يعدّ مسرح الهواة جزءًا حيويًا وأساسيًا من مشهد الفنون المسرحية، حيث يوفر للأفراد منصّة للتعبير الإبداعي واكتشاف المواهب والمشاركة المجتمعية. وعلى عكس مفهوم الاحتراف، الذي يجتمع فيه حب المسرح والكسب المادي، يحرّك الهواة حبُهم لهذا الشكل الفني بدلاً من المكسب المالي. ولعلّ هذا الشغف هو ما يميّز إنتاجات الهواة غالبًا، ويمكنها من جمع الناس معًا لتجربة سحر المسرح.
مسرح الهواة هو مسرح أشخاص أغلبهم من غير المتفرّغين يعملون بدافع حب المسرح دون أن يكون ذلك مورد رزق لهم. لذلك فإنّ تسمية مسرح الهواة ترتبط بطبيعة العاملين فيه وبأسلوب تنظيمه أكثر من ارتباطها بشكل مسرحي معيّن أو بشكل محدّد من التلقّي، تقول د.ماري إلياس ود.حنان قصاب حسن في تعريفهما لمسرح الهواة.
الخـــصـــائـــص والـــتــــطـــــوّر
من السمات المميّزة لمسرح الهواة الشغف والتفاني الذي يميّز الفاعلين فيه..وعلى عكس الممثلين المحترفين الذين قد يكون لديهم تدريب وخبرة رسمية، غالبًا ما يأتي المؤدّون الهواة من خلفيات ومستويات مهارة متنوّعة، ويجلب هذا التنوّع طاقة وحماسًا فريدين لإنتاجات الهواة. كما يمتاز هذا المسرح بالشعور بالمجتمع والتعاون الذي يعزّز تماسكه، وعلى عكس الإنتاجات الاحترافية حيث قد يأتي الممثلون ويذهبون، غالبًا ما ينطوي مسرح الهواة على مجموعة متماسكة من الأفراد. ويوفر مسرح الهواة فرصة لاستكشاف المواهب وتطويرها، ويعتبر منصّة للتعبير عن الذات وصقل المهارات وبناء الثقة. وتجمع الإنتاجات المسرحية الهاوية الناس معًا لتجربة سحر المسرح الحي، وإثارة النقاش، وإلهام الخيال، وتعزيز الشعور بالارتباط الثقافي.
ولا يفترض من مسرح الهواة تقديم أعمال مكتملة تقارن بأعمال المحترفين، لكن في الوقت نفسه، لا تحمل تسمية مسرح الهواة معنى انتقاصياً، ففي كثير من الأحيان كان مسرح الهواة نواة حركات التجريب التي أغنت المسرح وجدّدته، وفي الغرب كانت ثورة على الأشكال التقليدية التي تقدّمها المسارح المحترفة.
وكثيرا ما ارتبط مسرح الهواة بإطار ما، مدرسي أو جامعي أو نقابي، أو بنوادٍ ثقافية واجتماعية وخيرية. كذلك، يمكن أن يُقدّم عروضه بإشراف مخرج من المحترفين، أو يأخذ صيغة الإبداع الجماعي. ولهذا تأثيره على طبيعة تشكل الفرق وديمومتها، إذ كثيرا ما تظهر وتنحلّ بسرعة. وتقدّم عروض الهواة عادة في أمكنة مختلفة باختلاف الظروف المادية لهذه الفرق، أو على هامش المهرجانات والاحتفالات، وهناك في يومنا هذا مهرجانات مخصّصة لعروض الهواة.
عُرفت صيغة مسرح الهواة منذ القدم دون أن تحمل هذه التسمية، لأنّ مفهوم الاحتراف لم يكن قد تبلور بشكله الحديث. ففي الحضارة الرومانية كانت مشاركة الفئات الأرستقراطية في العروض المسرحية الخاصّة أقرب ما يكون إلى صيغة مسرح الهواة، لأنّ احتراف التمثيل كان قسرًا على العبيد. كذلك، فإنّ العروض التي قدّمها طلاب الجامعة في أوروبا القروسطية، كانت من أشكال هذا المسرح.
واعتبارا من القرن التاسع عشر، تبلورت صيغة مسرح الهواة بشكلها الحديث. وقد لعب مسرح الهواة، في أنحاء كثيرة من العالم، دورا أساسيا في إرساء التقاليد المسرحية في بعض البلدان (دول شمال أوروبا وعلى الأخصّ فنلندا)، وفي خلق طابع محلي له من خلال المزج بين أشكال الفرجة المحلية وبين الصيغ الغربية الطليعية، وفي إدخال التجريب على مسرح أخذ طابعا تقليديا عند نشوئه وسارت به الفرق المحترفة باتجاه الترفيه والتسلية (البرازيل وبعض البلدان العربية).
وفي بعض الدول، تطوّر مسرح الهواة ضمن معطيات خاصّة: فقد كانت المسابقات التي تنظّم للهواة لاختيار أفضل العروض حافزا لإبداع صيغ مسرحية تجريبية في هولندا مثلا. وفي روسيا، كان لمسرح الهواة بعد ثورة 1917 طابع خاصّ، فقد أطلق عليه اسم مسرح الإنتاج الذاتي. وفي فترة الحرب الأهلية أفرز هذا المسرح شكلا خاصّا هو المسرح التحريضي. واعتبارا من 1935، وتحديدا في الفترة التي أطلق فيها شعار ثقافة البروليتاريا Proletkult انبثق عن مسرح الهواة مسرح الشبيبة العمالية، الذي شكّل منبرا للهجوم على المسرح المحترف الذي اعتبر وقتها نتاجا للثقافة في المجتمعات الرأسمالية.
في البلاد العربية، نشأ المسرح بمبادرة من هواة كانوا يمارسون أعمالاً أخرى إلى جانب عملهم بالمسرح. في مرحلة لاحقة، وبعد أن اعتادت الفرق المحترفة تقديم عروض “البولفار” و«المنوّعات”، كان لتأسيس النوادي والجمعيات في الخمسينيات دوره في نشر الحركة المسرحية بعيدا عن الاحتراف، وفي إدخال التوجّه التجريبي. واعتبارا من الستينيات، ولا سيما في شمال إفريقيا، لعبت فرق الهواة دورا هاما في تجديد “الربرتوار” وتغذية المسرح بدماء جديدة.
مـــســـرح الــــهــــواة في الجــــزائـــــــر
يعتبر المهرجان الوطني لمسرح الهواة لمدينة مستغانم التظاهرة الأهم على الإطلاق في مسرح الهواة الجزائري. والمهرجان تظاهرة ثقافية عريقة على المستويين الإفريقي والعربي، وقد نُظّم لأول مرة في خريف 1967، وقد سهر على إطلاقه جمع من محبّي المسرح. وعرف المهرجان عدّة محطّات في مسيرته، منها إسهام الكشافة الإسلامية الجزائرية إلى جانب نقابة المبادرة والسياحة في الإشراف على التنظيم منذ الطبعات الأولى إلى غاية بداية السبعينيات، ثم تولّى الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية مهمّة تنظيم المهرجان تحت غطاء حزب جبهة التحرير الوطني إلى غاية سنة 1990، قبل أن يتم اعتماد محافظة للمهرجان.
وقد أسهم مسرح الهواة في تطوير الحركة المسرحية بالجزائر، من خلال تزويد المسرح المحترف بالعديد من الطاقات الإبداعية، بل وبالتأسيس لأنواع أخرى من المسرح. مثلا، يعتبر الأكاديمي والناقد والكاتب المسرحي أ.عبد المالك بن خلاف (جامعة سكيكدة)، في حوار سابق لـ«الشعب”، أنّ حركة مسرح الهواة أسّست لمسرح الشارع، وبفعل حرمانها من القاعات، اضطرّت الفرق إلى عرض إنتاجها في الشارع، ومن هنا اضطرّت هي الأخرى إلى أن تصمّم عروضها وفقا لهذه الضرورة.
وحينما سألناه عن دور هذا النوع من المسرح في إعادة الجمهور للفن الرابع، أجاب: “قد فعلها المسرح الهاوي في السبعينيات والثمانينيات (في الجزائر) حين خرج إلى الشارع. يمكن الجزم إنّ أكبر مساهمة قدّمها مسرح الهواة هو توسيع رقعة الجمهور، بحيث أنّه كان هو من يذهب إلى الجمهور، وبهذا أوصل المسرح إلى مناطق كانت لا تعرف هذا الفن بالأساس. وممّا ساعد على ذلك هو أنّ هذه الفرق كانت مرنة في تنظيمها وخفّفت من تجهيز خشبتها، ما سمح لها بأن تعرض في أيّ مكان: ساحات عمومية، ساحات مدارس، طريق...بالإضافة إلى أنّ هذه الفرق كانت تنظر إلى الفعل المسرحي، فهي كانت تتطرّق لمواضيع على ارتباط وثيق مع الجمهور، ما جعله يلتفّ حولها، ومن هنا يمكن أن نقول إنّ الرجوع إلى هذا النوع من المسرح بتقنيات حديثة سيعيد الجمهور إلى المسرح.”
ولخّص الكاتب المسرحي إدريس قرقوة أهم إسهامات مسرح الهواة في المسرح الجزائري في: تقديم كمّ كبير من الأعمال المسرحية الإبداعية والمقتبسة، والتمكّن من أن يخلق جمهورا مسرحيا يهتم ويتابع النشاط المسرحي، والانتقال بالمسرح من المدن الكبرى إلى القرى والأرياف في شكل فرق مسرحية وجمعيات بدور الشباب، والانتقال بالمسرح إلى المدرسة والجامعة، كما أنّه أمدّ مسرح الهواة المسرح المحترف بمعظم كوادره الفنية.
أفـــــكـــــار.. لــــلــــمــــســــتــــقــــبـــــــل
من جهته، طرح المسرحي حليم زدام “اقتراحات لخلق استراتيجية ناجعة لإصلاح وتطوير حركة مسرح الهواة بالجزائر”، بإعادة تفعيل مهرجان مسرح الهواة بمستغانم خصوصا، ومن ورائه المسرح الهاوي الجزائري عموما.
مثلا، اقترح زدام تنظيم مهرجانات جهوية (الوسط، الشرق، الغرب، الجنوب الشرقي، الجنوب الغربي، وجنوب وسط البلاد) على مدى ثلاثة أيام، بالاتصال مع مديريات الثقافة، من أجل فتح المجال لأكبر عدد من الفرق للمشاركة في التصفيات، وتحفيز المنشطين لإنشاء فرق مسرحية. ورأى زدام أن يشارك أحسن عرض في المهرجان مباشرة في المهرجان الوطني للمسرح المحترف بالجزائر، والمهرجان الدولي للمسرح ببجاية، كما يقترح للوزارة للمشاركة في مهرجان خارج الوطن باسم مهرجان مستغانم لمسرح الهواة.
ومن الاقتراحات أيضا، فتح فضاءات جديدة خارج إطار القاعات لمشاهدة تجارب جديدة أو عروض أخرى خارج إطار المسابقة (مسرح الشارع، مسرح “المحاولة”، تجريب،...)، إلى جانب إنشاء سوق حرّة لكلّ العروض المشاركة، بحضور مديري المسارح، ومديري مهرجانات وطنية ودولية، ومخرجين...يتم فيها عرض مقترحات عروض جديدة وبرمجة دورات فنية وتحديد مشاركات في المهرجانات.
واقترح زدام فتح سوق للنصوص المسرحية، يشارك فيها كتّاب مسرحيون وطنيون وأجانب إن أمكن، مع إمكانية برمجة قراءات عروض “lectures spectacles” في أماكن أو فضاءات جديدة.
كما تطرّق زدام إلى مسألة التكوين والتربّصات لفائدة الهواة، وفيما يخصّ التربّصات التي تكتسي أهمية كبيرة للتكفل بالفرق الهاوية تقنيا وتوجيههم توجيها أكاديميا، ثمّن صاحب المساهمة إجراء تربّصات دورية (كلّ ثلاثي على الأقلّ) تكون جهوية حسب الجهات المذكورة أعلاه (أيّ 06 جهات) تتمحور حول جانبين فقط هما: إعداد نصّ مسرحي، وأبجديات التمثيل، وتدوم ثلاثة أيام على الأقلّ، ويؤطّرها مختصّان اثنان يتم تعيينهما حسب كفاءتهما في الميدان.
كما يجب أن يحظى مهرجان مستغانم، يقول زدام، بتنظيم خاصّ وتشريع خاصّ به بصفته “موروثا ثقافيا وطنيا”، وبالتالي إعلان المهرجان الوطني لمسرح الهواة بمستغانم “مكسبا وطنيا (إرثا وطنيا) patrimoine national” وجب على الدولة المحافظة عليه مهما كانت المتغيّرات، وحمايته والعمل على تطويره.