صغر حجم خطوطه الرّفيعة تختزل تاريخ وهوية انتماء الجزائر، هو الطّابع البريدي الذي كان لوقت قريب الوسيلة التي تربط كل واحد منّا بمن يحب، ويبقيه بصفة دائمة في تواصل معه..الطابع البريدي، تاريخ بلد وحضارة تتوقف عنده “الشعب” وترصد مساره وموقعه في الجزائر.
نتوقف في هذا الاستطلاع عند الطابع البريدي الذي تستعيد فيه الجزائر تاريخها بدءًا برسومات الرّجل البدائي بالطّاسيلي إلى الرّجل الثّائر في منتصف القرن الماضي وصولا إلى جزائر البناء والتّشييد، تقدّم “الشعب” باقة متنوعة من آراء المواطنين حول الطّابع البريدي الذي يسمّيه البعض أصغر سفير حمل ثقافة الأمة وحفظ بطولات شعب لا تحتويها إلا مئات من الكتب والمجلدات.
“..عشقي وولعي له فاق 60 سنة!”
أحمد عزوق،83 سنة، أحد الهواة الذي جعل من الطّابع البريدي جزء مهما من حياته، ومكانة خاصة في يومياته التي لا يعرف عيشها بعيدا عن ذاك المربع الصغير. وجدناه في ساحة البريد المركزي بالعاصمة ناصبا طاولة صغيرة عرض عليها صورا بالأبيض والأسود لشخصيات معروفة كالرئيس الراحل هواري بومدين والرئيس الرمز شيغيفارا، سألناه عن هواية جمع الطوابع البريدية فأجاب: “جمعت الطوابع لمدة تفوق عن الستين سنة إلا أنّني لم أمل يوما من هذه المربّعات الصغيرة التي تحكي رسوماتها تاريخ الجزائر منذ الرجل البدائي ورسومات الطاسيلي إلى جزائر الثورة وأبطالها، الذين صنعوا من انتفاضتهم معجزة القرن الفائت والبطولات التي قاموا بها ضد الاحتلال الفرنسي، لذلك كانت الطوابع دائما واجهة لإبراز تاريخ الأمم على اختلاف ثقافاتها وتاريخها”.
وأضاف احمد عزوق: “عرفت الجزائر الطابع البريدي في فترات متعاقبة خلال الاحتلال الفرنسي، فقد تمثل الطوابع آنذاك الدولة المحتلة، وبعد الاستقلال أصبحت الطوابع الفرنسية المستعملة تحمل رمز الجزائر الحرة بالفرنسية إلى غاية إصدار أول طابع جزائري احتفاء بالذكرى الثامنة لاندلاع الثورة التحريرية في 1962 الذي كان مرسوما عليه العلم الجزائري يرفرف على القارة الافرقية والجزيرة العربية،ساده اللون الخضر”.
وعن علاقة الثورة بالطابع البريدي، قال احمد عزوقي: “أرَّخ الطابع البريدي للثورة التحريرية من خلال إصدار طوابع ترمز إلى الكفاح المسلح وإلى شخصيات كتبت اسمها بحروف من ذهب في تاريخ جزائر الثُوار، ولم تمر ذكرى دون إصدار طابع يخلّد للمناسبات الوطنية كذكرى كل عشر سنوات من مرور الذكرى الوطنية للاستقلال أو الأول من نوفمبر أو ذكرى انعقاد مؤتمر الصومام أو أحداث 8 ماي 1945، إلى غيرها من المناسبات الوطنية التي تزخر بها المسيرة الثورية لشعب قال لا للمستعمر الغاشم، دون أن ننسى شخصيات المقاومة كالأمير عبد القادر، ورواد الإصلاح كالإمام عبد الحميد ابن باديس، مجموعة الستة التاريخية وهم رابح بيطاط، مصطفى بن بولعيد، ديدوش مراد، محمد بوضياف، كريم بلقاسم والعربي بن مهيدي”.
وفي مقارنة بين ماضي وحاضر الهواية، أكد احمد عزوق: “في الماضي كان محبو هذه الهواية ينتظرون بلهفة نصب طاولتي بساحة البريد المركزي لإمتاع نظرهم بمختلف الطوابع التي جمعتها لمدة سنوات طويلة، ولكن اليوم تغير الأمر وتقلّص عددهم رغم وجود صالونات عربية ودولية للطوابع البريدية كل سنة التي من المفروض أنها تزيد من نسبتهم لا العكس”.
حب وشغف
أما فاروق عزوق،45 سنة، فقد ورث عن أبيه حب الهواية وتعلق بها إلى درجة لا تخطر على البال، خاصة وأنه كان يلازمه كظله في ساحة البريد المركزي، سألناه عن حبه للطوابع البريدية فقال: “منذ نعومة أظافري وأنا أرى والدي يجمع الطوابع البريدية، وكنت في كل مرة أشعر بشغفه وحبه لها خاصة في الطريقة التي كان يعتني ويحتفظ بها، ولا يدّخر جهدا في السفر لمسافات طويلة من أجل الحصول عليها خاصة الطوابع النادرة. هذا الاهتمام جعلني أحبها وأتعلق بها، فدخلت هذا العالم منذ 1986 بالمشاركة في المعارض وكل صالونات الطوابع البريدية، كان آخرها الصالون العربي للطوابع البريدية والذي نظم في إطار الاحتفال بالذكرى الستين للثورة التحريرية”.
وأضاف عزوق: “شغفي بهواية جمع الطوابع البريدية يسري في عروقي، أخرجني من كوني مساعد لوالدي إلى هاو مستقل لجمع هذه التحف الغالية، فمنذ سنة 2000 أصبحت أعرض الطوابع والبطاقات البريدية في ساحة البريد المركزي، ووجدت إقبالا من طرف المحبين لهذه الهواية حتى من بعض الشخصيات المهمة التي تأتي لتقف أمامها مبدية استعدادها لشرائها مهما بلغ ثمنها”.
سفير الجزائر في كل المحطّات الدولية
رئيس جمعية “الفوارة للطوابع البريدية”، واري عبد الحق، تحدث إلى “الشعب” عن الطابع البريدي فقال لنا: “استطاع الطابع البريدي أن يؤرّخ لمختلف مراحل الثورة التحريرية والمقاومات الشعبية التي سبقتها، ورغم صغر حجمه إلا أنّه استطاع إعطاء كل مهتم به صورة حقيقية عن تاريخ الجزائر التحرري، فكان بحق سفير الجزائر في كل المحطات الدولية والعربية المهتمة بهذا الشأن”.
وأضاف واري عبد الحق قائلا: “في كل مرة أشارك فيها في صالونات دولية أجد اهتماما بالطابع البريدي الجزائري، الذي يرمز إلى الثورة التحريرية سواء من خلال الشخصيات التي قادتها أو صور المعارك والمناطق التي احتضنتها، وسؤال الزوار الذي كان يطرح في العادة في مثل هذه التظاهرات الثقافية التي يلتقي
فيها هواة من مختلف الدول يتعلق برموز الطابع البريدي، الذي يجعل عارضه يسرد قصة الثورة التحريرية من أول رصاصة أطلقها المجاهدين في جبال الاوراس الأشم”.
ولعل الإقبال الذي عرفه الصالون العربي للطوابع البريدية بولاية سطيف، والذي شهد مشاركة 33 دولة عربية حسب تأكيد رئيس الجمعية خير دليل على الاهتمام الذي يعرفه هذا المربع الصغير، وكل ما يحمله من دلالات والرموز.
وعن هواية جمع الطوابع قال واري عبد الحق: “بدأت ممارسة الهواية في سن 12 سنة أين كنت اجمع الطوابع البريدية إلى أن أصبحت بعد سن الثلاثين رئيسا لجمعية تهتم بها، أتذكّر كيف كنت أراسل المحطات الإذاعية العالمية والعربية للحديث عن هذه الهواية الجميلة التي تلقى اهتماما في جميع دول العالم. وبالمناسبة فقد نلت الميدالية الفضية الكبيرة في الصالون العربي للطوابع البريدية في المملكة العربية السعودية”.
وعن واقع الهواية وضرورة استمرارها عبر الأجيال، أكد واري عبد الحق قائلا: “تعرف الهواية تراجعا مقارنة بالسنوات الماضية بسبب التطور التكنولوجي لوسائل الاتصال، ولكن يبقى الطابع البريدي ذو رمزية مهمة تؤرخ لاحداث هامة عبر فترات مختلفة من التاريخ الجزائري، ما دفعنا لفتح ورشة لتعليم أبجديات هواية جمع الطوابع البريدية للأطفال على هامش الطبعة الخامسة للصالون العربي”.
مربّعات صغيرة تحمل صورا كبيرة
فاق عددها 1500 طابع منذ الاستقلال حملت بين صور شخصيات وتواريخ مهمة في بناء دولة امتدت جذورها في عمق التاريخ الإنساني،فمن الأمير عبد القادر إلى لالا فاطمة نسومر ، إلى الشيخ الحداد والمقراني، إلى عبد الحميد ابن باديس والشيخ الإبراهيمي وصولا إلى أحداث 8 ماي 1945. وكل الصور التي جسّدتها الثورة
التحريرية وما أعقبها من أحداث في الجزائر المستقلة، كل تلك الطوابع البريدية لخصت مراحل مهمة من تاريخ الجزائر، جعلته بحق سفير لها في المحطات الدولية التي يشارك فيها، ورغم تراجع عدد المهتمين بجمعه إلا أنّ محبيه ما زالوا أوفياء له، فلا التكنولوجيا الحديثة ولا الرسائل الالكترونية أثنت عزيمتهم في البحث عن هذه التّحف الصّغيرة.