مازال العالم وفي الألفية الثّالثة يحلم بأن يرى كينونته في ما تقدّمه السينما من إبداعات فكرية وبحوث ودراسات معرفية تبرزها بعض حقائقه في صورة عاكسة لطبيعته الحيّة وصورته المتحرّكة.
ذلك هو حال فنّ السّينما الذي أصابته الغيبوبة وأفقدته حيّزا من البقاء في العالم المتحول، الذي غيّرته الإشارات والإبداعات والاختراعات المباغتة المتلاحقة، بحيث نشأ فنّ السّينما كغيره من الفنون كالموسيقى والغناء والطّرب والأدب والفن التشكيلي والرّقص والدراما، وما تبعهم من الفنون ذات النشأة الخاصة بالنخبة أو الطبقة الأرستقراطية الممتازة والمفضّلة بين النّاس، والذين لم يولوا لفنّ السّينما أي اهتمام أيام نشأتها الأولى باعتباره شكل من أشكال فنون اللهو البدائية الخاصة بتسلية العوام، حيث تجاهلته تلك النّخبة الأرستقراطية المؤثّرة والفاعلة، بل المتحكّمة إلى أن تزايد عدد المشاهدين والمتفرّجين.
الحلقة الأولى
اكتسحت السّينما العديد من المجالات الفنية والاجتماعية، وصارت مع حلول الألفية الثّالثة من أهمّ وسائل الإعلام والاتصال السمعية البصرية الجماهيرية الصّانعة للرّأي العام بل الموجّهة له، ذلك الفنّ المصطلح على تسميته بـ “الفن السّابع”، الذي تعود بداية فكرته إلى ما كتبه الرّسام والمهندس الفنّان العالم الباحث والمكتشف الايطالي (ليوناردو - دافنشي - 14 52 - 1519م) في مذكّرته التي لم تنشر، والتي أوردها الكاتب الايطالي “جيوفاني بستاد بلا بورتا” في كتابه “السّحر الطّبيعي”، نشر عام 1558.
ظلّ وخيال تعكسه أشعّة الشّمس
مصطلح الفن السّابع حسب ما جاء في كتاب “السّحر الطّبيعي”، مفاده أنّ أصل الصّورة السينمائية يتمثّل في الظلّ أو الخيال الذي تعكسه أشعة الشمس أو الأضواء الاصطناعية، والملخص في قوله: “إذا أنت جلست في حجرة دامسة الظّلام في يوم مشمس، ولم يكن بالحجرة سوى ثقب بمقدار رأس دبوس في أحد جوانبها، استطعت أن ترى على الحائط المقابل للثّقب أو على سطح آخر في الغرفة ظلال أو خيالات للعالم الخارجي: شجرة كانت أو رجل أو حيوان، أو كل جسم يترتّب عنه ظل بسبب أشعة الشمس أو الضّوء”.
تلك هي الفكرة التي كانت البداية لميلاد وظهور الصناعة السينمائية عام 1895، ذلك إلى جانب تجميع الاختراعات الثلاثة (الفانوس السحري - اللعبة البصرية – التصوير الفوتوغرافي) للأخوين الفرنسيين لوميار (أجيست 1862 - 1945 ولويس 1864 - 1948)، واختراعهما لجهاز عرض الصور المتحركة على الشاشة، حيث كان أول عرض سينماتوغرافي لهما عام 1895م بالمقهى الكبير المتواجد بشارع كاسين لمدينة باريس الفرنسية، وعلى إثر ذلك الاختراع المميّز الذي ظهر به الإخوة لوميار والمعتمد لدى العديد من الكتاب والمؤرّخين، فقد أصبحت السينما واقعا معاشا يساير الأحداث العالمية والبشرية الواقعية والخيالية والافتراضية.
أيام قلائل وتنتشر أخبار فعاليات خيالات وظلال الصور السينمائية بعواصم الدول المتطوّرة، ويشاهد جمهور مدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية أول عرض للصور المتحركة (1895)، الأمر الذي حدا برئيس شركة “الكنيوسكوب”، الباحث والمخترع رجل الأعمال خادم الإنسانية (توماس الفا ايديسون 1847 - 1931) بدعوة الأخوين لوميار للانخراط في مؤسسته الاستغلالية العملاقة لمواصلة صناعة أجهزة العرض، وإتمام الملحقات اللازمة والمساعدة على عرض شريط الصور المتحركة (1896) الذي عرف إقبالا جماهيريا كبيرا.
ونظرا لاهتمام المتخصّصين والباحثين في عالم السينما وأطوارها، وتأثيرها في مختلف الشرائح والتركيبات الاجتماعية الأرستقراطية، والخاصة والجماهيرية العامة، وفي الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية الدولية والإقليمية والمحلية ومراحل الإخفاق والازدهار، ممّا دفع بالكاتب والنّاقد والمؤرخ السينمائي الأمريكي “فيليب لونجلينو” أن يوليها اهتماما كبيرا ويقسّم مراحلها وأفلامها وفق متطلّبات السّوق ورغبات الجمهور، والتأثير والتأثر وصناعة الرّأي.
عصور مضيئة وأخرى خافتة
عرفت الأفلام السينمائية عصورا مضيئة وأخرى خافتة،حيث كان (عصر الريادة - العصر الذهبي – العصر الفضي وعصر ظهور الرقابة)، إلى جانب (عصر الأفلام النّاطقة - عصر الحرب العالمية – العصر الانتقالي والعصر الحديث)، وحصرها:
١ - عصر الرّيادة 1895 - 1910: ظهرت فيه جميع الابتكارات والإبداعات والاختراعات والصّناعات. وبرزت فيه الشخصيات السينمائية الأولى وكاميرات التصوير المتطورة والأفلام الصامتة والأشرطة الوثائقية الخاصة بالأحداث المصورة، وتلك المتعلقة بالتمثيل المسرحي والقضايا الاجتماعية، وكل منتجات شركة إيديسون من أشرطة وأفلام لكبار المشاهير – لوميار– ميلييه وما تتميز به من مشاهد وحيل وخداع أبهرت به جمهور المشاهدين، وجعلت من السينما وسيلة اتصال وإعلام جماهيري ناجع وفعّال صانع للرأي ومؤثّر فيه.
٢ - العصر الذّهبي للفيلم السّينمائي 1941 - 1954، حيث كانت الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) محفّزة له، وإعطائه دفعا قويا كان له الأثر في تطوير الصناعة السينمائية وإنتاج الأفلام الخاصة بالحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) ومراحل الحرب العالمية الثانية، حيث ازدهرت الأفلام الحربية والاستخباراتية والجوسسة، وسير السادة النبلاء والأفلام الدرامية والكوميدية والمغامرات، وأفلام الخيال العلمي التي بدأ الاهتمام بها عام 1950.
كما ظهرت خلال هذه المرحلة الأفلام الخاصة بالشّخصيات السياسية والقيادات العسكرية والأفلام الجماهيرية العامة، الأمر الذي دفع بالشّركات المنتجة إلى وضع قواعد ومعايير، بل وأرصدة مالية خاصة بإنتاج الأفلام والأشرطة المتعلّقة بالأفلام الطويلة والقصيرة والأشرطة الوثائقية العلمية والتربوية والخيالية والترفيهية، بحيث صارت هناك صناديق مالية خاصة وميزانيات ضخمة وكبيرة وضعيفة وضئيلة (والتي لا تعني بأنّ هناك أفلام وأشرطة جيدة أخرى رديئة).
٣ - العصر الفضي للفيلم السّينمائي (1967 - 1979): يرى فيه العديد من الكتّاب والباحثين والمؤرّخين لعالم السينما، أنّه عصر إنتاج الأفلام الحديثة الخالية من الصور المتحركة وبالتوجه نحو إنتاج أفلام وأشرطة ذات الأبعاد الثنائية الخالية من الأبيض والأسود، ومن جميع الموانع والطّابوهات، ممّا عجّل بميلاد الأنظمة الخاصة بالرقابة والمعاينة والحجز والقص والمنع للعرض والتسويق والتوزيع، وإعادة النظر في الكتابة وفوارق المصاريف ومصادر التمويل (الدعم، المساهمة والإعانة)
٤ - كما اتّصف عصر ما بين الحربين وبالتحديد (1927 - 1940) بأنّه عصر الصّورة النّاطقة أو عصر الصّوت والضّوء، عصر انتشرت فيه الأفلام والأشرطة للصور الملوّنة، حيث تنوّعت الأفلام الكوميدية والسياسية، وطغت عليها الألوان الصّاخبة والجذّابة ساعدت على زيادة ساعات العرض بالليل والنهار، وارتفع عدد المشاهدين بمختلف دور السّينما.
هذا الأمر جعل أهمية الفيلم ونوعيته تزداد تتبّعا من قبل الجمهور، الذي أصبح يوليها اهتماما كبيرا لها ولكل ما يتعلق بالموضوع والمعالجة، ونوعية التقنيات الخاصة بالأفلام ذات المشاهدة الواسعة التي أبهرت الجمهور. هذا العصر دفع خبراء عالم السينما بتأسيس جوائز خاصة بالفيلم السينمائي المتكامل الجوانب وتأهيله للمشاركة في جوائز “الأوسكار”.
٥ - بعد أن تعدّدت العصور السّينمائية وتنوّعت منتجاتها الفنية والابتكارية والإبداعية في مجالات البحث والتحقيق، والدراسة والتعليق على مختلف أنواع وأشكال السيناريوهات، ورزنامة الأفلام المواضعية ومدى ملاءمتها والابتكارات التقنية المتطورة ومطابقتها للوازم الموسيقية والديكور والمناظر الخاصة، وغيرها من اللواحق الأساسية لإتباع الفيلم والشريط السينمائي المعاصر والمعروف بالعصر الانتقالي للفيلم السينمائي المحدد بتاريخ (1955 - 1966م)، والذي توسّعت فيه دائرة الإنتاج المصوّر والصناعة السينماتوغرافية في العديد من الدول المتطورة التي غزى إنتاجها المتنوع الجمهور الراقي المتحضّر والوطيء المتهوّر، الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق مخابر هوليود المتخصّصة والمتحكّمة في التّسويق والتّوزيع.
ذلك إلى جانب ظهور العدوّ اللّدود الخادم لعالم الإعلام والاتصال، المسمى التيلفزيون المنافس الدّائم للسينما، اللّهم إلاّ في بعض الجوانب المتعلّقة بالتّقنيات السينمائية الاستقطابية الخاصة بالقضايا التاريخية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وبرجالات الإبداع والابتكار والمؤثّرات الملازمة لمختلف القنوات المرفقة والمصاحبة للصورة والاستعراض والموسيقى والدّيكور.
٦ - وقد سايرت الأفلام الصامتة (1911 - 1926) العديد من المراحل التي عرفتها الصناعة السينماتوغرافية وإنتاج الإفلام والأشرطة بدفع الباحثين المبدعين إلى إيجاد الطّرق والوسائل التي تساعد على توافق الأصوات بالصّور، وباستخدام المؤثّرات الصوتية الملازمة للصورة (الصّورة النّاطقة).
هذه التقنية الجديدة ساعدت أيضا على اختلاف أشكال الشّريط وتغيير طرق التسجيلات السّابقة المتعلقة بالعروض المسرحية، حيث تحوّل ذلك العمل إلى أفلام الدراما الروائية والأفلام العاطفية والشاعرية ذات الطابع التاريخي، وأدب القصص والرحالات، حيث تميّزت بالدقة في التركيب والنوعية، والجودة في الإنتاج والصناعة المتقنة.
٧ - أما عن عصر العالم السينمائي الحديث (1980 - 1995م)، فإنّ حقيقته كانت مع مطلع عام (1977م)، وإن كان البعض يربطها بعام (1980) اعتمادا على ظهور المعدات التكنولوجية والالكترونية المتطورة كالروبو والكمبيوتر والكاميرا الثلاثية الأبعاد، الفيديو،التليفزيون المرقمن، وغيرها من المبتكرات الالكترونية الخاصة بالتصوير والتركيب والعرض للفيلم أو الشريط السينمائي الذي أصبح يعتمد فيه على البرمجيات الفائقة الدقة والتعقيد، والمساعدة على التعديل والتحسين للصورة السينماتوغرافية بإدخال العديد من المتغيرات التي كان يغلب عليها طابع الاستحالة.
٨ - الرّقابة: ظاهرة السينما وأحداث الحرب العالمية الأولى والثانية وثورة التكنولوجية الالكترونية، واختراق وسائل الإعلام والاتصال، وغزو جميع الفضاءات وتجاورها للحدود البرية الإقليمية والدولية، وتمكّنها من تحويل قارات العالم البشري إلى قرية يتواصل أفرادها فيما بينهم بكل الوسائل واللغات والإشارات والرموز. ذلك إلى جانب القوانين الدولية المؤثّرة ذات الاتجاه الواحد، الذي لا يبقى ولا يذر من الثقافات المحلية والإقليمية الشعبية والتقليدية، وغيرها من مؤثرات الغزو الثقافي والفكري والسياسي والأمني والديني والأخلاقي، ذلك المشهد الجارف الذي دفع بالعديد من حكومات الدول المنتجة والشعوب المستهلكة باللجوء إلى إنشاء هيئات وأجهزة خاصة مكلفة بالرقابة القبلية، والبعدية لمختلف المنتوجات السينمائية وأفلامها الطويلة والقصيرة الوثائقية .
الرّقابة..حكاية طويلة
وذلك باعتبار السينما فن جماهيري يقبل على مشاهدة منتجاتها السمعية البصرية المتمثلة في فنيات الفيلم والشريط المقدم لجميع الفئات العمرية من مختلف الشرائح الاجتماعية دون ظهور الفوارق الاجتماعية، بحيث يحضر قاعة العرض السينمائية السيد والمسود، الحاكم والمحكوم، العالم والجاهل، والمعافى والسقيم والكبير والصغير من الرّجال والنّساء، لأنّها وسيلة تسلية هامّة قد يترتّب على مشاهدة أفلامها الحصول على السعادة الروحية والترقية الفعالة والمؤثرة في الشباب والمراهقين، الذين لهم قابلية كبيرة في التأثر بمختلف العروض السينمائية أكثر من غيرهم، وذلك لما لها من قدرة على التعبير والتغيير بل على فرض نمط وسلوك معين عن طريق مضمون تلك الأفلام القوية والمقوية والمنشّطة، الصالحة والطّالحة، المثقّفة والمجهلة والنافعة والضّارة، تلك القدرة المحبّبة للعنف والكراهية والجريمة والرذيلة والفساد والإباحية، وغيرها من الموبقات الملازمة للعقلية البشرية السلبية،وبناءً على ذلك التّأثير الفكري والعاطفي الوجداني والاندفاع النفسي الذي يتميز به عالم السينما، خاصة وأنّها وسيلة إعلامية جماهيرية واتصالية وإعلانية لها القدرة العالية للتأثير في جميع المجالات الثقافية والتربوية والدعائية. تلك الوسيلة الإعلامية الجماهيرية المسلية التي أقلقت الأنظمة السياسية العتيدة، ودفعت بالحكومات إلى إنشاء مؤسسات رقابية وتوفير وسائل مشاهدة ناجعة وفعالة لتشديد الرقابة على الأشرطة والوسائل السمعية البصرية التي تنتمي إلي الإعلام الجماهيري.
يتبع