تتجّه الجزائر نحو إضفاء المزيد من الإصلاحات المالية، بعد العمل الحثيث على إصلاح البنوك العمومية وفتح رؤوس أموالها، ثم تحقيق خطوة جبارة أخرى بإنشاء بنوك خاصة، في ظل التجاذبات الاقتصادية الدولية، وتطوّر التبادلات التجارية وسيطرة النقل البحري في تحديد أسعار السلع والخدمات، حيث بات من الضروري أن تتوجّه هذه المؤسّسات المالية إلى الابتعاد عن الدعم الاجتماعي والتوجّه نحو المشاريع الاقتصادية الفعالة.
تقوم سياسة الجزائر المنتصرة على منح استقلالية حقيقية للمؤسّسات المصرفية من خلال إضفاء مرونة حقيقية على سير القطاع المصرفي، بغية الذهاب نحو تحريك دواليب الاقتصاد الوطني والتشجيع على الاستثمار وخلق الثورة، وامتصاص أموال القطاع الخاص والأموال الموازية التي دعا رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون إلى إخراجها من الأقبية ووضعها في أطر رسمية.
ودعا الرّئيس تبون خلال لقائه، مع المتعاملين الاقتصاديّين إلى إنشاء بنوك خاصة بهم، بسبب التشوّهات والتناقضات التي قال: «إننا نراها، فالحديث عن أن اقتصادنا حرّ وخاص بنسبة 87 من المائة لكن تمويله من البنوك العمومية بنسبة 95 من المائة». ودعا رئيس الجمهورية، إلى إخراج الأموال الطائلة المخزنة في الأقبية ومن المناسب استثمارها في إنشاء بنوك خاصة، في وقت أكّد مواصلة فتح رأسمال البنوك العمومية بعد فتح بنكين عموميّين.
وفي السياق، أكّد المختص في المالية، نبيل جمعة، أنّ إنشاء البنوك الخاصة من قبل المتعاملين الاقتصاديّين الخواص، أصبح ضرورة ملحة ونجاعة اقتصادية رغم المخاطر المحتملة في هذا الميدان، حيث يمثل هذا الأمر إحدى القضايا الاقتصادية التي تحظى باهتمام متزايد، في ظل التحولات التي يشهدها الاقتصاد الوطني. وأبرز الخبير المالي في تصريح لـ «لشّعب»، أهمية هذا التوجّه في القطاع المصرفي، من باب تسارع وتيرة الإصلاحات الاقتصادية والانفتاح على الاستثمار المحلي والأجنبي، حيث برزت الحاجة إلى نظام مصرفي أكثر مرونة وفعالية يواكب متطلبات المرحلة ويحفّز النمو.
وفي هذا السياق، اعتبر جمعة، أنّ البنوك الخاصة تعد أداة مالية واستثمارية ذات أهمية قصوى تجمع بين النجاعة الاقتصادية، وتحفيز المبادرة الحرّة مع ما تحمله من تحديات ومخاطر ينبغي ضبطها بإصدار إطار قانوني ورقابي صارم. وشدّد جمعة، على أن التوجه نحو إنشاء البنوك الخاصة، يمثل خيارا استراتيجيا لتنشيط الاقتصاد الوطني وتطوير النظام المالي، معتبرا أنّ «نجاح هذا المسار يبقى مرهونا بمدى التوازن بين فتح المجال للمبادرة الحرّة وضمان الرقابة الفعالية، فالتجارب الدولية أثبتت أنّ البنوك الخاصة حين تعمل في بيئة قانونية شفافية ومحفّزة يمكن أن تساهم بشكل كبير في تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة وتعزيز السيادة المالية الوطنية».
وأشار الخبير المالي في السياق، إلى أنّ «فتح المجال أمام المتعاملين الاقتصاديّين لإنشاء بنوك خاصة، يعتبر ضرورة ملحة في ظل عجز البنوك العمومية عن تغطية الحاجيات التمويلية المتزايدة للاقتصاد الوطني، خاصة في مجال الاستثمار الإنتاجي وتمويل المؤسّسات الصغيرة والمتوسطة، ومواكبة التحول الرقمي، إذ يشتكي العديد من المستثمرين من البطء من الإجراءات والتشدّد في منح القروض وغياب المرونة في التعاطي مع المشاريع الجديدة ذات الطابع الابتكاري، وهو ما يحدث حركية في السوق ويدعم مناخ الأعمال». ومن هذا المنطلق - يقول محدثنا - يمكن للبنوك الخاصة أن تلعب دورا محوريا في تمويل الاقتصاد الحقيقي وجذب رؤوس الأموال وتحسين المنافسة المصرفية، كما أنها تفتح المجال أمام منتجات وخدمات مالية مبتكرة، وتقلّل من هيمنة البنوك العمومية التي لا تزال رهينة التسيير البيروقراطي في الجزائر.
مزايا..
وحول مزايا استحداث البنوك الخاصة، لفت الخبير الاقتصادي إلى أنه وفي حال ما تم إنشاء البنوك الخاصة وفق معايير مهنية ورقابية دقيقة، يمكن أن تشكل أداة فعالة لتوجيه الادخار نحو الاستثمار وتحقيق وساطة مالية ناجعة بين حاملي رؤوس الأموال وأصحاب المشاريع، موضّحا أنّ «وجود بنوك خاصة متنوعة التوجيهات والتمويل، يتيح خلق بيئة تنافسية بناءة تحفّز تحسين جودة الخدمات البنكية وتطوير المنتجات المالية الموجهة لفئات معينة، كالشباب والمستثمرين والقطاعات الناشئة الجديدة». وأضاف: «كما أنّ هذه البنوك تساهم في تسريع وتعميم الدفع الالكتروني والخدمات الرقمية البنكية وتسهّل ولوج غير المتعاملين مع البنوك إلى النظام المالي، وهو أمر أساسي لدمج الاقتصاد غير الرسمي وتوزيع الوعاء الجبائي، إلى جانب تجنّب البيروقراطية والقيود الإدارية المعروفة في السوق المالي من طرف البنوك العمومية». و من المزايا الكبرى للبنوك الخاصة، هي قدرتها على تجاوز البيروقراطية الإلزامية التي تميّز البنوك العمومية، يقول جمعة، الذي يؤكّد أنها «تتّسم عادة بالمرونة والسرعة في اتخاذ القرار والقدرة على التكييف مع متغيرات السوق، ما يجعلها أكثر ملاءمة لبيئة اقتصادية، حيث تتطلّب السرعة والابتكار، كما أنها قد تقلّل الضغط على البنوك العمومية وتفتح المجال لتجارب ناجعة أمام التمويل الإسلامي أو التمويل الأخضر أو حتى التكنولوجيا».
هكذا نتجنّب المخاطر
أما عن المخاطر المحتملة وآليات الحد منها، أفاد جمعة أنّ فتح المجال لا يخلو من المخاطر، خصوصا في حال غياب رقابة شفافة وفعالة من قبل السلطات النقدية والمالية، حيث تبرز تخوّفات مروعة، من أجل أن تتحول بعض هذه البنوك لأدوات لتبييض الأموال أو تحويل الأموال للخارج أو استغلالها لأغراض غير قانونية، تمسّ بالمال العام والاستقرار المالي للدولة الجزائرية.
ومن أجل تقليل هذه المخاطر، يرى الخبير ذاته، ضرورة وضع منظومة قانونية وتنظيمية صارمة، تلزم هذه البنوك باحترام قواعد الحوكمة والشفافية والخضوع الدوري لعملية تدقيق وضمان استقلالية الرقابة المصرفية، مع تبني آليات تقنية مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.