلة عن ذلك تجربة “معهد مساشوستس للتكنولوجيا”: أواخر عام 2024، قُسّم أكثر من خمسين طالبًا من جامعات محيطة ببوسطن إلى ثلاث مجموعات، وطلب منهم كتابة مقالات قصيرة حول موضوعات واسعة..كتب طلاب المجموعة الأولى مقالاتهم باستخدام عقولهم فقط، أما طلاب الثانية فاستعانوا بمحرك البحث غوغل للعثور على معلومات، فيما استخدم طلاب الثالثة “تشات جيبيتي” لإنتاج المقالات بالكامل.
أظهر قياس النشاط الكهربائي في الدماغ أثناء الكتابة، أن مجموعة “تشات جيبيتي” أظهرت مستويات نشاط دماغي أقل من المجموعتين الأخريين، وانخفاضًا كبيرًا في الإبداع والذاكرة العاملة. ورغم أن الأسئلة كانت مفتوحة وتهدف لإثارة تنوّع في الردود، إلا أن النتيجة كانت تجانسا واضحا في النصوص.
تعتبر هذه التجربة مثالا عمليا على ما يعرف بـ«التكلفة الإدراكية، كما أن تكرر نمط واحد في أفكار وعبارات جميع مستخدمي الذكاء الاصطناعي قد يقوّض التنوع الفردي والثقافي.
أما تجربة جامعة “كورنيل” فأجريت مع مجموعتين من المستخدمين: الأولى من الأمريكيين والثانية من الهنود. واستخدم بعضهم أداة إكمال تلقائي مدعومة بـ«تشات جيبيتي”، بينما كتب آخرون بدون مساعدة.
أظهرت النتائج تجانسا واضحا في نصوص المجموعة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، وابتعد مستخدمو الهند والولايات المتحدة عن التعبيرات الثقافية الأصلية نحو نمط غربي موحّد (مثل اختيارات الطعام والإجازات المفضلة).
وفي تجربة جامعة “سانتا كلارا” كُلف المشاركون بمهام إبداعية، واستخدمت المجموعة الأولى خوارزميات الذكاء الاصطناعي، في المقابل، استخدمت المجموعة الأخرى أدوات إبداعية تقليدية. وبالرغم من الأهداف المرجوة للأصالة، أظهرت مجموعة الذكاء الاصطناعي أفكارا أكثر تشابها وأقل تنوعا من المجموعة التقليدية.
من التجارب السابقة، يتضح تأثير الذكاء الاصطناعي المباشر على الدماغ والإدراك، وليس مجرد اختلاف الأسلوب فقط، كما أن الذكاء الاصطناعي لا يؤثر على الأداء أو الأسلوب فحسب، بل يُسهم في توحيد الثقافات نحو معايير غربية، وحتى في السياقات الإبداعية، فإن الذكاء الاصطناعي يقود إلى أفكار متماثلة، في حين توفر الأدوات التقليدية إبداعا أكثر تنوعا.
أكثر من ذلك، قد يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل معايير التعبير والتفكير الجمعي نحو ما هو وسطي وموحّد، ولا تؤثر أدوات الذكاء الاصطناعي فقط على المحتوى، بل على العملية العقلية والفكرية نفسها، وتخلق أنماطا موحّدة من التفكير.

صراع الإنسان والآلة

ضمن ندوة نظمت في إطار المؤتمر العالمي للفلسفي بروما، صيف العام الماضي، حيث عقدت مائدة مستديرة تناولت الذكاء الاصطناعي خارج المسألة الأخلاقية، قدم الدكتور محمد جديدي، أستاذ الفلسفة بجامعة قسنطينة، مداخلة عنوانها “ألا يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعي سانحة أخرى للبشرية؟”.
واقترح جديدي أن ننظر للذكاء الاصطناعي من زاوية مخالفة غير التي اعتاد الخطاب الفلسفي الأخلاقي تقديمها والترويج لها، بالتحالف مع توجهات خطابية منسجمة في ترديد خطاب الكارثة والاستثناء الإنساني والتفوق الأبدي للإنسان. إذ قد تتعدد مداخل الذكاء الاصطناعي فلسفيا من جهة أنطولوجية أو كوسمولوجية، وأخرى حضارية، وثالثة سوسيو ثقافية، ورابعة أنثربولوجية، وهكذا تتنوع المقاربات وتتباين، لتصب في النهاية في النظر والتحليل لظاهرة تكنولوجية علمية ميزت راهن الإنسان. وتساءل جديدي: لماذا لا ينظر للذكاء الاصطناعي كمنتج بشري مثل غيره من المنتجات الثقافية والعلمية والتكنولوجية، على أنه فرصة أخرى في تاريخ الإنسان، بدلا من اعتباره خطرا يهدد الإنسان ومصيره؟ ألا يكون الذكاء الاصطناعي بمثابة المرآة التي يتحدد معها لقاء الإنسان بالآلة في صورة متقدمة ومتجددة؟
وأشار جديدي إلى ضرورة التريث والتأني في إصدار أحكام بشأن استخدام الذكاء الاصطناعي، فقد علمنا التاريخ أن كل فكرة جديدة أو نظرية علمية أو تقنية مستجدة إلا وجوبهت في بداية أمرها بالنقد والاعتراض، بل والمنع أحيانا.
وفي ظل تباين المواقف حول الذكاء الاصطناعي، يقول جديدي، نجد أنفسنا أمام طرحين على الأقل: أحدهما متفائل بمستقبل البشرية بفضل تقدم الذكاء الاصطناعي، وآخر متشائم من هيمنة الآلة على الإنسان بفعل تخلي هذا الأخير عن جزء متزايد من إنسانيته لصالح الآلة. ويينما يشعر “ميغيل بيناساياغ” بالقلق من التحول الرقمي السريع للعالم الذي يلحق الضرر بأدمغتنا، يثق “جيل ديويك” في الإنسان لتحقيق أقصى استفادة من الأداة التي ابتكرها. وخلص جديدي إلى أن الهدف النهائي في هذا التقدم التقنوعلمي سيكون “البحث عن التحكم في التحكم”.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19836

العدد 19836

الأربعاء 30 جويلية 2025
العدد 19835

العدد 19835

الثلاثاء 29 جويلية 2025
العدد 19834

العدد 19834

الإثنين 28 جويلية 2025
العدد 19833

العدد 19833

الأحد 27 جويلية 2025