نظّم مخبر نظرية اللغة الوظيفية، بكلية الآداب والفنون بجامعة الشلف المؤتمر الدولي (حضوري وعن بعد) الموسوم بـ«الأنساق المضمرة في سرد الثقافة المهمّشة للتراث الحكائي” وقد عرف مشاركة العديد من الأساتذة من داخل الوطن وخارجه، على رأسهم الناقد الثقافي البروفيسور عبد الله الغذامي ولؤي خليل.
فاطمة الوحش
أكّدت مديرة مخبر نظرية اللغة الوظيفية ورئيسة المؤتمر الأستاذة الدكتورة طاطا بن قرماز خلال كلمة ألقتها بالمناسبة، أنّ تنظيم المؤتمر جاء لتجسيد فكرة التماشي مع سياسة الجزائر الجديدة لجامعة منتجة، حفاظا على التراث الثقافي باعتباره الأصل الأول لثقافة الشعوب.
وأشارت طاطا بن قرماز، إلى أنّ المؤتمر يقدّم قراءة ثقافية ونقدية للموروث الثقافي الشعبي للأمّتين الجزائرية والعربية وهو - حسب المتحدّثة - التفاتة لضرورة استثمار الجانب الثقافي الشعبي في بناء الفكر المعاصر، لأنّ الكثير من الجهود والإسهامات تقع في خارطة النشاط الاجتماعي الشعبي، الذي عادة ما ينظر إليه بأنّه مهمّش ويأتي في الرتبة الثانية بعد الثقافة الرسمية.
وقالت “لقد آن الأوان مع تحوّلات الوعي الثقافي الجزائري إلى إعادة الاعتبار لمكوّنات المواطنة الجزائرية بإغناء الفكر الثقافي والنّقدي، بما يزخر به الفكر الشعبي من فنّ وحكمة وسياسة اجتماعية، كما حان الوقت لأن تثري الجامعة الجزائرية التراث الحكائي الشعبي الذي هو صلب الشخصية الجزائرية، فعلى المؤسّسات التعليمية ألاّ تغفل عن هذه الكنوز الثقافية والمعرفية والفنية، التي تزخر بها الجزائر إنساناً وبيئة وتاريخا وحضارة، لذلك ينبغي النظر في إعادة تكييف برامج التعليم بإيجاد حيّز لهذه القيم التي بدونها لن يضمن الماضي مستقبلا له.”
لابـــــد لـــــلــــنّــــقــــد الــــثــــقــــافي أن يــــقــــدّم وظــــيــــفــــة مــــعــــرفــــيــــــــة
وفي مداخلته الافتتاحية المنعونة بـ«هل النقد الثقافي مضادّ الجمالي”، أكّد الدكتور عبد الله الغذائي أنّه لابد للنّقد الثقافي أن يقدّم وظيفة معرفية في تفسيره للنصوص، تختلف عن المناهج الأخرى التي هي في الميدان ذاته. مشيرا إلى أنّ وظيفية النّقد الثقافي هي برهانها، فهي التي تشكّل له المعنى الذي يحمله ويرتفع عنه بأنّه معرفة ضرورية وليست ترهلية.
وقال: “من أجل هذا الهدف، حينما حاولت أن أشرع في النّقد الثقافي متنقلا من النّقد الأدبي إلى الثقافي، كان لابد لي أن أخطو خطوات تجعلني في بدايتي قادرا على أن أميّز تمييزا صارما بين النّقد الأدبي والنّقد الثقافي الذي بدأته سنة 1987، والذي لم ينضج إلا بعد 13 سنة من محاولة صياغة النظرية.”
وأضاف “لكي أصنع نظرية النّقد الثقافي كان أمامي النظرية النّقدية في صياغتها الأدبية، هذه النظرية التي حدث لها تطوّر هام في عصرنا الحديث عبر رومان ياكبسون، الذي كان له دور كبير في تهيئة المعنى العلمي المنهجية وصياغة نظرية الاتصال” .
ولفت الغذامي، إلى أنّ ياكبسون وضع 6 وظائف مقابل 6 عناصر لكي يميز وظيفة النّقد الأدبي، كما ركّز على الوظائف واختار وظيفة الشاعرية وانطلق منها، وكلّ النظريات من بعده اعتمدت على ذلك.
من جهة أخرى، ذكر عبد الله الغذامي، أنّ الأنساق لا تسكن في النصوص المفردة، مشيرا إلى أنّ أكبر خطأ يمكن تجنّبه في النقد الثقافي أخذ نصّ مفرد ونبحث عن نسقه، وأكّد في السياق ذاته، أنّ الأنساق تسكن أولا في الأذهان ثمّ في الخطابات، وإذا انتقلت إلى الخطابات فإنّها تهمّش الخطاب الذي لا يتوافق معها في أول نقلة، معتبرا أنّ النسق يعبر عبر الثقافات شرطها في الناقد أن يكتشف الجملة الثقافية.
ارتحـــــال الــــعـــــلامــــات الــــثــــقــــافــــيــــة لـــلــــنــــصّ أثـــنـــاء تــــرجـــمــــتــــــه
بدوره، أوضح الدكتور لؤي علي خليل من جامعة قطر في مداخلته الموسومة بـ«الترجمة الثقافية والإكراهات النسقية”، إنّ الترجمة حظيت باهتمامات بحثية متعدّدة هدفها العام تأطيرُ آليةِ الترجمة، والحدُّ من المشكلات التي قد تصاحبها، وغلب على عدد كبير من تلك الدراسات الرؤيةُ التنظيرية التي تفتقر في كثير من الأحيان إلى جانب تطبيقي يبيّن الفروق بين تجليات تلك الحدود في (النص الهدف) موضوع الترجمة.
وأشار المتحدّث، إلى أنّ الدّراسات التطبيقية لم تكن أوفر حظًا؛ إذ اكتفى معظمها بالإشارة إلى مواطن الضعف والقوّة في مظهرين لا ثالث لهما؛ اللبس في فهم النصّ الأصلي، من جهة المعنى، والمشاكل المتعلقة باللغة، من جهة الصياغة، “ولا يكاد الباحث يعثر إلا فيما ندر على دراسة تتجاوز المعنى أو اللغة، وتتنبّه إلى مسألة أخرى لا تقلّ أهمية عن هذين الجانبين، إن لم تكن تفوقهما أهميةً على الحقيقة، وهي الفجوة الثقافية أو التشويش الثقافي الذي قد تُمارسه عملية الترجمة بحق (العلامات) المرتحلة من النصّ الأصلي إلى النص الهدف، فالعلامات الثقافية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بوجهة نظر الجماعة الثقافية الحاضنة لها، تلك التي نشأت العلامة فيها وتشكّلت، ممّا أكسبها تحيزاتٍ ثقافيةً خاصّة، قد يصعب على غير أبناء الثقافة نفسِها إدراكُها، ولذلك قد يقع اللبس على المترجم، إن لم يستطع فكّ التشفير الثقافي للعلامات، أو إدراكَ مضمراتِها الثقافية.” يقول لؤي خليل.
ومن هذا المنطلق، سعى الباحث إلى دراسةٍ جديدةٍ في بابها، وفي زاوية معالجتها للترجمة، متناولا كيفية ارتحالِ العلامات الثقافية للنص أثناء ترجمته من لغة إلى أخرى، وكذا الوقوف على الاختلافات الدلالية التي قد تنشأ عن اللبس في فكّ شفرةِ العلامات وبيان تحيّزاتها الثقافية، تلك التي من شأنها إذا ما خفيت على المترجم أن تخلق ثغرات واضحةً في عملية الترجمة كلّها، بسبب التشويش الثقافي الذي قد يشوب العلامات أثناء ارتحالها.
الأنــــســــاق المــــضـــمــــرة في ســــرد الـــثــــقـــافــــة المـــــهـــــــمّــــشــــة
وفي سياق آخر، تناولت الدكتورة وسام علي الخالدي من جامعة العراق موضوع “الأنساق المضمرة في سرد الثقافة المهمّشة”، قائلة بأنّه “عند تناول سرد الثقافة المهمّشة، لا نتحدّث فقط عن أصوات مكبوتة أو روايات لم ترو بعد، بل عن نسيج ثقافي يمتدّ عبر العصور، مضمخ بتجارب الفقر، والغربة، والصراع، والحرمان”.
وأشارت إلى أنّ “تلك الأنساق المضمرة تتسلّل إلى النصوص كما تتسلّل الرياح عبر الشقوق غير مرئية، لكنّها حاضرة بقوّة تشكّل خلفية متقنة للقصص التي ترويها، إنّها معركة دائمة بين المركز والهامش بين السائد والمهمّش، حيث تلعب اللغة دور الوسيط بين الحضور والغياب.”
وأوضحت ذات المتحدّثة، أنّ الثقافة المهمّشة لا تُعلن عن نفسها بصوت مرتفع، بل تأتي في هيئة رموز وتلميحات كلمات ملغزة وأفكار تحت الرماد، تتحدّى السطحية وتطالب بالاعتراف بالأدب الذي يحتضن هذه الأنساق يعمل كمرآة عاكسة لعوالم خفية ينقب في طبقات التجربة البشرية، ويعيد تشكيل الهوية الجمعية عبر قصص الفرد المهمّش، لافتة إلى أنّ هذا السرد لا يسعى فقط إلى إظهار المعاناة، بل يُعيد الاعتبار إلى الجمال الخفيّ، إلى التفاصيل الدقيقة التي تفلت من عين المراقب العابر.
وقالت إنّ الأنساق المضمرة تعمل كالنسغ الخفي في جذور النص، تغذّيه بطاقات التجربة الحية وتثري المعنى في بعده الإنساني.
وأكّدت في النهاية، أنّ الأدب الذي يحتضن تلك الأنساق لا يقتصر على سرد الحكاية المهمّشة فحسب، بل يُحيي المعنى في جوهره، يجعله ينبض، يعيد تشكيل العالم برؤية جديدة، حيث الهامش يصبح مركزاً، والمهمّش يصير روحا حية نابضة بين السطور.”
من جهتها، حاولت الدكتورة غنية جدع من جامعة تبسة في مداخلتها “الأنساق المضمرة في سرد الثّقافة المهمّشة للأمثال الشّعبيّة: مسرديّات عز الدين جلاوجي نموذج”، الكشف عن الأنساق الثقافيّة المضمرة في كتابة تجريبيّة معاصرة هي مسرديّات الكاتب الجزائري “عز الدين جلاوجي”، انطلاقا من أبرز الأمثال الشّعبيّة التي أوردها في نصوصه استجابة لرسم جماليّة تحاوريّة بين نص اليوم وتراث الأمس، إحياء له وفقا لتصوّره الخاصّ ومنظوره الفكري، ساعية الحفر في مكنونات تلك الأمثال لإبراز أبعادها الثقافيّة الشّعبيّة وكذا الفنيّة الجماليّة والفكريّة.
وتطرّق الدكتور عبد الله مختاري في مداخلته، إلى تحليل نماذج من الأمثال الشعبية الجزائرية من منظور الأنساق المضمرة، لفهم كيفية تجسيدها لتجارب الفئات المجتمعية وتعبيرها عن طموحاتهم وتحدياتهم وفلسفاتها وطرائق تفكيرها، ساعيا لاستخراج هذه الدلالات الخفية من خلال دراسة بنية بعض الأمثال ومضامينها الثقافية والاجتماعية، في محاولة منه تسليط الضوء على الأبعاد العميقة للخطاب الشعبي ودوره في صياغة هوية تلك الفئات داخل المجتمع.