نموذج لدور الأطبّـاء الهام في نجاح الـثــّورة التّحريـريـة المجـيـدة
نظّم المتحف العمومي الوطني للفنون والتعابير الثقافية التقليدية قصر الحاج أحمد باي، بمناسبة اليوم الوطني للشهيد، محاضرة تاريخية من تنشيط الباحث والمؤرخ رياض شروانة، قدّم من خلالها كتابه المعنون بـ “من جامعة باريس إلى سوكياس”، وهي جملة وثائق وشهادات عن المسيرة الدراسية والثورية للشهيد الدكتور لخضر عبد السلام بن باديس.
أكّد المؤرّخ والباحث في التاريخ الجزائري رياض شروانة، أن كتابه جاء ليسلّط الضوء على مساهمة الأطباء الجزائريين في الثورة الجزائرية، حيث كان من بين الشخصيات التي لعبت دورا محوريا في الثورة الدكتور الشهيد لخضر عبد السلام بن باديس، والذي أراد رفقة زميله المؤرخ علاوة عمارة تقديمه كنموذج عن دور الأطباء في الثورة التحريرية رغم نقص المادة الأكاديمية والأرشيف.
من “جامعة باريس الى سوكياس” كتاب يشمل ثلاثة ملفات تاريخية، انطلق الكاتب من شهادات استمدها من مراكز أرشيفية مختلفة تتحدث عن جوانب عديدة من حياة الشهيد، يعرض الملف الأول تفاصيل كثيرة عن المسار العلمي للدكتور لخضر عبد السلام بن باديس، وقد كان شروانة رفقة الباحث علاوة عمارة، سباقين إلى الاطلاع عليه على مستوى الأرشيف الوطني الفرنسي، وورد في الملف المسار الأكاديمي الذي قضاه الشهيد بين الجزائر وفرنسا، بالإضافة إلى رسائل كُتبت بخط يده رفعها إلى إدارة الجامعة للحصول على تربصات ومنح، ثم عزمه على العودة إلى قسنطينة بعد مناقشته الدكتوراه، للانضمام إلى التنظيم الثوري السري للمدينة، وفتح عيادته في شارع الشهيد العربي بن مهيدي.
إضافة إلى ملف خاص باعتقال بن باديس، احتوى الكتاب على 80 وثيقة موجودة على مستوى الأرشيف الوطني الفرنسي، مصنفة ضمن خانة خاصة وهي عبارة عن مجموعة من العلب للفارين من معتقل “الجرف”، وقد كان ملف الدكتور من ضمنها، أما عن سبب اعتقاله يوضّح شروانة، أنه تعلق بإبداء رغبته في الالتحاق بالثورة في الولاية الثامنة، وقد نفّذ ذلك برفعه رسالة إلى رئيس لجنة التنسيق والتنفيذ عبان رمضان، الذي زكّى الطلب بأن أخبر قائد الولاية الثانية بالأمر وزوده بكلمة السر “أتيت من طرف بوزيد الصيدلي”.
وأردف بأن هذه المراسلة تعتبر رصيد الثورة الذي صادرته القوات الاستعمارية في عملية تمشيطية بأعالي القل، طالت 14 بلدية، أين وصل جنود المستعمر إلى أمانة الولاية الثانية ووضعت القوات الفرنسية أيديها على 30 مراسلة بين الولاية الثانية، ولجنة التنسيق والتنفيذ، ولجنة الثورة الجزائرية بتونس، وهي مراسلات متعددة المواضيع منها خبر استشهاد زيغود يوسف.
وأشار الكاتب إلى أن القوات الفرنسية داهمت بعدها بيت المجاهد لخضر عبد السلام بن باديس بسيدي مبروك، وبعد تفتيش غرفته وجدوا بحوزته وثائق ومواد أخرى تسبّبت في إدانته، ليُنقل إلى مركز التحويل والفرز بـ “بلحامة الغيران”، ثم تنقل بين مختلف المعتقلات في الجزائر وصولا إلى “الجرف”، وذلك بمقتضى قرار يعود لتاريخ 17 أكتوبر 1957. وتحدّث المؤلف أيضا، عن ملفات ورسائل كُتبت بخط يد الشهيد توجّه بها إلى عائلته والإدارة الفرنسية، يتحدث فيها عن وضعيته الإنسانية البائسة، خصوصا وأن الرجل كان يعاني من الملاريا ومرض على مستوى الأسنان، بالإضافة إلى تعرضه لضغوطات نفسية بعد رفضه التعاون مع إدارة المعتقل كطبيب، إذ عرض للتعذيب البدني لأجل إجباره على ذلك.
كما رفع بن باديس طلبات لتلقي العلاج خارج المعتقل قوبلت كلها بالرفض، وبتاريخ 14 جويلية 1958، أطلقت الإدارة الفرنسية سراحه بموجب قرار عفو، ثم أُعيد اعتقاله مرة أخرى، وأردف شروانة أن الشهيد طلب الخروج من المعتقل للتداوي لدى طبيب أسنان، وقد سُمح له بذلك ليتنقّل إلى برج بوعريريج رفقة مسؤول نفسي، لكنه استغفل مرافقه وفرّ بتاريخ 11 أكتوبر 1958، ليلتحق بالمنطقة الثانية للولاية الأولى الأوراس، التي وصل إليها في 10 جانفي كنائب في القطاع الصحي الذي كان يرأسه الدكتور عثامنة.
وختم شروانة محاضرته بالتطرق إلى الملف الثالث الذي يخص جهاد بن باديس واستشهاده، وهو ملف موجود على مستوى أرشيف وزارة الدفاع الفرنسية، وقال إنه الأمر الذي فتح شهيته للاشتغال على حياة الشهيد، مفيدا أن الملف يصف الخدمات الجليلة التي قدمها الطبيب الشهيد للقطاع الصحي بالولاية الأولى، كما يذكر بأنه قد عانى من عدة أمراض وأراد الالتحاق بتونس للعلاج والانضمام إلى المجاهدين الجزائريين هناك، لكنه استشهد خلال عبوره خط “شارل وموريس” بتاريخ 13 جوان 1960، وقد ختم مسيرته بوثيقة وصفت مأساته الإنسانية يقول فيها “أنا جد مريض ومتعب، وأريد الالتحاق بإخواني في تونس من أجل العلاج والجهاد”.
كما أشار المؤرخ إلى أنه رفقة المؤرخ علاوة عمارة، أرادوا من خلال هذا البحث التاريخي والأكاديمي العمل على رفع اللبس عن أصل تسمية مستشفى قسنطينة الحكيم “بن باديس”، خصوصا وأن الأغلبية تعتقد أن المقصود بالاسم هو الشيخ عبد الحميد بن باديس، في حين أن التسمية ترتبط بشقيقه عبد السلام لخضر بن باديس، داعيا إلى كتابة الاسم الكامل للشهيد حتى تتضح الفكرة، كما عرج شروانة للحديث عن المنقوصات والمغلوطات التي تكتنف ببيبليوغرافيا الشهيد، عدا عن معلومات تاريخية شحيحة لا تعطي الصورة الحقيقية عن أول طبيب عيون في الجزائر، اختار التخلي عن كل شيء للالتحاق بالثورة التحريرية المجيدة.