الأدب الأمازيغي بمختلف لهجاته جزء لا يتجزأ من الأدب المغاربي، ومكون من مكونات الثقافة الجزائرية التي تتسم بالتنوع والتعدد، ولعل أهم ما يميز هذا الأدب هو غلبة الطابع الشفهي عليه.. ويحاول الشاعر والباحث عبد الرحمن عزوق، في هذا الحوار، التطرق إلى هذه النقاط وغيرها، معتمدا على قراءاته واحتكاكه مع المعاصرين من أدباء هذه الثقافة، مبرزا القراءات الاجتماعية والتاريخية والأدبية لما ينتجونه، مع إبراز محاولتهم التقرب قدر الإمكان من القارئ بهذه اللغة..
الشعب: في البداية، هناك من يفرق بين تسميتي “الأدب الأمازيغي”، و«كتابات منبثقة عن الأدب المغاربي”.. أيهما أصح؟
عبد الرحمن عزوق: بداية أشكرك الشكر الجزيل على هذه الفرصة التي أتيحت لي عن طريقك، خاصة أن عددا من هذه الأسئلة، كنت أنتظرها منذ عقود، كما أشكر مؤسستكم الموقرة، وكل القراء الكرام الذين سيقرأون هذا الحوار.
وللإجابة عن سؤالك، أقول إنه من المهم التأكيد على أن الأشياء الجوهرية التي تعلمتها الإنسانية عبر تجاربها الكبرى، هي أنها رأت في الأدب، الشفوي والمكتوب، صورة من صورها الإنسانية، وفترة من فترات تطورها، دون أن ننسى بقية الفنون بطبيعة الحال . ويبدو أن الإمتداد الحي، يوجد في قوة الأدب التأثيرية التي تتجاوز الحقبة التاريخية التي ظهر فيها ثم انتشر خارج الحيّز الجغرافي الذي ولد وترعرع فيه.
وجد الأدب الأمازيغي يوم وجدت هذه اللغة بلهجاتها المختلفة، ولا يصح، في نظري، أن نقول إنه مجرد كتابات منبثقة عن الأدب المغاربي، إلا إذا صح أن نقول إن الأدب الإيطالي منبثق عن أدب جنوب أوروبا، أو الأدب السويدي منبثق عن أدب أقصى شمال أوروبا، وطموح كتّاب الأمازيغية وقرائها، مثل بقية كتاب اللغات الأخرى وقرائها، هو طموح الإشباع الفكري لديهم والذين يرون في التغيير الاجتماعي صورة للمطالب الصحيحة من أجل أن يحيون في جميع حركات الواقع.
وعليه لا يمكن لهذا الأدب، المعبر الحقيقي عن الناطقين بالأمازيغية، أن يفسح المجال للتأويلات لكي تُبعده عن حظيرة المعاني الأساسية الخاصة بكل لغة.
إنني لا أدعو إلى أدب أمازيغي يختنق تحت ثقل إيديولوجي جامد؛ بل أدعو إلى استمرار تطوره الباعث على الالتزام الصحيح بمضامين تساير العصر ولا شيء يملأ انتظار قراء هذا الأدب غير الإنتاج الأدبي الذي يضم في جوانحه نسمات الحركة الإنسانية، مثل كتاب اللغات الأخرى، تماما، والذين ساهموا، ويساهمون، في تصوير مجتمعاتهم بسلبياتها وإيجابياتها، والذين استطاعوا أن يكتشفوا عظمة الإنسان وقواه المبدعة وسجلوا في نثرهم وشعرهم عذابات الإنسان وأشواقه وصراعاته.
ما تقييمكم للحركة الأدبية الأمازيغية في ظل التفاعلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تشهدها الجزائر حاليا؟
الحركة الأدبية الأمازيغية، اليوم، ملأى بوعي اجتماعي، وفعاليتها أكبر من تغذية نزعة ما؛ لأن أدب هذه الحركة وليد عصره، مثل بقية آداب اللغات الأخرى، وهو كان ولا يزال، يعكس مراحل التطور الاجتماعي والإنساني لوضع تاريخي محدد، وليس معنى هذا أنه يقف عند حدود التعبير عن عصره فقط؛ بل يعبر عن أمل لا يكف عن التوقف نحو التطور المتصل في تنبيه دائم، مثل بقية الفنون الأخرى.
والأدب الأمازيغي، حسب تجربتي الخاصة، في ظل التفاعلات المختلفة التي تشهدها بلادنا، قيمة اجتماعية، مثل بقية الآداب الأخرى، وتطور هذه القيمة يرتبط بحركة المجتمع وتفاعلاته المختلفة؛ حيث أصبح اللسان المعبر عن الناس والمجتمع، وتفسير أية حركة أدبية، يأتي تبعا لمعطيات تاريخية وتفاعلات مختلفة.
وكتاب الأمازيغية وشعراؤها، حسب تجربتي مع أدبهم، شعرا ونثرا، لا يكتفون بتصوير تقريري للواقع الاجتماعي والإنساني؛ بل إن إلهامهم الفني يحرك ما فيهم للاتحاد بحياة الآخرين رغم اختلاف درجات هذا الاتحاد.
وفي واقع الحال، أو الراهن كما جاء في السؤال، يمكن القول إن هناك ميلا أصيلا من جانب أي تجديد مختلف الجوانب، على اعتبار الأدب حقلا ممتازا لنشر الأفكار.
والتجديد، عند النقاد، يرى في المبدع جزءًا من المواطنية الاجتماعية، ولذلك لا بد أن يمتّ بصلة وُثقى بالحالة العصرية للمجتمع، ولا تنسي أن كل تجديد حالة تاريخية.
وتقييمي للحركة الأدبية الأمازيغية، باختصار شديد، أن التجديد في الأدب ينزع إلى إدخاله في مذهب يربط الظواهر الإنسانية بالعلاقات الاجتماعية تكيّف مع مقتضيات تجديدية تسيّرها الضرورات التاريخية، هذا رأيي الشخصي كقارئ بالدرجة الأولى.
هل تعتقد أن للأدب والرواية على وجه الخصوص، دور في اثراء الثقافة الأمازيغية؟
لا شك في ذلك، على رغم قلة كتاب الرواية باللغة الأمازيغية، وحتى كتاب الرواية باللغة العربية في الجزائر، طبعا قليلون، ولم تظهر الرواية المكتوبة باللغة العربية إلا في بداية السبعينيات من القرن الماضي وهي رواية “ريح الجنوب” رغم قدم اللغة العربية بالجزائر، والرواية باللغة الأمازيغية ظهرت في السنوات الأخيرة “أول الغيث قطرٌ ثم ينهمر” كما يقول الشاعر.
وقد اختار أغلب كتاب الرواية بالأمازيغية أسلوبا قصصيا شيقا مؤثرا، وتفادوا قدر المستطاع الأساليب الروائية المعقدة، بل عملوا على تبسيط رواياتهم بالأساليب الواضحة وجعلوها أكثر استجابة لفهم القارئ وتأثره بمضامينها وأحداثها وانشداده لقراءة الرواية، كما عملوا على ترتيب الأحداث في السياق بشكل سردي تتعاقب فيه وتترابط لتشكل صورة موسعة عن حياة كل شخصية على حدة، إذا تعددت الشخصيات.
كما أن أغلب كتاب الرواية الأمازيغية لم يندفعوا إلى الاستطرادات والدخول في التفاصيل الدقيقة، وإنما أخذوا من هذه الشخصيات أبرز ما رسمته من أعمال والمحافظة على الترابط بين العمل ومحتواه المبدئي والأخلاقي والنفسي.
وهذا التصميم الخاص يؤهلها لمخاطبة الجيل الجديد لجعله يندفع إلى متابعتها وقراءتها والاستفادة منها من الناحية الثقافية والمعنوية. أقول هذا بصفتي قارئا ومتابعا لجل ما يطبع، وليس كناقد.
ماذا تقول عن الشعر الأمازيغي؟
القصيدة الأمازيغية فن مصاحب للتطور الذي يوجده أي مجتمع لا يحذف الشاعر الأمازيغي اعتناءه بالنواحي الإنسانية؛ لأن صوت الإنسان له قدرة فعالة من الاعتناء به، وأن موضوعات الشعر الأمازيغي، جاءت من الإنسان وإليه، وأفكار الشعراء الأمازيغ، هي الالتزام الخاص بطريقة ووضعية خاصة من وضعيات التوصل المدرك لحركة التغيير بصفتها القاعدة الرئيسية لهذه الأفكار، دون أن ننسى إدراكهم الحاجة إلى الخيال الفني للوصول إلى مرتبة من مراتب الشعور بالجديد والرقي واستخدامهم الصورة المثلى للغة واستعمالهم الشكل النغمي الجميل في صياغاتهم.
وقد قلت هذا الكلام عندما تحدثت عن الأغنية السياسية المعاصرة عند لونيس آيت منقلات ذات يوم والذي يمثل هذا الشاعر الكبير حقبة بارزة منه، أي الشعر الأمازيغي، وهي فترة ازدهار القصيدة الأمازيغية، هذا باختصار شديد لأن هذا الموضوع يحتاج إلى كتاب ضخم.
لنعرّج الآن على مسألة التنوع الثقافي بالجزائر.. في رأيك، ما هي إيجابيات هذا التنوع وسلبياته؟
التنوع الثقافي، في أي بلد، ظاهرة صحية، وحتى في الدين، الإختلاف بين الفقهاء رحمة، فما بالك في الثقافة، التي هي في النهاية مجرد نتاج بشري، ولأن الثقافة، تُشغل وظيفة اجتماعية، وهذه الوظيفة تتعمق كلما إزداد وعي الوقائع الاجتماعية الناتجة عن الكفاح اليومي لكل مجتمع، فليس هناك ثقافة غير ملتزمة بحالة القوى المنتجة، وليس هناك ثقافة رفيعة تقوم على جهود مجموعة دون مجموعات أخرى. لابد أن يصبح هذا التنوع الثقافي جزءًا من القضية العامة لأي مجتمع وأن يحرص الجميع على إبراز الحرية الصحيحة للنشاط الثقافي.
الثقافة، في نظري، إنتاج محضّر من روح الحياة وإيقاف الموقف الحضاري، فهي إذن، تركيب تصويري وانطباعي ورمزي لتركيبتنا الاجتماعية.
وإذا قارنا تنوعنا الثقافي مع التنوع الثقافي الهندي، مثلاً، نجد أنفسنا عبارة عن قرية صغيرة، هل تعلمين أن في الهند ثلاثمائة مجتمع وثلاثمائة وخمسين دين وأربعمائة لغة، والهند كما تعلمين دولة نووية وتحترمها جميع الدول الشرقية والغربية، وهل أضر الهند هذا التنوع المذهل؟ هل هناك مقارنة بين التنوع عندنا وعندهم؟
ما هي المعيقات، أو ربما المشاكل، التي يمكن أن تعرقل عمل الفنان والأديب الأمازيغي؟
المعيقات التي تعترض الأديب الأمازيغي، لا تختلف كثيراً عن الأدباء الآخرين، خاصة كتاب اللغة العربية، وأول معيق هو البيروقراطية، ثم الناحية المادية؛ لأن طبع الكتب في وقتنا مسألة تجارية مثل المواد الغذائية والجمعيات الثقافية تعامل كما تعامل جمعيات محاربة الجراد أو تربية الخيل أو جمعية رجال النظافة مع احترام هؤلاء جميعاً.
وقد تزداد صعوبة نشر الكتاب الأمازيغي حدة، إذا عرفنا أصحاب دور النشر يخشون قلة إقبال القراء على الكتاب المكتوب بالأمازيغية، سواء بالحروف العربية أم اللاتينية.
ولكن هذه المشكلة مسألة وقت، إذ بمجرد أن يزداد عدد المتعلمين بهذه اللغة تقل حدة هذه المشكلة ويزول هذا المعيق أو على الأقل يضعف، هذا فيما يخص الكاتب، أما الفنان فهو أحسن حالاً، باعتبار الأغنية تعتمد على السماع، والإقبال على الأغنية أخذت حصة الأسد.
*هل يكفي الأمازيغية دسترتها، لكي تلعب دوراً كبيراً كلغة تواصل وأدب، أم أنها تحتاج إلى أشياء أخرى؟
@@أشهر لغة في العالم ليس لها دستور، وأقصد الانكليزية، فهذه اللغة كانت لهجة سكان لندن ثم توسعت فأصبحت لغة جميع جزر إنكلترا ثم أصبحت اللغة الأولى في العالم، إذن، دسترتها لا تجدي نفعاً إذا كان أهلها يغطّون في سبات عميق، فالفرق بين اللغة واللهجة هو أن اللغة لها جيش وشرطة، واللهجة ليس لها ذلك، التاريخ البشري يقول هذا!
وأقول إن دسترتها لا تنفع كثيراً إذا لم يقم علماؤها بدورهم المنتظر منهم، وأقصد القيام بأعمال ميدانية ومخبرية وجمع النصوص الكافية، القديمة منها والحديثة، واستنباط القواعد العلمية اللازمة منها، وتدريسها واستعمالها في وسائل الإعلام المختلفة وبهذه الطريقة قد تصبح لغة منتشرة حتى خارج الحدود.
هل يستطيع الأدب الأمازيغي أن يتخطى الحدود المحلية إلى العالمية؟
العبرة ليس في الكمية في كل شيء، هل تعلمين أن “رسول حمزتوف” حاز على جائزة نوبل في الأدب مع أن العدد الذي يكتب بلغتهم لا يتجاوز في ذلك الوقت (في السبعينيات من القرن الماضي) ثلاثمائة ألف نسمة، أي ربع سكان ولاية تيزي وزو حالياً، ولا أفشي سراً إذا قلت لك إنني اطلعت على أشعار محند أومحند عن طريق باحثة لبنانية، وأنا طالب في كلية الآداب بالجزائر منذ أكثر من أربعين سنة، هل نعتبر أن أشعار هذا الشاعر الأمازيغي تجاوزت الحدود، بعد أن وصلت إلى لبنان، ألا يعتبر شعره من الأدب العالمي؟
فكما تخطى هذا الشاعر الحدود المحلية، قد يتخطى شاعر آخر أو كاتب آخر حدودنا، وقد تخطت الأغنية الأمازيغية الحدود المحلية، كما هو معلوم.
أما مستقبل الأدب الأمازيغي متوقف على ما سيقوم الكتاب والشعراء والنقاد فلا فرق بينه وبين بقية الآداب قليلة الانتشار، وعدد هذه الحالات كبير في مختلف القارات. وأشكرك الشكر الجزيل وتحياتي لقرائكم الكرام.