ثلاث منشآت تربوية حافظت على الإنتماء الإسلامي العربي الأمازيغي
تحدى العلامة الشيخ ابن باديس رحمه الله وشيوخ جمعية العلماء المسلمين ثلاثية الإستعمار والجهل والبدع التي سرت آنذاك في النسيج الاجتماعي الجزائري بمباركة من الإستعمار الفرنسي وأذياله، بذل الشيخ عمره من أجل العودة بهذا المجمتع العربي الإسلامي إلى نواته الصلبة والتي لخصها في جملة واحدة اتخذت آنذاك شعارا يعتز به كل جزائري وهو الجزائر وطننا والعربية لغتنا والاسلام ديننا، بعيدا عن كل محاولات التشويه وطمس معالم وهوية هذا الشعب العظيم.
شكلت المدارس الباديسية النواة الصلبة التي عمل الشيخ ابن باديس على تعميمها عبر القطر الوطني في ظلّ ضغوط رهيبة ومعارضة كبيرة من طرف المستعمر ومختلف الطرق التي تعمل على الترويج للخرافات والدجل والشعوذة آنذاك وإسنادها إلى الدين دون أي وجه حقّ.
كان لسوق أهراس في ذلك الوقت نصيب من هذه المدارس الباديسية، حوالي ثلاث مدارس على مستوى مدينة سوق أهراس مدرستين لازالتا ألى حد اليوم ماثلتين، ومدرسة أخرى بمدينة تاورة، في آخر لقاء مع السيد والي ولاية سوق أهراس نهاية الأسبوع أين أكد على ضرورة إعادة الإعتبار لهاته المدارس الدينية الإجتماعية والتي تعتبر معلما تاريخيا وإرثا ثقافيا ثمينا.
يذكر عمي محمود شيخ في العقد الثامن من عمره من ولاية سوق أهراس عن الظروف التي سبقت فتح هاته المدارس أين عاد بنا إلى السياقات التاريخية التي سبقت فتح هاته المدارس أين كان المجتمع الشرقي يعاني من طرقية قاتلة تقوم على الخرافات والدجل والشعوذة، أين تحكم العديد من رواد هاته المذاهب في مصير سكان الولاية بمباركة من المستعمر الفرنسي الذي كان يشجع آنذااك هاته الممارسات لأنه يعرف يقينا أنها باطلة لا تخدم هذا الشعب في أي جانب، بل تعمق جهله وانفصاله عن قيمه الدينية والاجتماعية والحضارية، مؤكدا أن الجهة الشرقية في العهد الاستعماري كانت تحت عين المراقبة بفعل التواجد القوي لجبهة التحرير الوطني على مستوى جبال الأوراس من سطيف خراطة عين مليلة خنشلة تبسة إلى غاية الشريط الحدودي، والذي تشكل سوق اهراس قاعدته الشرقية، وبالتالي كان هناك تضييقا كبيرا على أي تحرك في الاتجاه الإجتماعي أو السياسي أو حتى العسكري بما يخدم مصالح المجتمع خاصة إذا كان مخالفا للرغبة الاستعمارية آنذاك.
يقول تمّ فتح أول مدرسة باديسية بسوق اهراس بصورة سرية تقوم على تعليم القرآن الكريم، وفق برنامج محدّد يعمل على ترسيخ اللغة العربية، ثم تلتها مدرسة ثانية بتاورة بنفس المنهاج بحوالي ثلاث مدارس مشهورة حملت على عاتقها مسؤولية هذا الشعب الدينية واللغوية والحضارية والإجتماعية، تحارب في الاستعمار وسياسته الإدماجية الهمجية وتحارب في البدع والخرافات التي سرت في المجتمع السوقهراسي والجزائري بمباركة المستعمر، وتساعد الطبقات الكادحة والتي كانت تمثل السواد الأعظم من هذا الشعب.
أساليب تربوية رسخت للمعرفة وأنقذت أجيال
التربية عند ابن باديس هي التربية الإسلامية، التي تُعتبر الطريق السليم لإيجاد المجتمع الإسلامي، وإنقاذ الشعب من الذوبان في الحضارة الغربية المادية، وعليه فإن المصادر التي اعتمد عليهـــا الشيــخ عبد الحميد بن باديس في مسيرته التربوية، هي نفسها مصادر التربية الإسلامية: كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه و سلم ـ، وذلك مصداقاً لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ت»ركتُ فيكم شيئين، ما إن تمسكتم بهما، لا تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي».
هذا الى جانب تزويد الفرد بخلاصة التراث والحضارة السائدة في المجتمع في وقت وجيز، فإن فلسفة التربية تقدم له المقاييس والمعايير التي يختار على أساسها تلك المعارف والخبرات والتي تمثل التاريخ الاسلامي والتاريخ العربي والأمازيغي الجزائري.
استخدم الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، أساليب ووسائل متنوعة لإنجاح جهوده التربوية، استوحاها من مصادر الإسلام الأصيلة كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم، نذكر أهمها :
ـ التربية بالقدوة
القدوة هي الأسوة، فالتلميذ في المدرسة يحتاج إلى نموذج عملي وقدوة يراها في كل مربّ من مربيه، ليوقن ويتحقق بأن ما يُطلب منه من السلوك والأخلاق هو أمر واقعي يمكن ممارسته، فهو يأخذ بالتقليد والمحاكاة أكثر مما يأخذ بالنصح والإرشاد، وعليه، فإن إنجاح العملية التربوية يتوقف إلى حدّ كبير على وجود المربي، الذي يحقّق بسلوكه وممارساته التربوية، المثال الصادق لأهداف المنهج التربوي، المراد إقامته وتحقيقه.
الوعظ والتذكير لإنارة العقول وحثها على العلم
حقيقة التذكير عند ابن باديس أن تقول لغيرك قولاً يذكر به ما كان جاهلاً أو ناسيًا أو عنه غافلاً، وقد يقوم الفعل والسمت والهدى مقام القول، فيسمى تذكيرًا مجازًا وتوسعًا، وأما الوعظ والموعظة، فهو الكلام المليّن للقلب بما فيه من ترغيب وترهيب، فيحمل السامع - إذا اتعظ وقبل الوعـظ وأثّـر فيـــه - على فعـــل ما أمر به، وترك ما نهي عنه.
التربية بتفريغ الطاقة وملء الفراغ بما ينفع
وهو السبيل الأمثل لمحاربة الأفات الاجتماعية والمجون واللهو الذي يأتي من الفراغ القاتل، وبالتالي تهوى الأنفس الراحة وتركن الى الملذات دون الاعمال الناجحة التي تفيد النفس والعقل، فقد أدرك الإمام ابن باديس رحمه الله، الأهمية البالغة لعملية توجيه طاقة الشباب المخزنة، وتفريغها في ما يعود عليهم بالمصلحة لحمايتهم من الانحراف والشذوذ، فكان ينهى متعلّميه عن تبديد أوقاتهم وجهودهم فيما لا فائدة فيه، ويرشدهم إلى الترويح عن أنفسهم بما يطيب لهم من المباحات والمستحبات، كالسباحة، والخروج إلى الطبيعة، والاستمتاع في أحضانها، والتفكر في مبدعها.