إذَا نَظَرنا إلى التَّرجَمةِ بِعَينِ الفيلسوف والفلسفة، فإنَّنا لا نَراهَا عَمَلِيَّةً مِيكَانِيكِيَّةً تَكتَفِي بِنَقلِ اللَّفظِ إلى ما يُقابِلُهُ في لُغَةٍ أُخرى، بل نَراهَا - كما رآهَا “بول ريكور” - فِعلًا تأويليًّا، يَعبُرُ اللُّغَةَ ليَكشِفَ المَعنَى الكَامِنَ خلفَها. فَهِي - وَالحَالُ هذه - لَيسَت مِرآةً تُعِيدُ الصُّورَةَ كما هي، بَل نافِذَةٌ نُطِلُّ منها على النَّصّ، لا لِنَراهُ فَقَط، بل لِنَكتَشِفَ مَعَهُ عَوالِمَ لم نَكُن نُبصِرُها لَولا هذا التَّحَوُّلُ اللُّغَوِيّ.
ويَرَى “هيغِل” أنَّ التاريخَ يَتَقَدَّمُ مِن خِلالِ الجَدَل “أُطروحةٌ، ثم نَقيضُها، ثم مُرَكَّبٌ يَجمَعُ بينَهما ويَتَجاوَزُهُما”. ومِن هذا المَنظُور، يُمكِنُ أن نَعُدَّ النَّصَّ الأصلَ “أُطروحةً”، والتَّرجمةَ “نقيضًا”، والمُركَّبَ هو “المَعنَى الّذي لا يَتَكشَّفُ إلّا في المَسافةِ بينَ الأصلِ والتَّرجَمة، ولا يَكتَمِلُ في أيِّ واحدٍ مِنهما على انفِرادٍ، بَل في التَّوَتُّرِ القَائِمِ بَينَهما”.
أمَّا “مارتن هايدغر”، فَيَصِفُ اللُّغَةَ بأنّها بَيتُ الكَينُونة، ويَعُدُّ التَّرجَمةَ تَرحالًا مِن بيتٍ إلى آخَر، لَكِنَّهُ ليس تَرحالًا نَنقُلُ فيه الأثاثَ فقط، بَل نُعِيدُ تَرتيبَ المَكانِ كُلِّه، مُراعِينَ فيه ضَوءَ الشمسِ وتَوزيعَ النوافذِ ومَلمَسَ الأرض؛ فَالنَّصُّ لا يَدخُلُ لُغَةً أُخرى كما هو، بل يُعادُ خَلقُهُ في بَيتٍ جديدٍ، ووَفقَ قَوانينَ جَديدةٍ للحَياةِ والمَعنَى.
وفي عِلمِ النَّفسِ، يَرَى “كارل يونغ” أنَّ التَّجربةَ لا تَكتَمِلُ في الوَعي، بل تبدأُ في اللَّاوَعي الجَمعِيّ، ولا تَظهَرُ إلّا إذا وُجِدَت لها رموزٌ تُعَبِّرُ عنها. وهكذا فالنَّصُّ الأصلُ هو الرمزُ الأوّل، والتَّرجَمةُ مُحاوَلةٌ لخَلقِ رُموزٍ جَديدةٍ تُعادِلُه في سِياقاتٍ ثقافيةٍ مختلفة؛ فهي لا تُتَرجِمُ مُفرَداتٍ، بل رموزًا، ولاوَعيًا ثقافيًّا كاملًا.
ويُذكِّرُنا “جاك دِريدا” بأنَّ المَعنَى دائمُ التَّأجيل، لا يُقبَضُ عليه في لَحظته، ولا يَكتَمِلُ في لَفظه؛ ولذا فَالتَّرجَمةُ لَيسَت مُتَمِّمًا للأصلِ، بَل استِمرارٌ لتَأجِيلِه، وشَكلٌ مِن أشكالِ إعادةِ النَّظرِ فيه، بَل إنَّها قَد تَكُونُ رَفعًا له إلى مُستَوًى إدراكِيٍّ جَديد.
وهذا “رولان بارت” الذي أعلَنَ “مَوتَ المُؤَلِّف”، كان يُمهِّدُ لِمِيلادِ القارئ، وفي النَّتِيجَة ميلاد المُتَرجِم؛ لأن التّرجَمةَ - في صُلبِ أفكارِه - هي قِراءةٌ ثَانيَةٌ تُكتَب، لا أن يُحتفَظَ بها في العَقلِ فقط.
ولهذا نَقول: إنّ التَّرجَمةَ لَيسَت خِيانةً، كما يُرَوَّجُ أحيانًا، بل فِعلُ حُبٍّ، وإنْ كان حُبًّا مُتمرِّدًا: لا يَقبلُ النَّصَّ كما هو، بل يَحتَضِنُه ليُعيدَ خَلقَه، ويَمنَحَه حَياةً أُخرى في ذاكرةٍ ثقافيّةٍ جديدة. فمن أينَ جاءنا وَهمُ أنَّ التَّرجمةَ نُسخة؟ إنّها - في حَقِيقَتِها - “صَدًى له طَنينُهُ الخاصّ، ونَسْلٌ له نَسَبٌ مُختَلِف، ومِيلادٌ جَديدٌ لرُوحٍ قديمة”. أو بتعبيرٍ آخر: “التَّرجمةُ نَغمةٌ لاحَقَتِ الأصلَ، لا تُنكِرُ وَترَه الأوّل، ولكنها تُضيفُ إليه طيفًا من الجَمالِ، لم يَكُن ليُسمَع بغَيرِها”.
وإن قَالَ الأصل:
كَيفَ أَحيَا وَقَد دَنَوْتُ إلى الخُمُودِ؟
رَدَّت التَّرجَمَة فَقَالَت:
أُعِيدُ النَّبضَ فِيكَ، فَتَرتَقِي نَحوَ الخُلُودِ.
وفي ما قَلَّ ودَلَّ، أقولُ: التَّرجمةُ - وإن تأخَّرَ مَولِدُها عن أصلِها، وتبدَّلَ لِسانُها عن لِسانِه - هي شهادةُ مِيلادٍ للمعنَى، تُكتَبُ في سِجِلٍّ آخَر، وبِلِسانٍ غَيرِ الذي نَطَقَ بِهِ أوَّلَ مرَّة؛ غيرَ أنّها من نَسَبِه، وفي رَحِمِ فِكرتِه، وعلى جِبِلَّةِ رُوحِه، كأنّها فَرعٌ صادقٌ مِن أصلٍ عَريق..!
مترجم – مدقّق لغوي – مهتم بالشّأن الثقافي