نظّم مخبر نظرية اللغة الوظيفية بكلية الآداب والفنون، جامعة الشلف، بالتنسيق مع جمعية السياحة وحفظ الآثار، الملتقى الوطني حول “الأنساق الثقافية للمعالم السياحية بمنطقة الشلف وضواحيها”، وذلك في إطار الجهود الأكاديمية لتعزيز البحث العلمي وربطه بالواقع الثقافي والسياحي. حيث شهد الملتقى مشاركة نخبة من الباحثين والمختصين في مجالات السياحة والتراث والثقافة، إلى جانب ممثلين عن مؤسسات معنية بحفظ المعالم الأثرية والترويج لها.
حضر الملتقى ضيف الشرف الأستاذ صدام حسين سرايش، رئيس الأكاديمية الجزائرية للشباب وحفظ التراث، الذي قدّم مساهمة قيّمة حول آليات حماية التراث وترسيخ الذاكرة الوطنية، مؤكّداً على أهمية التوعية المجتمعية وإنشاء معاهد متخصصة في هذا المجال.
أكّدت الدكتورة طاطا بن قرماز، مديرة مخبر نظرية اللغة الوظيفية ورئيسة الملتقى، في كلمتها الافتتاحية، أن هذا الحدث العلمي يأتي استجابة لتوجهات الدولة الجزائرية نحو تفعيل دور الجامعة في خدمة المجتمع، وتعزيز البحث العلمي الذي يربط الفكر الأكاديمي بالواقع، خاصة في ظل توجه الجزائر نحو دعم الاقتصاد القائم على المعرفة. وأضافت أن المعالم السياحية والتراثية ليست مجرد شواهد تاريخية، بل تمثل جزءًا من الهوية الوطنية الجزائرية، ممّا يستدعي مضاعفة الجهود للحفاظ عليها والترويج لها بطرق حديثة وفعالة، مشددةً على أن حماية التراث الوطني هي مسؤولية الجميع، بدءًا من المؤسسات الأكاديمية وصولًا إلى المجتمع المدني.
إثراء ثقافة التّبليغ عن المواقع الأثرية
شهد الملتقى تقديم مداخلات علمية متنوعة سلّطت الضوء على محاور مختلفة تتعلق بالسياحة الثقافية والتراث، من بينها مداخلة صدام حسين سرايش، رئيس الأكاديمية الجزائرية للشباب وحفظ التراث، الذي أكد على ضرورة إثراء ثقافة التبليغ عن المواقع الأثرية، وإنشاء معاهد متخصصة لحماية التراث الثقافي، إلى جانب إطلاق مشاريع الأمن الأثري التي تهدف إلى الحد من عمليات التخريب والاعتداء على المواقع الأثرية. كما دعا وزارة التعليم العالي إلى إدراج مقررات دراسية تركز على أهمية التراث الثقافي ودوره في التنمية، مشيرًا إلى أن الجزائر الحديثة تحتاج إلى نهج يعتمد على حماية التراث كمورد تنموي، وليس مجرد إرث تاريخي محصور في الدراسات الأكاديمية.
كما قدّم الدكتور خثير شين، مدير معهد العلوم الاقتصادية والتجارية وعلوم التسيير، مداخلة حول الخرائط التفاعلية والواقع المعزز، حيث تطرق إلى أهمية التحول الرقمي في تسويق المعالم السياحية، من خلال تقنيات مثل الواقع المعزز والخرائط التفاعلية، التي تمكن الزوار من استكشاف المواقع الأثرية بطريقة افتراضية قبل زيارتها ميدانيًا. وأشار إلى نجاح تجارب عالمية في هذا المجال، مثل متحف اللوفر في فرنسا ومدينة بومبي الأثرية في إيطاليا، داعيًا إلى تطوير تطبيقات محلية تعتمد على هذه التقنيات، وإطلاق شراكات بين الجامعات والشركات التكنولوجية لدعم الابتكار في هذا القطاع.
إلى جانب ذلك، قدم الباحثون عدة مداخلات أكاديمية ركزت على جوانب مختلفة من السياحة الثقافية، منها دراسة الدكتورة صليحة سبقاق حول معالم الفترة الاستعمارية الفرنسية في مدينة الشلف كجزء من السياحة الثقافية، حيث قدمت قراءة نقدية لكيفية تحويل بعض المعالم التي تعود إلى تلك الحقبة إلى مواقع سياحية تعكس الذاكرة الوطنية.
كما ناقش الدكتور عبد القادر دحدوح في مداخلته دور التراث الثقافي في دعم التنمية المستدامة، بينما تناول الدكتور نبيل حويلي في ورقته البحثية دراسة حول الأولياء الصالحين بمنطقة الشلف، متطرقًا إلى أبعادهم الرمزية وأثرهم في السياحة الدينية. من جهتها، قدمت الدكتورة نجاة سليماني مداخلة حول الإنسان الثقافي المضمَر في المعالم السياحية الأثرية بمنطقة الشلف، حيث درست الجوانب الأنثروبولوجية لهذه المواقع. أما الدكتورة شيماء العابد، فقدمت قراءة تاريخية ومعمارية لقصبة تنس العريقة باعتبارها أحد أقدم المعالم الإسلامية في الجزائر.
تعزيز الاهتمام بالتّراث
واختتم الملتقى بجملة من التوصيات التي تهدف إلى تعزيز الاهتمام بالتراث الثقافي والسياحة التاريخية، حيث دعا المشاركون إلى اعتماد تنظيم دوري للملتقيات، مع الحرص على إقامتها ميدانيًا في مواقع تاريخية وسياحية، عبر إنشاء خيمة خاصة بالملتقى تتيح للمشاركين التفاعل المباشر مع هذه المعالم.
كما أوصى الباحثون بضرورة إنشاء أكاديمية ولائية متخصصة تُعنى بالبحث في التراث والصناعات الحرفية والمواقع السياحية والتاريخية بمنطقة الشلف، لضمان استمرارية الدراسات والأبحاث في هذا المجال.
ومن بين التوصيات، الشروع في إصدار مجلة وطنية ذات أبعاد دولية، تُنشر باللغتين العربية والإنجليزية، وتهتم بمواضيع إحياء التراث والبيئة والسياحة، بما يسهم في توسيع نطاق البحث العلمي وتعزيز التعاون الأكاديمي. كما تم اقتراح تنظيم ورشات حرفية تطبيقية تستهدف طلبة الجامعة الجزائرية، بهدف إكسابهم مهارات عملية تسهم في الحفاظ على التراث وإعادة إحيائه على المستوى المحلي، لا سيما بمنطقة الشلف وضواحيها.
وأكّد المشاركون أيضا على ضرورة تكثيف الحملات التوعوية لتحسيس المواطنين بأهمية الموروث الثقافي والتاريخي والسياحي، مع نشر ثقافة السياحة بين أفراد المجتمع، من أجل تغيير التصورات السائدة حول السياحة وتعزيز الوعي بأهمية استثمار المعالم التاريخية كمورد اقتصادي وثقافي. كما تم التشديد على أهمية ترميم وصيانة المواقع السياحية والبيئية والتاريخية والأثرية، للحفاظ عليها وحمايتها من الاندثار.
وفي إطار تطوير البحث العلمي بما يتماشى مع متطلبات التنمية الوطنية، دعا الباحثون إلى إعادة النظر في مسميات الفرق البحثية داخل المخابر العلمية، وكذا في مفردات مقاييس التكوين في مرحلتي الليسانس والماستر، وبرامج التعليم الابتدائي، بما ينسجم مع المشروع الحضاري الذي تتبناه الجزائر الجديدة. كما تم التأكيد على أهمية بعث الأنشطة الوطنية للترويج الأثري والسياحي، عبر مبادرات ومشاريع تسهم في إبراز قيمة التراث الثقافي الجزائري.
وفي سياق دعم التنمية المحلية، أوصى الملتقى بضرورة فتح المجال للاستثمار الاقتصادي في ولاية الشلف، من خلال التركيز على القطاعين الثقافي والسياحي، باعتبارهما من الركائز الأساسية التي يمكن أن تساهم في تحفيز الاقتصاد المحلي، وجذب المستثمرين للاستفادة من الثروات الثقافية والتراثية التي تزخر بها المنطقة.
على هامش الملتقى، نظمت جمعية السياحة وحفظ الآثار معرضًا للفنون التقليدية والتحف الأثرية، إلى جانب صور توثيقية لأبرز المواقع السياحية والتاريخية بمنطقة الشلف وضواحيها. وقد لاقى المعرض اهتمامًا واسعًا من قبل الطلبة والأساتذة والباحثين، حيث قدم فرصة للتعرف على ملامح التراث الثقافي المحلي، وأبرز المواقع الأثرية التي تروي فصولًا من تاريخ المنطقة.
ومن بين المواقع التي تم تسليط الضوء عليها في المعرض قلعة “تيميكي بتاوقريت”، و«المقبرة الفينيقية” بتنس، و«القنطرة الزرقاء” ببلدية أولاد بن عبد القادر، و«قصر كاوة” ببلدية الولجة غليزان، والمعلم التاريخي “بير الجن” ببلدية بوقادير. وقد أكدت الجمعية من خلال هذا النشاط على أهمية الحفاظ على هذه المعالم من التهديدات التي قد تطالها، سواء بسبب الإهمال أو العوامل البشرية الأخرى، داعيةً إلى ضرورة تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية حماية التراث الثقافي والمحافظة عليه.